فرنسا أمام صيف حار وحرائق متوقعة

تواجه القارة الأوروبية تغييرات مناخية تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة التي تخلف وراءها ندوبا اجتماعية واقتصادية وطبيعية كما حدث في فرنسا خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين. وتتحسّب باريس هذه السنة لمواجهة الحرائق في غاباتها التي تسعى لإعادة تشجير ما احترق منها وتجديدها بأنواع مقاومة للحرائق.
جوانا جيل
لا تاست دو بوك (فرنسا) - أصبحت أشجار الصنوبر الممتدة على طول ساحل فرنسا الجنوبي الغربي الأطلسي جذوعا متفحمة وأكواما من الأخشاب السوداء بسبب الحرائق الهائلة التي دمرت مناطق غابة لاند السياحية الصيف الماضي. وشملت الحرائق أكثر من 30 ألف هكتار من الغابات في شهري يوليو وأغسطس 2022، مما حطّم رقما قياسيا لم تشهده البلاد منذ أن ضربت الحرائق الضخمة المنطقة في 1949.
وكانت ندوب المجتمع المحلي عميقة كتلك البارزة في الطبيعة. وقال باتريك دافيه رئيس بلدية لا تاست دو بوك "كانت الصدمة جماعية"، وغادر الآلاف منازلهم حيث هددت حرائق العام الماضي البلدة التي يبلغ عدد سكانها 26 ألف نسمة. وصرّح أن هناك "أشخاصا تركوا حقائبهم جاهزة للمغادرة في أي لحظة منذ الصيف الماضي".
ترك فصل الشتاء الجاف بشكل غير عادي الغابات الجافة عبر جنوب أوروبا (من البرتغال إلى فرنسا) معرضة لخطر الحرائق مما أثار مخاوف من تكرار كوارث 2022، حين دُمّر أكثر من 785 ألف هكتار في جميع أنحاء أوروبا، أي أكثر من ضعف المتوسط السنوي المسجّل خلال السنوات الـ16 الماضية حسب بيانات المفوضية الأوروبية.
وعلى الصعيد العالمي، من المتوقع أن يؤدي ارتفاع درجات الحرارة وتغيّر استخدام الأراضي إلى زيادة بنسبة 50 في المئة في عدد حرائق الغابات الكارثية بحلول سنة 2100، وفقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وتبحث الحكومات في جميع أنحاء العالم عن أفضل السبل لحماية غاباتها ومجتمعاتها المحلية من التهديد.
كما تواجه خيارات صعبة في ما يتعلق بإعادة تشجير المناطق المحترقة وتجديدها، بما في ذلك أنواع الأشجار التي يجب استخدامها وما إذا كان يمكن إدخال أنواع جديدة لجعل الغابات أكثر مقاومة للحرارة الشديدة ومخاطر الحرائق.
وفي غابة لاند التي تبلغ مساحتها مليون هكتار، وهي أكبر غابات من صنع الإنسان في أوروبا الغربية، يمثل الصنوبر البحري 87 في المئة من الأشجار. وزُرعت منذ حكم نابليون الثالث في القرن الثامن عشر لتثبيت الكثبان الرملية وإعداد التربة للزراعة.
صيف صعب
يعتبر الصنوبر اليوم مادة خاما رئيسية لصناعات البناء والورق، بينما يستخدم صمغها (الراتنج) في الصبغ والطلاء. ويوفر قطاع الغابات في منطقة نوفيل أكيتان 50 ألف وظيفة وتتجاوز إيراداته السنوية 10 مليارات يورو (10.8 مليار دولار). لكن الصنوبر قابل للاشتعال، وتتكون المزارع أحادية النوع الشائعة من مساحات كبيرة من الأشجار ذات العمر والارتفاع المتشابهين، مما يسمح بانتشار الحريق بسهولة.
وقال النجار المحلي كليمان روفاستي خلال فترة استراحة من إصلاح الأضرار الناجمة عن الحرائق في مطعم بالقرب من بحيرة كازاوكس "حذّر شيوخنا لمدة أربعة أجيال من أن النيران ستشتعل في غابة الصنوبر، وكانوا على حق. إن صمغ الصنوبر هو كالبنزين، يضيء مثل الشعلة بمجرد أن تشتعل النيران في الشجرة".
لم تقتصر حرائق الصيف الماضي على تدمير الأشجار فقط، بل دمرت الآفاق الاقتصادية للأعمال السياحية في نوفيل أكيتان، وهي من إحدى الوجهات السياحية الرائدة في فرنسا. وشهدت أرباح صناعة الضيافة في المناطق المتضررة من الحرائق انخفاضا يقدر بنحو 40 في المئة، وفقا لاتحاد المهن والصناعات الفندقية الفرنسي. وتنتشر مخاوف من أن تشهد سنة 2023 تراجعا آخر.
وكان إريك ويندل الذي يمتلك العشرات من المنازل المتنقلة في موقع تخييم على ضفاف بحيرة كازاوكس، محظوظا حيث توقفت النيران على بعد 12 كيلومترا على الضفة الأخرى، لكن كان عليه إقناع المصطافين بعدم إلغاء الحجوزات طوال شهري يوليو وأغسطس، قائلا "لا يمكننا تحمل خسارة الزبائن خلال الفترة التي نكسب فيها رزقنا".
ودُمّرت خمسة معسكرات تخييم تقع على طول أعلى الكثبان الرملية في أوروبا وهي تستضيف عادة ما يصل إلى 6 آلاف شخص يوميا خلال موسم الصيف. ومن المقرر أن يستقبل المنظمون نصف الأعداد المعتادة هذا العام. وقال رئيس البلدية دافيه "سيواجهون صيفا صعبا، وسيعانون لمدة عام أو عامين آخرين". واعتبر أن توعية الناس أمر أساسي لمنع الحرائق مع تزامن ذروتها مع ذروة موسم السياحة.
وكانت 90 في المئة من الحرائق ناجمة عن الأنشطة البشرية مثل السجائر المهملة أو الألعاب النارية أو حفلات الشواء غير المراقبة. وتشمل الإجراءات التي ستُعتمد هذا الصيف حظر التدخين في مناطق الغابات، والتواصل لإبلاغ عن الظروف الجوية التي تزيد من مخاطر الحريق، ودوريات الشرطة الإضافية.
تعدّ الوقاية من احتراق الغابات أساسية لحماية البشر والمداخيل، ولخفض انبعاثات حرارة الكوكب، حيث تطلق الأشجار الكربون الذي تخزنه حين تحترق. وبلغت انبعاثات حرائق الغابات في أوروبا العام الماضي 6.4 ميغا طن من الكربون، وهو ما يعادل تقريبا الانبعاثات السنوية لخمسة ملايين سيارة، وفقا لخدمة كوبرنيكوس لمراقبة الغلاف الجوي في الاتحاد الأوروبي.
إعادة التشجير
بينما تتعدّد طرق تخفيف التهديد على المدى القصير، يستمر الجدل حول كيفية جعل الغابات أكثر أمانا في المستقبل. وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يوليو الماضي عن خطة إعادة تشجير كبيرة تهدف إلى زراعة مليار شجرة على مدار العقد المقبل، حسب الأنواع والمواقع التي تمكّن الغابات من تحمل التهديدات الناجمة عن المناخ بشكل أفضل، بما في ذلك الحرائق. وقال خبير الغابات كريستوف أورازيو الذي يرأس المعهد الأوروبي للغابات المزروعة بالقرب من بوردو "كان لكل فرد رأيه في كيفية إعادة الزراعة".
ويدور النقاش في لاند، على سبيل المثال، حول ما إذا كان ينبغي السماح للغابة بالتجدد بشكل طبيعي وإنهاء هيمنة الصنوبر. ويريد دعاة الحفاظ على البيئة بذل جهود لمعالجة المشاكل التي يرون أن الغابات الصناعية تتسبب فيها لكونها تفضل مزارع الصنوبر ذات النوع الواحد “التي تلبي احتياجات سوق الأخشاب” على حساب البيئة، حسب سيم كوريسو وهو ناشط في بروكسل ضمن منظمة فيرن الهولندية غير الحكومية لحماية الغابات.
وقال إن الاكتفاء بإعادة زراعة الصنوبر البحري يعني استمرار حرائق الغابات. وأضاف “لا تتعلق المسألة بما إذا كانت هذه الغابات ستحترق، ولكن متى سيحدث ذلك ومدى شدة الحريق". ويمكن الاستفادة من تجربة آنجليه الواقعة على بعد ساعتين بالسيارة جنوبا، والتي شهدت احتراق 165 هكتارا في 2020.
وعمل أنطوان دو بوتراي وهو مدير المكتب الوطني للغابات في فرنسا في منطقة البيريني الأطلسية، على إعادة الزراعة باستخدام السنديان الفليني والصنوبر البحري، وانتهت العملية في مارس. وأوضح أن تجديد الغابة بمزيج من الأنواع يجعلها أكثر مقاومة للحرائق، حيث تزيد أنواع مختلفة من “الوقود” من إبطاء انتشار النيران وتقلل مستويات الرطوبة المتنوعة من قابلية الاشتعال.
وقال دو بوتراي إن "التنوع البيولوجي هو حليفنا الرئيسي في تكييف الغابات مع تغير المناخ، وستتوصل صناعة الغابات إلى نفس النتيجة". وساعدت شركة بلانفور المحلية المتخصصة في زراعة الصنوبر المكتب الوطني للغابات على إعادة زراعة بعض الغابات المتفحمة. ويوافق رئيس الشركة جان مارك بونيديو على أن دفع القطاع نحو المزيد من التنوع البيولوجي سيكون مفيدا للاقتصاد المحلي والبيئة، قائلا إنه يرى استعدادا للتغيير بين العملاء. وتابع "لكن عليك أن تكون واقعيا. لن يتحقق التنوع البيولوجي إذا لم تكن هناك حوافز مالية".
وقال دافيه إن الابتكار الاقتصادي يمكن أن يلعب أيضا دورا في تعزيز المرونة المحلية في مواجهة حرائق الغابات، حيث قد يؤدي زرع كروم العنب حول حواف الغابة إلى المزيد من الحرائق. واتخذ دافيه نبرة أكثر جدية عندما تذكر قلة الأمطار خلال الشتاء وأيام الصيف الحارة المقبلة، قائلا إن السكان المحليين خائفون. وشدّد على أن "الخوف لا يفيد إلا عندما يحمينا. ونظل لذلك يقظين".