فراغ أمني على حدود غرب أفريقيا يعيد رسم خارطة التهديدات الجهادية

باماكو - في الوقت الذي تعاني فيه منطقة الساحل الأفريقي من تراجع نفوذ الدولة وانشغال العواصم العسكرية بترتيب أوضاعها الداخلية، يتسارع زحف الجماعات الإسلامية المتشددة نحو الحدود الجنوبية والغربية، محدثا تحولا إستراتيجيا خطيرا في خارطة التهديدات الإقليمية.
ويشير تقرير لمركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية إلى أن الفراغ الأمني الذي خلّفته الانقلابات العسكرية المتتالية في مالي (2020)، ثم بوركينا فاسو والنيجر، وفّر بيئة خصبة لتمدّد الجماعات الجهادية المرتبطة بالقاعدة وداعش، في موجة هي الأعنف منذ بدء التمرد المسلح في الساحل قبل أكثر من عقد.
ويوضح إيمانويل كواندو، مدير وحدة تحليل التهديدات بالمركز، أن “التحول نحو الجنوب لم يكن صدفة، بل هو جزء من خطة منهجية تهدف إلى محاصرة الدول التي تفتقر إلى إستراتيجية استباقية، حيث تبرز الحاجة إلى تعاون أمني غير تقليدي يتجاوز التنسيق العسكري البحت.”
وبحسب أرقام المركز، تجاوز عدد ضحايا العنف الجهادي في نطاق 50 كيلومترا من حدود الدول الساحلية في غرب أفريقيا (بنين، توغو، غانا، ساحل العاج) أكثر من ألفي قتيل في 2024، بزيادة تفوق 25 في المئة عن عام 2023.
ويبدو أن هذه الأرقام مرشحة للارتفاع، في ظل استمرار تراجع سيطرة الدولة على الأطراف الشمالية لتلك الدول.
ما نشهده الآن في الساحل ليس مجرد تمدد للجماعات الجهادية، بل إعادة هندسة لخارطة السيطرة في ظل انحسار سلطة الدولة
ويعزز هذا التحليل ما ذكره الدكتور أليكس ثورستون، خبير شؤون الساحل بجامعة ميامي، بقوله “ما نشهده الآن في الساحل ليس مجرد تمدد للجماعات الجهادية، بل إعادة هندسة لخارطة السيطرة في ظل انحسار سلطة الدولة.”
ومع هذا التمدد، تبرز ملامح “خارطة تهديد جديدة” ترسمها الجماعات المتشددة وفق خطوط الإخفاق الأمني، لا الجغرافيا السياسية. فقد تحولت محميات طبيعية مثل “دبليو – آرلي – بنجاري”، إلى ممرات آمنة لعبور العناصر المسلحة من بوركينا فاسو إلى بنين وتوغو، مستغلة هشاشة الرقابة والفراغ الأمني المتزايد.
وتؤكد لتيتيا بادجي، المحللة الأمنية بمؤسسة السلام الأفريقية، أن “الجماعات المتشددة طورت قدرتها على التكيف مع البيئة الجديدة، فهي تستغل التضاريس، وضعف البنى التحتية، وتفكك أجهزة الدولة، لتوسيع نفوذها جنوبا.”
وتكشف تقارير أمنية عن تركّز أعمال العنف في مناطق لم تكن تُعرف سابقا بنشاط جهادي، مثل شمال بنين وتوغو، اللتين سجلتا معا ما لا يقل عن 249 قتيلا على أيدي الجماعات المتشددة هذا العام.
ويهدد هذا الزحف الجنوب، بوصول العنف إلى عمق غانا وساحل العاج، حيث تزداد التحذيرات من استغلال الممرات الحدودية لإنشاء قواعد لوجستية ومراكز دعم طبي وتمويلي.
وفي مالي، التي تحولت إلى حاضنة لفرعي “جبهة تحرير ماسينا” و”ولاية داعش في الصحراء الكبرى”، ارتفع عدد القتلى قرب حدودها الجنوبية مع غينيا وموريتانيا والسنغال من 23 إلى 125 خلال عام واحد، ما يعكس انهيارا أمنيا واسع النطاق، يتجاوز مجرد التمدد العرضي نحو الجنوب.
ويصف العقيد المتقاعد باكو ديالو، الخبير الدفاعي من بوركينا فاسو، هذا التطور بالقول “أحد أخطر التحولات هو نجاح الجهاديين في عزل الأطراف عن العواصم، فبينما تنشغل الحكومات بالصراعات السياسية، تقوم هذه الجماعات بتقويض الروابط بين المراكز الحضرية والمناطق الريفية.”
التحول نحو الجنوب لم يكن صدفة، بل هو جزء من خطة منهجية تهدف إلى محاصرة الدول التي تفتقر إلى إستراتيجية استباقية
ويتمثل التحوّل الأبرز في انتقال الجماعات المتشددة من إستراتيجية “التموضع الجغرافي” إلى سياسة “تطويق الدول من الأطراف”، وهو ما قد يؤدي إلى عزل العواصم عن محيطها الريفي، وضرب شبكات التجارة، وتعطيل المعابر الحدودية الرئيسية كما حدث في النيجر وبوركينا فاسو.
وتلفت أنيسة عبدو، الخبيرة في الأمن المجتمعي من النيجر، إلى أن “القصور في إشراك المجتمعات المحلية يفاقم المشكلة. السكان في المناطق الحدودية يُتركون وحدهم لمواجهة عنف الجماعات، ما يفتح الباب لتجنيد محلي وتحويل السكان من ضحايا إلى أدوات للجماعة.”
ويتفق خبراء أمنيون على أن التهديد لم يعد محصورا في “مثلث الإرهاب” التقليدي (مالي –النيجر – بوركينا فاسو)، بل بات يتمدد كالبقعة الزيتية نحو الدول التي لم تستعد بعد لمواجهة هذا النوع من التهديد، سياسيا وعسكريا ومجتمعيا.
ومع استمرار الانشغال المحلي بالصراعات السياسية الداخلية، وتراجع الحضور الدولي بعد تقليص العمليات العسكرية الغربية في المنطقة، يبدو أن الجماعات المتشددة في غرب أفريقيا أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل المشهد الأمني لصالحها، ما لم تبادر الدول الساحلية إلى إغلاق الفجوة الأمنية في أقرب وقت.
وتشمل منطقة الساحل الأفريقي، التي تمتد من المحيط الأطلسي في الغرب إلى البحر الأحمر في الشرق، العديد من الدول التي تعاني من هشاشة أمنية واقتصادية وسياسية.
وهذه المنطقة التي تضم دولا مثل مالي، النيجر، بوركينا فاسو، تشاد، موريتانيا، والسنغال، تعيش في قلب معركة طويلة مع الإرهاب والجماعات المتشددة، التي استغلت الفوضى والفراغات الأمنية الناتجة عن الانقلابات العسكرية، التحديات الاقتصادية، والصراعات العرقية والمجتمعية.
عدد ضحايا العنف الجهادي في نطاق 50 كيلومترا من حدود الدول الساحلية في غرب أفريقيا تجاوز أكثر من ألفي قتيل في 2024
وفي السنوات الأخيرة، أصبح الساحل نقطة جذب رئيسية للعديد من الجماعات الجهادية مثل تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش”، التي تستفيد من ضعف الحكومات المحلية لفرض نفوذها. وبالإضافة إلى ذلك، ساعدت التغيرات المناخية التي أدت إلى ندرة الموارد الطبيعية، مثل المياه والأراضي الزراعية، في تعزيز الاستقطاب العرقي والقبلي، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الأمنية. في هذا السياق، أصبحت الجماعات المتشددة تروج لخطابها ضمن بيئة اجتماعية مشبعة بالمشاعر المعادية للحكومات المركزية في تلك الدول.
وكانت الانقلابات العسكرية في مالي (2020)، بوركينا فاسو (2022)، والنيجر (2023) من العوامل الرئيسية التي أسهمت في تعميق الأزمة.
وأسفرت هذه الانقلابات، التي بدأت في مالي، عن تراجع كبير في قدرة الدولة على ممارسة سيادتها، لاسيما في المناطق الشمالية التي أصبحت مرتعا للجماعات المتطرفة. في تلك المناطق، يعاني المدنيون من العنف المستمر، بينما تتدهور البنية التحتية الأمنية بشكل متسارع.
وفي الوقت نفسه، انسحبت القوى العسكرية الغربية، التي كانت تلعب دورا رئيسيا في مكافحة الإرهاب، من بعض المناطق إثر قرارات سياسية محلية أو تغيير في إستراتيجيات التعاون الدولي. وهذا الانسحاب ترك العديد من الدول الساحلية في مواجهة تهديدات متزايدة دون دعم ملموس من القوى الكبرى. كما أدى هذا الوضع إلى تشجيع التمدد الجغرافي للجماعات الجهادية في مناطق جديدة، مثل بنين وتوغو، كانت تعتبر سابقا أكثر استقرارا.
ولا يمكن تجاهل تأثير الاقتصاد غير الرسمي في المنطقة، حيث تعتمد الكثير من المجتمعات على التجارة عبر الحدود، والتي أصبحت عرضة للتهديدات.
واستغلت الجماعات المسلحة هذه المعابر الحدودية لتنفيذ عملياتها وتمويل أنشطتها. وأصبح الأمن الاقتصادي أحد التحديات الرئيسية للدول الساحلية، حيث عزلت الجماعات المسلحة العديد من الأسواق الحدودية وحولت بعض المناطق إلى نقاط تهريب للسلاح والمخدرات.
لا يمكن تجاهل تأثير الاقتصاد غير الرسمي في المنطقة، حيث تعتمد الكثير من المجتمعات على التجارة عبر الحدود، والتي أصبحت عرضة للتهديدات
ويتزايد قلق المجتمع الدولي بشأن تأثير الصراعات المسلحة على المدنيين، الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين تهديدات الجماعات الجهادية من جهة، وممارسات التهميش من الحكومات المركزية من جهة أخرى.
ويحتاج الوضع في الساحل الأفريقي إلى استجابة منسقة تأخذ في الاعتبار تعقيدات الأزمة، بما في ذلك الحلول السياسية، العسكرية، والتنموية، لضمان استقرار طويل الأمد في المنطقة.
وعلى الرغم من التحولات التي شهدتها دول الساحل الأفريقي في السنوات الأخيرة، إلا أن هذه الدول لا تزال تعاني من ضعف في بناء مؤسساتها الوطنية. تاريخيا، تمثل الأنظمة السياسية في المنطقة بنية غير مستقرة، مع تعاقب الانقلابات العسكرية، والصراعات القبلية، والتوترات العرقية.
وتؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى تقويض قدرة الدولة على تنفيذ إستراتيجيات فعالة في الحكم والسيطرة على مناطقها الحدودية. وقد كانت هذه القضايا جزءا من محركات العنف المستمر، مما يزيد من تعقيد التحديات الأمنية والاقتصادية.
وكذلك، يلعب العداء طويل الأمد بين الجماعات العرقية دورا مهما في تأجيج العنف في بعض المناطق. في مناطق مثل شمال مالي، يظل النزاع بين الطوارق، العرب، والمجموعات العرقية الأخرى جزءا أساسيا من الصراع المستمر. هذا التشرذم العرقي يزيد من صعوبة تحقيق حلول سلمية.
ويتأثر اقتصاد منطقة الساحل بشدة بعدم الاستقرار، حيث يعاني القطاع الزراعي من تبعات التغيرات المناخية مثل الجفاف ونقص الأمطار. تعيش العديد من المجتمعات في الساحل على حافة الفقر، مع ضعف الفرص الاقتصادية، ما يدفع الكثير من الشباب إلى الانضمام إلى الجماعات المسلحة بحثا عن فرص جديدة، سواء كان دافعها اقتصاديا أو أيديولوجيا.
وقد أظهرت بعض الدراسات أن الفقر والتهميش الاجتماعي من أبرز العوامل التي تُغذي الانضمام إلى الجماعات المتطرفة في هذه المنطقة.
وأدى ضعف البنية التحتية إلى عواقب وخيمة على حركة التجارة بين الدول، مما أثر سلبا على الاقتصاد المحلي. وقد وجد العديد من التجار أنفسهم مجبرين على دفع إتاوات للجماعات المسلحة التي تسيطر على المعابر الحدودية، مما يعزز الدورة المفرغة للعنف ويمول الأنشطة الإرهابية.
وإضافة إلى ذلك، تعاني المنطقة من أزمة هجرة متزايدة. فبالنظر إلى الأوضاع الصعبة في الدول الأصلية، يهرب العديد من المواطنين إلى دول أكثر استقرارا بحثا عن الأمان والفرص الاقتصادية. لكن هذه الهجرة تأتي مع تحديات جديدة، حيث أصبح بعض اللاجئين أنفسهم أهدافا للتجنيد من قبل الجماعات المتطرفة.