فاطمة لوتاه تشكّل لوحات عابرة للمدن العربية

فنانة إماراتية تحتضن الجرح الفلسطيني بغنائية تعبيرية هادئة.
السبت 2021/07/03
مدن ناجية من شموسها الحارقة في عزّ أزماتها

لدى الفنانة التشكيلية الإماراتية فاطمة لوتاه منطق مُغاير لمعنى “المهجر”، وقد عبّرت عن ذلك في العديد من معارضها الفردية وعبر مشاركتها في المعارض العربية والعالمية. مؤخرا وفي عزّ اشتعال غزة الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي عليها، نشرت الفنانة على صفحتها الفيسبوكية عددا من الأعمال التي تجسّد معاناة أهل غزة.

من يرى الأعمال الفنية الجديدة التي عرضتها الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه يُدرك أنه أمام فنانة همها الأول هو الإنسان، لاسيما العربي ومُعاناته كيفما جاءت أشكال هذه المعاناة.

وقد سبق أن رسمت الفنانة مجموعة من اللوحات الرائعة جسّدت الطفولة السورية التي عانت سنوات طويلة خلال الحرب والقصف بالمواد السامة. كما كان للجرح العراقي العميق مكانة مهمة جدا في أعمالها الفنية.

ثورة ضد الثبات

هروب من الخراب
هروب من الخراب

لا تُدرج لوحات لوتاه ضمن ما يُمكن تسميته بـ“اللوحات ذات البعد الثوري”، ولكنها حتما عابقة بزخم الثورة التي تحمل معاني مُطلقة. إنها ثورة ضد الظلم والعدوان والفقر، واللامبالاة.

وهي ثورة أيضا ضد الذات لتعميق اكتشافها واكتشاف العالم المحيط عبر الوسيلة المُفضلة لديها وهي الفن. وهي ثورة ضد الثبات بالمعنى السلبي للكلمة. فأعمالها، خلال سيرتها الفنية الطويلة، تنقَلت ما بين التعبيرية والغنائية، والواقعية والتجريدية. أدخلت الحرف العربي إلى لوحاتها في حوار وتناغم مع الشعر، لاسيما في معرضها “غزل” و“صحراء وأهل الرمال الحمراء”.

كما طال تعبيرها الفني بلدان عربية عديدة، ولا تبدو أنها ستتوقّف عن ذلك، على الأقل في المدى القريب. أعمال لوتاه طالت العديد من البلدان العربية إضافة إلى وطنها، حيث ترسم مشاهد دلالية تختزل معالم وملامح هذه البلدان، أو تلقي الضوء على جانب مُحدّد منها. ونذكر من تلك البلدان العراق، مصر، لبنان وفلسطين.

ومن ضمن مفهوم التعدّدية الذي لا ينضب اعتمدت لوتاه في تنفيذ أعمالها على مواد مُختلفة كالحبر والرصاص وألوان الأكريليك والألوان الزيتية والمائية إلى جانب التجهيز الفني والفن التفاعلي، وصولا إلى الأعمال الفنية الديجيتالية. أعمال لم تكتف الفنانة الإماراتية بصيغتها هذه، بل عمدت إلى مزجها مع ضربات ريشتها وسكينها “الأكريليكي”. واللوحات التي قدّمتها مؤخرا الفنانة عن غزة تنتمي إلى هذه المجموعة.

الفنانة الإماراتية تقيم عبر لوحاتها ثورة ضد الذات لتعميق اكتشافها للعالم المحيط عبر الوسيلة المُفضلة لديها وهي الفن

كما اكتسى “المهجر” مع هذه الفنانة السائحة في عوالم الخاص والعام على السواء، معنى مفتوحا أفقه حتى نكاد نطلق عليها تعبير “مواطنة كونية”. ولكن من دون ما يشوب هذا التعبير من رياء أراد أن يخفي في بدايته دعمه لعميلة تسليط الأقوى على الأضعف حتى بات اليوم، أي هذا الرياء، فنا في حدّ ذاته يكرّس الغطرسة التي لم يعد يهمّها أن تتدثّر بالرياء.

وفي هذا السياق يحضرنا ما قالته لوتاه يوما، وينطبق على مجمل أعمالها ونظرتها إلى الفن كوسيلة وهدف في آن واحد “أنا بنت الصحراء.. بدوية.. ترحالي.. يعني الأنا الباحثة عن نور القمر”.

هذا “المهجر” في عين بنت الصحراء استطاعت من خلاله أن تقيم الجسور ما بين المدن العربية وما بين المدينة الواحدة وماضيها دون أن تغرق بميلودرامية أو غنائية مُفرطة.

رسوم تقدّمية

دمج الديجيتالي بالألوان الحارة
دمج الديجيتالي بالألوان الحارة

كل مدن لوتاه ناجية من موتها ومن شموسها الحارقة وهي في عزّ أزماتها. ولعل ذلك أجمل ما في لوحاتها، إلى جانب المنطق التقدّمي الذي رسمت فيها الفنانة المرأة العربية.

المرأة التي في تعدّد انتمائها إلى مدن عربية مُختلفة، إن من حيث ملامح الوجه أو الثياب التقليدية، هي “عربية” في شموخ واقعي/ أنثوي لم تدمّره المعاناة ولم تسخَفه المُبالغة. فهي في لوحاتها لا تستمدّ جمالها من كونها أيقونة أو أسطورة، بل على العكس، إنها امرأة مرسومة خارج النظرة الذكورية.

صحيح أن الفنانة تخلّت عن موضوع رسم المرأة في أوائل التسعينات من القرن الماضي، بل وانقطعت أصلا عن الممارسة الفنية عدة سنين لتعود وبقوة في الألفية الثانية، من ذلك عودتها لرسم المرأة في مختلف مراحلها العمرية لتكون قلب المشهد الدلالي، كما في اللوحة التي تجسّد فيها الفتاة الغزاوية التي تركض خوفا منالقصف.

فاطمة لوتاه: أنا بنت الصحراء، وترحالي يعني الأنا الباحثة عن نور القمر
فاطمة لوتاه: أنا بنت الصحراء، وترحالي يعني الأنا الباحثة عن نور القمر

في لوحاتها المشغولة بغزة الفلسطينية ومآسيها (وهي قد رسمت لوحة للقدس من خلال مشهد لا ينتمي إلى زمن محدد، بل إلى أبدية صغيرة في عين العالم) ظهرت براعة الفنانة في الدمج ما بين الديجيتال والألوان “المادية” التي وضعتها بأدواتها التقليدية.

ويُمكن الاستدلال إلى ذلك من خلال الانتباه إلى أن الفنانة في أعمالها هذه لم تعمد إلى “تغليف”، إذا صح التعبير، ما صنعته عبر الديجيتال باللون الأكريليكي بغية إبرازه أو زخرفته، بل عمدت إلى شدّ أواصر وبناء جسور ما بين “المادتين” المختلفتين: اللون والخط الديجيتالي، واللون والخط المادي. فحين يحضر اللون المادي تخفت نبرة الديجيتال والعكس صحيح. وأكثر ما يدلنا على ذلك الكتل التركيبية التي تتجاور في لوحاتها وليس تشفّ بعضها على بعض أو تتداخل مع بعضها البعض.

والفنانة متعدّدة الوسائط فاطمة لوتاه هي ابنة مدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة. غادرت مدينتها لدراسة الفنون، فكانت محطتها الأولى ببغداد، حيث التحقت بأكاديمية الفنون، ودرست أصول الفن على يدي الفنان العراقي الشهير فائق حسن.

ثم انطلقت إلى واشنطن عام 1979، وهي اليوم تسكن في مدينة فيرونا الإيطالية، وتواصل تنقلها في الدول منها الهند والولايات المتحدة، فأغنت بترحالها تجربتها الفنية التي لم تؤد قطعا إلى انسلاخها عن هويتها العربية.

شاركت ولا تزال بالعديد من المعارض والمشاريع الفنية والإنسانية حول العالم. كما قامت كذلك بالعروض الحية في الكثير من المهرجانات الفنية في بعض من الدول الأوروبية والعربية.

14