فرنسا أمام اختبار استعادة مصالحها المهددة في الجزائر

الجزائر بماضيها التاريخي وبتقاربها الثقافي مع فرنسا محكومة بعلاقات حتمية مع الفرنسيين، لكن على مدار ستة عقود لم يستطع البلدان وضعها على السكة الصحيحة.
الأربعاء 2021/12/15
بانتظار إرساء مقاربة جديدة

أوحت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان إلى الجزائر، بعد أشهر من القطيعة والسجال الدبلوماسي، بأن باريس لا تريد تضييع المزيد من الوقت في أزمتها مع الجزائر، لأن مصالحها باتت تحت خطر تمدد نفوذ قوى أخرى تزن مصالحها بعيدا عن كفة الحسابات السياسية والأيديولوجية، وما كان لفرنسا أن تستنفر الاتحاد الأوروبي لدعم موقفها في مالي لولا الخطر الروسي المتغلغل في القارة السمراء انطلاقا من الجزائر.

خلال ذروة الأزمة الدبلوماسية التي خيمت على العلاقات الجزائرية – الفرنسية ذهبت التوقعات إلى أن الأزمة المذكورة ستعمر هذه المرة إلى غاية الانتخابات الرئاسية المنتظرة في فرنسا خلال الصيف القادم، مستندة في ذلك إلى أن عامل التوقيت في الظرف الحالي يرجح كفة تمديد عمر الأزمة، خاصة وأن الرأي العام الفرنسي مركز على نزيل قصر الإليزيه القادم، وكل المتسابقين لا يتوانون في توظيف تلك العلاقات الاستثنائية أثناء الحملة الانتخابية.

لكن طبيعة النظام الحاكم في فرنسا وعراقة المؤسسات يبدو أنهما دفعتا عكس ذلك، لأنها استشعرت أن تمديد عمر الأزمة سيزيد من حجم التهديدات لمصالحها داخل الجزائر وفي محيطها. وإذا كانت في الظروف العادية تدحرجت إلى الشريك الثاني تاركة الصدارة للصينيين فإن الأزمة المذكورة كلفت شركات مملوكة لها استثمارات تقليدية في الآونة الأخيرة.

ومن تسيير مطار الجزائر الدولي إلى استثمار وتوزيع ماء الشرب، مرورا بقطار الأنفاق والضواحي، فقدت شركات فرنسية استثمارات كانت تديرها في الجزائر تحت تأثير الأزمة الدبلوماسية، وفوق ذلك فإن وجودها في منطقة الساحل بات مهددا، لأن الشريك الذي كانت تعتمد عليه هناك صار أكثر انفتاحا على شركاء آخرين.

ولأن قوات فاغنر الروسية بصدد ملء الفراغ الذي تتركه عملية برخان تدريجيا، صار الأمر يشكل صدمة قوية لدوائر القرار الفرنسي، لأنها تدرك أن التغلغل الروسي في القارة السمراء لم يكن ليتم لو لم يحظ بتزكية جزائرية، وأن مصالح باريس التقليدية والتاريخية باتت تحت خطر حقيقي، فالإنارة العمومية في باحة الشانزلزيه لا يمكن أن تشتغل لولا يورانيوم النيجر.

الجزائر بماضيها التاريخي وبجاليتها وبتقاربها الثقافي واللغوي مع فرنسا، محكومة بعلاقات حتمية مع الفرنسيين، لكن على مدار ستة عقود لم يستطع البلدان وضعها على السكة الصحيحة، ولذلك تظهر البراغماتية السياسية والمصالح محاولات انفتاح على شركاء آخرين من أجل خلق توازن طبيعي. لذلك فهي تدخل دائما في برامج المشاريع السياسية المطروحة على الفرنسيين أثناء الاستحقاقات الانتخابية الكبرى.

لكن قلقا فرنسيا أو حالة سياسية نادرة تخيم دائما على دوائر صنع القرار في باريس، وعادة ما تنحدر إلى خطاب الابتزاز واستغلال التاريخ والذاكرة المشتركة، لقناعة يبدو أنها راسخة لدى هؤلاء مفادها أن تطبيع العلاقات مع الجزائر أو بناءها على أسس صحيحة يمثلان أول تهديد لمصالحها، ولذلك يتم التوجه في الغالب إلى إرسائها في دوائر ضيقة مع لوبيات السلطة وليس مع الدولة.

خلال السنوات الماضية تدخل الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة شخصيا لإرساء صفقة مهمة على شركة فرنسية، وأمضى لها شيكا بمئة مليون دولار استلمه نظيره نيكولا ساركوزي، وتم انتشال الشركة من الإفلاس، وعلى هذا النحو حافظت فرنسا على مصالحها في الجزائر.

التوتر سيد الموقف
التوتر سيد الموقف

فقد شكل اللوبي الفرانكوفيلي ذراعها القوية في الجزائر داخل مختلف المؤسسات والمفاصل منذ سنوات الاستقلال الأولى، وظلت البلاد طيلة ستة عقود تحت وطأة نفوذ فرنسي في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية واللغوية والأيديولوجية، لكن توظيف ملف التاريخ ظل محفزا دوريا للتيار المناهض للهيمنة الفرنسية، ولذلك يتم الترحيب والتهليل لكل مبادرة انفتاح على شريك آخر ليس حبا فيه وإنما نكاية في فرنسا.

لقد استفاد الروس من علاقاتهم التاريخية مع الجزائريين، باكتساب حصرية تسليح الجزائري والاستحواذ على صفقات تقدر بمليارات الدولارات، واستحوذت الصين على السوق التجارية وقطاع المنشآت والبنى التحتية، ووظف الأتراك ورقة التاريخ لصالح علاقة ودية مع الجزائريين، وهيمنوا على قطاعات البناء والمنشآت والاستثمارات الحكومية.

وظف هؤلاء الشركاء ورقة المصالح بعيدا عن التأويلات والاستفزازات السياسية والأيديولوجية، كما لم يحشروا أنوفهم في تفاصيل السلطة والنظام السياسي الجزائري، لكن فرنسا حافظت على أسلوب الإيعاز والتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد من أجل قطع الطريق على صعود التيار المناهض لها، الأمر الذي كلفها تراجع مصالحها ونفوذها لصالح القوى المنافسة.

ويبدو أن الدبلوماسية الناعمة التي ينتهجها الروس والصينيون والأتراك حققت مفعولها، بينما أضرت الدبلوماسية الصاخبة بنفسها، ولذلك تعيد حساباتها الآن رغم ما يبدو عليه الأمر من تنازل الكبرياء الفرنسي لصالح تصلب جزائري تريد السلطة استغلاله في استمالة المناهضين لفرنسا وكسب نقاط إضافية في سلم الشعبية.

وإذا كانت باريس تراهن على اللوبي الموالي لها في دوائر القرار الرسمي والمؤسساتي فإن موسكو وإسطنبول لم تغفلا عن ذلك، وهو ما بات يتجلى في الحديث الدائر عن صعود جناح داخل المؤسسة العسكرية القوية والمهمة داخل الدولة يوالي روسيا ويريد إرساء علاقات عسكرية قوية معها، ومع الحرص الظاهر من طرف تركيا في التوظيف الإيجابي لورقة التاريخ والتراث والدين.

ولئن كان الأول محصورا في دائرة رسمية معزولة فإن الثاني اتّخذ طابعا شعبيا أفقيا، حيث لم يعد الولاء لتركيا بالأمر المخجل لدى البعض، نكاية في اللوبي الفرانكوفيلي وفي الهيمنة الفرنسية والتوجه الغربي، الأمر الذي يشكل معطى جديدا في توزيع النفوذ الأجنبي بالجزائر، وهو ما يبرز حجم القلق الذي يلف الفرنسيين حول اختبار الحفاظ على مصالحهم فيما كانوا مطمئنون عليه إلى وقت قريب.

لقد عبر لودريان عن أمل بلاده في تطبيع العلاقات مع الجزائر والمضي بها نحو المستقبل دون النظر في مطبات التاريخ والذاكرة الجماعية، لكنه لم يبرز ما إذا كانت باريس بصدد إرساء مقاربة جديدة تقوم على دبلوماسية ناعمة بعيدة عن ضوضاء الابتزاز والأبوية، والاستفادة من تجارب منافسين وضعوا لغة المصالح في صدارة علاقاتهم مع الجزائر وتفادوا الخوض في شأنها الخاص.

8