فسيفساء الألوان في سوق الخيامية المصري تفقد خاصية إبهار الزوار

الحرفيون يتركون "مهنة الصبر" لتجارة مربحة بعدما صار الكثيرون يهجرونها بحثا عن عمل أكثر دخلا وإيرادا.
الجمعة 2019/01/25
يتفرجون ولا يشترون

ترتبط العديد من المهن التراثية بتدفق  السياح في بلدان عربية مثل المغرب وتونس ولبنان، وقلة قليلة من المهتمين بهذه المنتجات كديكورات يستعملونها في بيوتهم، ففي مصر تراجعت المنتجات الخيامية التي انشغل عنها المصريون بمنتجات عصرية وزاد تراجعها مع ندرة السياح الذين تراجع عددهم منذ أحداث 2011، لكن رغم ذلك مازال بعض الحرفيين متشبثين بهذه المهنة محاولين الحفاظ عليها من الاندثار.

القاهرة - في سوق الخيامية يتابع الحرفيّ محسن وزملاؤه بقلق تراجع حرفتهم العائدة إلى الآلاف من السنين بعدما صار الكثيرون يهجرونها بحثا عن عمل أكثر دخلا وإيرادا، لكنهم مصممون على المحافظة عليها من الاندثار.

سوق الخيامية هو السوق المغطى الوحيد الذي بقي من العصور الوسطى، وتمت تسميته بهذا الاسم نسبة إلى ألوانه الزاهية، ويضم العديد من المنتجات اليدوية كأعمال التطريز، وصنع الوسائد والأغطية، وصنع المكرميات، وأغطية السيارات، والجلابيب المصرية التقليدية.

ومنذ نصف قرن، يقوم محسن الخيامي البالغ من العمر 68 عاما، والذي يعتبر من أمهر العاملين في هذه الحرفة العريقة، بتطريز الأقمشة يدويا. وبسبب وفائه لحرفته وارتباطه بها طوال هذا الزمن سمّاه زبائنه باسمها.

ويقول “تعلمت هذه الحرفة عندما كنت في الثامنة، واحتجت سنوات عدّة كي أتقنها، وأتمكن من تطريز بساط كامل بمفردي”.

والخيامية حرفة تعتمد على الصبر والمهارة ووجود ذائقة فنية تتيح للصانع تلمّس التناغم بين الألوان والقماش واختيار التصميم المناسب، ووضع قطع التراكيب إلى جوار بعضها في انسجام بديع.

ويؤكد محسن أن “الخطأ في الخيامية ممنوع ويكلف الصانع في حال وقوعه سهوا الكثير من الجهد والوقت والمال أيضا، فالقماش والخيوط المستخدمة لا يصلح استخدامهما من جديد في حال الخطأ”…

ويضيف أن الخيامية مهنة أقرب إلى الإبداع، فهي بالغة التعقيد، فالقطعة الصغيرة المربعة مقاس 50 سم في 50 سم يستغرق العمل بها مدة ثلاثة أيام من التاسعة صباحا حتى منتصف الليل، فما بالك بالمفروشات التي تصنع بمقاسات كبيرة تصل إلى 10 أمتار.

وإلى جوار متجر محسن الخيامي يوجد أكثر من عشرين دكّانا آخر يعمل أصحابها في الحرفة ذاتها في الشارع المغطى المعروف باسمهم “الخيامية”.

وشكّل هذا الشارع مصدر جذب للسياح لعقود طويلة، وهو يقع قبالة باب زويلة، أحد أبواب القاهرة القديمة الذي يعود إلى القرن الحادي عشر للميلاد.

في انتظار الزبائن
في انتظار الزبائن

وكان يتكون من طابقين، ويغلق ليلا ويفتح في النهار، وأماكن الورش التي تتواجد فيها الآن كانت قديما إسطبلا للخيول، والطابق الذي يعلوه كان يمثل مكانا لمبيت التجار الذين يأتون من المغرب والشام.

وقد كانت لهؤلاء التجار خيام يستخدمونها في سفرهم، وكانوا يعملون على إصلاحها في تلك المنطقة، كما كان يحرص كل منهم على أن تختلف خيمته عن الخيام الأخرى، كما كان المسافرون يستخدمون عربات تجرّها الخيول وكان قماش الخيام المطرز يغطي هذه العربات ليقي ركابها من شمس الصحراء الحارقة، ومن هنا بدأت حرفة الخيامية.

وكانت منتجاته من أكثر المنتجات الحرفية المصرية مبيعا، لكن الأمور تغيّرت بعد ثورة العام 2011، فقد أدى الاضطراب السياسي والأمني الذي أعقبها إلى تراجع السياحة في مصر، وبالتالي تراجع الطلب على منتجات الخيامية على نحو كبير.

غير أن محسن خيامي مازال يجاهد للحفاظ على مهنته، وهو يعرض على جدران دكّانه منتجاته الملوّنة المطرزة برسوم فرعونية أو بخطّ كوفي أو آيات قرآنية أو أمثال عربية أو حكايات جحا.

ولا يعرف بالتحديد متى بدأت حرفة الخيامية، فالبعض يرى أنها بدأت مع بداية عهد الفتح الإسلامي لمصر، حيث كان العرب الفاتحون يميلون إلى إقامة الخيام للإقامة فيها، لكن بعض المؤرخين يقولون إنها ظهرت في زمن الفراعنة.

واليوم مازالت أقمشة الخيامية تستخدم لصنع الخيام الكبيرة للأفراح أو للعزاء في الأماكن المفتوحة وكذلك لإقامة مآدب الإفطار والسحور في شهر رمضان أو لبيع الحلوى في ذكرى المولد النبي الشريف.

ويقول الخيامي، إن عدد العاملين في هذه الحرفة في الشارع انخفض في العقود الثلاثة الماضية من ستين إلى عشرين، ويؤيّده في ذلك ممدوح الشربيني، المدير التنفيذي لغرفة الحرفيين.

ويثير انخفاض الطلب على هذه المنتجات مخاوف الحرفيين، من أن تكون مهنتهم في سبيلها إلى الاندثار، ولاسيما لأن الشباب يُعرضون عن تعلّمها ويفضّلون أعمالا ذات دخل أكثر استقرارا.

ويقول محسن، إن جيل الشباب يسعى إلى البحث عن مهن سهلة لا تحتاج إلى جهد كبير كالخيامية التي ترهق البصر والبدن معا وعائدها المادي قليل مقارنة مع مهن أخرى.

وبحسب الخيامي، فقد تزايدت وتيرة التخلي عن المهنة منذ العام 2011، ويقول “الشباب ليس لديهم الصبر لتعلم فنّ الخيامية الذي يتطلب إتقانه وقتا، وهم لا يستطيعون أن يتحملوا مثلنا تقلبات السوق صعودا وهبوطا”.

ويؤكد عبدالله فتحي، وهو حرفي آخر في الخيامية، أن الكثيرين يتركون الحرفة لبدء تجارة أخرى أو البحث عن عمل آخر.

تراجع السياح يحيل التجار على كراسي الانتظار
تراجع السياح يحيل التجار على كراسي الانتظار

ويمضي عبدالله يوما كاملا لتطريز قطعة قماش صغيرة. وتحتاج القطع الكبيرة البالغ طولها أمتارا عدّة إلى شهر أو أكثر بحسب دقّة التصميم. وهي تباع بما بين خمسين جنيها (أقل من ثلاثة دولارات) وبضعة آلاف.

ورغم تراجع السوق، فإن عبدالله يرفض التخلي عن حرفته. ويقول “لو بدأ العاملون في الخيامية بتركها واحدا بعد الآخر، فإن الحرفة قد تندثر قريبا”.

ويسعى الحرفيون إلى تسويق منتجاتهم في السوق المصرية، لكنهم يتحسّرون على الأيام التي كانت متاجرهم تزدحم فيها بالسياح.

ويقول محمود فتوح البالغ من العمر 48 عاما في متجره الذي تملكه عائلته منذ العشرينات من القرن الماضي، “كان السياح يشكلون 98 بالمئة من زبائننا”.

ويضيف، أن السياح كانوا يتوافدون على السوق لقربه من مناطق الآثار الإسلامية وكان يسحرهم الطراز المعماري الذي يميّز السوق المسقوف كما أنه يختص في تصنيع وبيع المشغولات اليدوية وكانوا ينبهرون بإبداعات الخيامية اليدوية خاصة تلك الأقمشة التي تحتوي على رسوم فرعونية وإسلامية، فيقدمون على شرائها كتذكار جميل، لكن اليوم لا يأتي إلا القليل منهم.

ويُظهر قطاع السياحة بعض التحسّن منذ أواخر العام 2017، لكن نشاط سوق الخيامية مازال بعيدا عما كان عليه قبل العام 2011.

ولا توجد أرقام حاليا عن السياحة الرسمية للعام 2018، ولكن في ديسمبر الماضي، قال رئيس اتحاد الشركات السياحية المصرية حسام الشاعر إن عدد السياح ازداد بنسبة 40 بالمئة في 2018 مقارنة بالعام السابق الذي بلغ فيه عدد السائحين ثمانية ملايين و300 ألف.

غير أن هذه الأرقام أعلنت قبل انفجار قنبلة في حافلة سياح بالقرب من أهرامات الجيزة في 28 ديسمبر مما أدى إلى مقتل ثلاثة سياح فيتناميين.

ويقول الشاعر إن الهدف خلال العام 2019 هو زيادة عدد السياح بنسبة 30 إلى 40 بالمئة. ويقول خيامي “لا نرى اليوم سوى القليل من السياح فقط.. لكن هذا أفضل من لا شيء”.

20