فاغنر نموذج لمجموعة مسلحة مكتوب عليها البقاء

فسح رحيل يفغيني بريغوجين وعدد من قادة فاغنر في حادث مأساوي المجال للحديث عن مصير المجموعة المسلحة التي تدير مصالح موسكو في مناطق مختلفة من العالم، حيث يرى محللون أن الكرملين غير مستعد للتخلي عنها في حروبه بالوكالة، لكن آخرين يؤكدون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يكرر خطأه مع القائد الجديد بمنح السلطة والنفوذ لرجل واحد قد ينقلب عليه في أي وقت.
باريس - بعد خسارة قادتها الثلاثة الأكثر نفوذاً الأربعاء، تراجعت صورة مجموعة فاغنر الروسية إلى حدّ بعيد، لكنها تبقى رغم ذلك نموذجا لمنظمة مسلحة على ارتباط غير مباشر بالدولة الروسية مرنة في تحركاتها، وهو نموذج يتوقّع أن يستمر.
وفي الوقت الذي فقدت فيه المجموعة المسلحة زعيمها الذي تميز بحضوره القوي يفغيني بريغوجين، فقدت فاغنر كذلك الرجل الثاني ديمتري أوتكين والمسؤول عن اللوجيستيات فاليري تشيكالوف ما سيؤثر بشكل واضح في طريقة عملها وتسييرها.
وكان آخر ظهور لبريغوجين أمام عدسات الكاميرات في تسجيل مصوّر بُثّ الاثنين بدا فيه مرتديا بزّة مموّهة ويحمل بندقية هجومية، فيما قال إنه في أفريقيا حيث ينشط في سبيل عظمة روسيا.
الكرملين يملك أدوات نفوذ في القارة الإفريقية التي تعد في قلب معركة إستراتيجية تخوضها قوى العالم
وكان ذلك أول ظهور مصوّر بالفيديو له منذ قاد تمرّدا سرعان ما انتهى ضد الكرملين في يونيو. وحتى قبل التقارير عن وفاته، كان المحللون ينظرون في التداعيات المحتملة للتمرّد، حيث رجح بعضهم احتمالات تخلي الكرملين عن خدماته.
ونعت الحركات اليمينية المتطرفة الروسية النشطة داخل المجال العسكري على الإنترنت المجموعة بحرقة، على ما يفيد المحلّل لوكاس ويبر أحد مؤسسي شبكة الأبحاث “ميليتانت واير”.
ويقول “إنهم يتحدثون عن نخبة سياسية وعسكرية فاسدة ومنفصلة عن الواقع. في المقابل، احترموا لدى بريغوجين شخصيته الشجاعة وأنه لم يكن يهاب انتقاد كبار قيادات الجيش وكثيرًا ما تفقد رجاله في ميادين المعركة”.
ويتحدث البعض عن الانتقام لمقتل بريغوجين. لكن هذه التهديدات يصعب تنفيذها على المدى القصير “بالنظر إلى الطريقة التي اتبعها الكرملين في عزل فاغنر وتشديد المراقبة عليها” بعد أن تجاوزت المجموعة المسلحة حدودها بتمردها في يونيو الفائت، ولم يعد ممكنًا لها أن تفلت من غضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويترك مقتل بريغوجين المجال مفتوحا أمام الرئيس الروسي لإعادة التفكير في هيكلة هذه الإمبراطورية الموازية والتي ربما دفعت ثمن الاعتقاد بأنها قوة لا تقهر. كما سيكون فرصة لإعادة بلورة صورة قطاع الشركات العسكرية الخاصة الروسية.
رجل واحد
كتبت الخبيرة في الجماعات المرتزقة في مركز الأبحاث “سي.أس.أي.أس” في واشنطن كاترينا دوكسي “أحد الدروس التي ربما استوعبها بوتين من تمرّد يونيو الفائت هو خطر منح الكثير من السلطة والمسؤولية (…) لرجل واحد”.
وتابعت “إذا أرادت روسيا الحفاظ على نموذج الشركات العسكرية الخاصة في سياستها الخارجية ومساعداتها الأمنية، فمن المرجح تنويع السوق” لغلق الطريق أمام فرضية ظهور بريغوجين آخر.
وبالفعل تتواجد حاليا العديد من الشركات الأخرى على غرار “ريدوت” و”كونفوي” و”باتريوت”.
و”لكي تنجح هذه الفكرة، فإنها تتطلب توافر مجموعة من الشروط، بما في ذلك شد انتباه بوتين فضلا عن القدرة التمويلية، وامتلاك أداة للتأثير”، على ما تبين لو أوزبورن من منظمة “أول آيز أون فاغنر” غير الحكومية.
وتوضح أن الشركات الأخرى “لديها حضور أقل بكثير من فاغنر وهي أقل نجاحًا منها، لكنها تتبع البنية نفسها”، مشيرة إلى أنه قد انضم إليها منشقون عن فاغنر تربطهم علاقات وثيقة مع المخابرات العسكرية الروسية.
ومن المرجح أن يؤدي الكرملين معها، كما هي الحال مع فاغنر، دورا مزدوجا، بين التحكم فيها ودعمها من جهة، والبقاء على مسافة كافية منها من جهة أخرى حتى لا يضطر إلى تحمل مسؤولية كل أفعالها وتصرفاتها خصوصا في دول أفريقيا.
كما أنه “من المتوقع أن تمارس الدولة الروسية مزيدًا من السيطرة المباشرة على هذه الشركات العسكرية الخاصة في البلدان الأجنبية، من دون الاعتراف الكامل بأنها تخضع للسلطة المباشرة للكرملين”، في تقدير الباحثة في معهد الاستخبارات الخاص البريطاني “جينس” أديتيا باريك.
وتظل طريقة تفكيك مجموعة فاغنر مستقبلا غير مؤكدة حتى يومنا هذا.
وتقول دوكسي إن ذلك يمكن أن يتم من خلال “منحها اسمًا جديدًا وتقسيم الشركات الموجودة في فلك فاغنر إلى كيانات منفصلة”، ومن ثم ربما تأميمها أو الاحتفاظ بها شبه مستقلة.
ولكن لن يكون الولاء للكرملين محلّ نقاش وتفاوض. وتقول أوزبورن مستخدمة عبارة ساخرة في الإشارة إلى تحطم الطائرة إن “الألعاب النارية ليلة الأربعاء تبعث برسالة واضحة للغاية: لا تتجاوزني، إنها مسألة بقاء”.
غير أن موسكو لا تستطيع الاستغناء عن مثل هذه الأداة التي أثبتت فعاليتها لسنوات في أفريقيا والشرق الأوسط، ولكن أيضاً في الحرب التي أطلقها بوتين على جارته أوكرانيا.
وهو الأمر الذي يؤكده الباحث في معهد أبحاث المدرسة العسكرية “إرسم” في باريس ماكسيم أودينيت بالقول “أحدث النجاحات التكتيكية في أوكرانيا كانت بفضل فاغنر”.
ويتابع “دون تكرار الأخطاء نفسها، يبدو التوجه فعليا للحفاظ على هذا النموذج العملي المتمثل في الهياكل غير النظامية والمرنة القادرة على التخلي عن الروتين البيروقراطي الذي تواجهه الهيئات الرسمية للتدخل حيث لا ترغب الدولة في التدخل بشكل مباشر”.
ومع ذلك، لن يكون التحول سلسا حتى في غياب بريغوجين لمقاومة تفكيك إمبراطوريته ومشروع حياته.
ويعتبر الصحافي الاستقصائي الروسي دينيس كوروتكوف أن “بريغوجين كان يتمتع بحرية كبيرة في العمل، وقدرة كبيرة على العمل، وحماس واضح، ومهارات تنظيمية مؤكدة، ولم تكن لديه رغبة في الإثراء الشخصي”. ويخلص “لا أرى أحدًا يشبهه”.
لا تراجع

توكل روسيا أنشطتها في أفريقيا إلى فاغنر منذ العام 2014. وعلى الصعيد الأمني، تم نشر مقاتلي فاغنر إلى جانب قوات الجيوش الوطنية في كل من ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي.
وعلى الصعيد السياسي، نفّذت المجموعة حملات تضليل وأخرى لزعزعة الاستقرار. وأما تجاريا، فتستغل فاغنر الموارد الطبيعية في عدة بلدان أفريقية.
ويشير محللون إلى أنه لا مصلحة للكرملين في وضع حد لهذه الأنشطة. وتؤكد المسؤولة عن أفريقيا لدى “المجلس الأطلسي” للأبحاث راما ياد أنه بفاغنر أو بدونها “ترغب روسيا في المحافظة على مصالحها التجارية والأمنية في أفريقيا.. إنه هدف أساسي”.
ويملك الكرملين أدوات نفوذ أخرى في القارة الإفريقية التي تعد في قلب معركة إستراتيجية تخوضها قوى العالم.
وتشمل هذه الأدوات سفارات واستثمارات خاصة وشركات مملوكة لروسيا، من قنوات تلفزيونية وصولا إلى كنائس أرثوذكسية.
وساعد ذلك في دعم نجاحات فاغنر في أفريقيا، بحسب الخبيرة في فاغنر ومؤلفة كتاب مرتقب عن مجموعة المرتزقة أوزبورن.
بدوره، قال السياسي المعارض من جمهورية أفريقيا الوسطى جوزيف بندونغا إن “فاغنر أداة للاستعمار الجديد الروسي ولا يوجد سبب يدفعها للتوقف”. لكن مهمة السيطرة على منظمة بريغوجين المعقّدة لن تكون سهلة.
وقال المحلل في “معهد هادسن” بيتر راف إنه “لا نية لدى الكرملين للتخلي عن مواقع بريغوجين في أفريقيا.. لكن نقل هذه العمليات من بريغوجين إلى خليفة له سيكون مسألة دقيقة”.
وأشار “مركز صوفان” للأبحاث الذي يتّخذ من نيويورك مقرا إلى أنه “كما أقرّ بوتين بنفسه مؤخرا، فإنه حتى الكرملين لا يمكنه حقّا فهم النظام المعقّد الذي أداره بريغوجين”.
وقال الصحافي الاستقصائي الروسي كوروتكوف “ستكون هناك بالتأكيد العديد من الشخصيات التي ستحاول التعبير عن رغبتها بتولي هذه الأنشطة الصعبة، شرط تلقيها التمويل المناسب”. وتابع “لكنهم سيكونون بالتأكيد أقل شأنا من بريغوجين”.
اقرأ أيضا: