فشل الانقلاب يهدد علمانية تركيا المدعومة دوما بالانقلابات الناجحة

إسطنبول – المتابع لتداعيات حدث الانقلاب الفاشل الذي عاشت على وقعه تركيا في ساعة متأخرة من الجمعة 15 يوليو 2016، يقف أمام قراءتين مترابطتين؛ تتعلق الأولى باستغلال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لهذه العملية ليحكم قبضته على البلاد ويمضي قدما في طموحاته الرئاسية المطلقة، وهو مشروع لا ينفصل عما تحمله القراءة الثانية من ربط لما حدث بالصراع الأيديولوجي بين الأتاتوركيين والعثمانيين وتأثيرات ذلك على مستقبل الحياة في البلاد.
ويعتبر البعض أن أبرز دليل على هذا الصراع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد أيام قليلة، من الإعلان عن فشل الانقلاب، وفي خضم الاضطرابات التي تعيش على وقعها البلاد، أنه سيمضي قدما في مشروع إحياء الوجه العثماني لمدينة إسطنبول عبر إقامة ثكنات عسكرية عثمانية وهدم مركز أتاتورك الثقافي.
ولا يمكن قراءة الإعلان عن هذا المشروع وفي مثل هذا الوقت بالذات بمعزل عن كل التطورات التي تعيش على وقعها تركيا منذ أن تحول أردوغان من رئيس الوزراء “المحبوب” إلى الرئيس المتسلّط الذي يبحث عن دور أكبر ونفوذ كامل، يرى مراقبون أنه سيعمل على تحقيقه مستغلا فشل الانقلاب.
وتعهد أردوغان بإحياء خطط تستهدف منتزها في إسطنبول أثارت احتجاجات مناهضة للحكومة عام 2013 قائلا إن الثكنات ستكون متحفا للمدينة. وأكّد لأنصاره في تصريح وصف بالمستفز “سنبني ثكنات ملائمة من الناحية التاريخية في تقسيم شاؤوا أم أبوا“. وقال إنه سيهدم مركز أتاتورك الثقافي لينشئ أول دار للأوبرا بميدان تقسيم، بالإضافة إلى جامع مفتوح، الأمر الذي وصفه المراقبون بأنه محاولة لإظهار التحدي بعد أن حاولت مجموعة في الجيش الإطاحة به يوم 15 يوليو. ولو تم تنفيذ هذا المشروع فإنه سيكون ضربة قوية لتركيا الكمالية العلمانية.
بين أتاتورك وأردوغان
نجح الضابط في الجيش التركي مصطفى كمال ومجموعة من الضباط والمثقفين المتأثرين بالثقافة الغربية الصاعدة، في عشرينات القرن الماضي، في إجهاض ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية والدفع نحو ولادة الجمهورية التركية العلمانية. وأغلق يوم 29 أكتوبر 1923 الباب العالي، في إسطنبول، بعد أن ظلّ لقرون طويلة مركز السلطة والقرار العثماني وتحوّلت أنقرة إلى عاصمة الدولة التركية الحديثة.
التخلص من كمال أتاتورك هدف استراتيجي طويل المدى في مخططات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
وبقيام الجمهورية، ابتعدت تركيا بشكل راديكالي عن كل ما يربطها بالإمبراطورية العثمانية، إذ ألغى الحكّام الجدد الملكية، وفصلوا بين الدين والسياسة العامة والحكومة، وعصّروا بيروقراطية الدولة التركية، وعزموا على تحويل تركيا إلى بلد متطوّر على الطريقة الأوروبية، لكن بقي جانب واحد من النظام العثماني لم يتغير ألا وهو بقاء مؤسسات الدولة والإدارة تحت سلطة النخبة الحاكمة، وهي في ذلك الحين الإطارات العليا في حزب الشعب الجمهوري الذي يرأسه كمال أتاتورك، والمؤسسة العسكرية التي نصّبت نفسها حامية حمى تركيا العلمانية، وظلت فوق المساءلة ومنافسا قويا أسقط العديد من الحكومات وأجبر المسؤولين على الاستقالة ونفّذ انقلابات عسكريّة ناجحة.
لكن، رغم أنه وضع أسس نظام سلطوي، إلا أن مصطفى كمال، الذي لقّب بأتاتورك، أي “أبوالأتراك”، نجح بشكل كبير في أن يؤثّر في تركيا، التي يشكل المسلمون حوالي 96 بالمئة من سكّانها. وكان الحاكم الفعلي لتركيا، حتى بعد رحيله، ومع تعاقب الحكومات والرؤساء. واليوم أينما وليت وجهك في تركيا تجد صور أتاتورك، داخل المؤسسات الرسمية وفي الساحات والشوارع الرئيسية، وعلى طول مضيق البوسفور، وعلى الجدران الخارجية للقصور العثمانية، وفي المحلات ومراكز التسوق.
مكان واحد رسمي فقط لم توجد فيه صورة أتاتورك، وهو القصر الرئاسي الذي دشّنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نهاية العام الماضي، ليعيد بعد حوالي قرن من الزمن، الملامح العثمانية لتركيا، ويدخلها في جدل وانقسام. وقد أثار غياب صورة أتاتورك في ذلك الوقت انتقادات كثيرة في صفوف العلمانيين الذين ثاروا باعتبار أن أتاتورك هو الزعيم الروحي للعلمانية التي اصطبغت بها مؤسسات الدولة منذ سقوط الخلافة العثمانية، وكذلك انتقدت الأحزاب هذا الأمر باعتباره يتعارض مع التقاليد المتبعة في كافة مؤسسات تركيا منذ عشرات السنين.
وتغييب صورة أتاتورك من قصر رجب طيب أردوغان يلخّص طبيعة التوجه السياسي في تركيا في عهد أردوغان، الملقب بالسلطان، ومحاولاته التخلص من إرث أتاتورك، الذي يقول عنه الباحث في الشؤون السياسية الدولية أشرف كمال إنه هدف استراتيجي طويل المدى في “تركيا أردوغان”، حيث يسيطر وهم الخلافة على عقل أردوغان، الذي لا يختلف في بعض النواحي عن أتاتورك نفسه، من حيث البحث عن السلطة والانفراد في الحكم والتخلص من الماضي.
تقسيم العثمانية
كان رئيس الوزراء التركي السابق رجب طيب أردوغان محل تقدير من الأتراك والمجتمع الدولي، لكنه لم يعد كذلك في السنوات الأخيرة التي كان فيها رئيسا للوزراء ثم بعد أن أصبح رئيسا للدولة التركية، حيث بات واضحا ميله نحو الاستبداد.
وانكشف هذا الوجه بالأساس سنة 2013 مع اندلاع موجة عنف حين قاد ناشطون بيئيون احتجاجات ضد إعادة إنشاء ثكنة عسكرية عثمانية، هدمت في سنة 1940، في ميدان تقسيم وتطورت الاحتجاجات إلى أعمال شغب بعد أن هاجمت قوات الشرطة المحتجين. واتسعت المظاهرات حينها إلى عدد من المدن مثل أنقرة وإزمير وتحولت إلى مسيرات مناوئة لسياسة الحكومة.
تغييب صورة أتاتورك من قصر رجب طيب أردوغان يلخّص طبيعة التوجه السياسي في تركيا في عهد أردوغان، الملقب بالسلطان، ومحاولاته التخلص من إرث أتاتورك
وواجهت قوات الأمن بالعنف والقمع الملايين من المواطنين الأتراك الذين توافدوا على ساحة تقسيم للاحتجاج على خطط لإزالة متنزه جيزي وبناء مركز للتسوق. وتحول هذا التحرك إلى احتجاجات أوسع شارك فيها الملايين ضد ما اعتبروها نزعة سلطوية من أردوغان وواجهوا حملة دموية وأجل الرئيس خطته للمشروع.
وجاءت الفرصة مناسبة للمضي قدما في تنفيذه مع الانقلاب الفاشل الذي تحذّر مؤسسات المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية التركية من تداعياته على حقوق الإنسان في البلاد، متوقعة أن تطلق الحكومة حملة تصفيات سياسية كبرى.
وقال الرئيس التركي “إذا أردنا حماية تاريخنا، علينا إعادة بناء هذا المبنى التاريخي، سنعيد بناء ثكنة عثمانية قديمة تعود إلى القرن التاسع عشر، على أن يتم بناء مسجد قريب منها أيضا”.
وينظر معارضو مشروع المسجد العثماني الذي يرغب أردوغان في إقامته في ميدان تقسيم أو الثكنة العسكرية العثمانية، على أنه محاولة لإعادة كتابة التاريخ الرسمي واستبدال الذاكرة العلمانية بأخرى إسلامية، وكان أردوغان اختلف مع مهندس المسجد لكون الأخير يود إضفاء لمسات معمارية عصرية عليه في حين أن أردوغان يريده عثمانيا بالكامل.
ويأتي تركيز أردوغان على هذه المنطقة بالذات نظرا لرمزيتها، حيث تمثل ساحة تقسيم مركز المدينة الحديثة ويوجد فيها نصب الجمهورية، كما أن لإسطنبول مكانة خاصة عند أردوغان الذي ظل لسنوات عمدتها، ومن هذا المنصب نجح في ترسيخ سلطته إلى أن أصبح رئيسا للوزراء ثم رئيسا للدولة.
ويعتبر ميدان تقسيم ساحة رئيسية للمظاهرات والاحتجاجات، حيث يجتمع فيه الناشطون والجماعات من شتى ألوان الطيف السياسي والمنظمات المدنية ومختلف الأقليات.
وتمنع جميع أشكال التظاهر الجماعي في الميدان وتواجد الشرطة على مدار الساعة بسبب حوادث العنف والاصطدامات التي تؤثر على الميدان الذي أصبح قبلة سياسية رئيسية في إسطنبول، إلا أن الساحة ظلّت مركز تحركات الكثير من المظاهرات ومركز تجمع رئيسي في عيد العمال. كما تعرف الساحة أيضا بأنها مكان لتجمع مجموعات من الأتراك والسياح للاحتفال بليلة رأس السنة أو متابعة مباريات كرة القدم على شاشات كبيرة، لتتخذ التجمعات بعدا آخر زاد من خصوصية ساحة تقسيم.
وأطلق على هذه المنطقة الرابطة بين القسم الأوروبي والقسم العثماني لإسطنبول، اسم ميدان تقسيم السلطان محمود الأول حيث كانت نقطة تجمع خطوط المياه الرئيسية والتي يتفرع منها إلى باقي المدينة. ومن أبرز معالم الميدان شارع الاستقلال، الذي كان يسمى في عهد العثمانيين بالشارع الكبير، لكن تم تغييره إلى شارع الاستقلال بعد إعلان الجمهورية يوم 29 أكتوبر عام 1923.