غياب الأهداف الواضحة يفسد إستراتيجية ترامب "أميركا أولا"

بدلا من الدخول في تحالفات مقيّدة أعاد دونالد ترامب صياغة الدور الأميركي العالمي من بوابة التجارة والصفقات، واضعا الاقتصاد في قلب السياسة الخارجية. لكن غياب الوضوح في الأهداف، وتناقض الرسائل، يثيران تساؤلات جدية حول قدرة هذا النهج على إنتاج نفوذ مستدام أو حلول فعلية لأزمات معقدة مثل الملف الإيراني.
واشنطن - قد لا يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيسا تقليديا، لكن الإستراتيجية التي ينادي بها “أميركا أولا” ليست جديدة وإنما هي أحد التقاليد الراسخة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة والذي كان يمثل حركة ظهرت في ثلاثينات القرن العشرين تدعو إلى الابتعاد عن الحروب والصراعات التي كانت تشهدها أوروبا ومناطق العالم الأخرى في ذلك الوقت.
ويقول الدبلوماسي الأميركي المخضرم دينيس روس مبعوث السلام السابق في الشرق الأوسط في تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية إن إستراتيجية “أميركا أولا” لم تكن تعني أن تكون الولايات المتحدة انعزالية وإنما تتصرف بشكل أحادي، على أساس أن التحالفات ستحد من حريتها في العمل.
ولم يرد الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الارتباط بقوى أخرى، وخاصة قوى أوروبية، تجرها إلى صراعات لا تنتهي.
ويقول دينيس روس المساعد الشخصي للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إن التجارة محور رئيسي للسياسة الخارجية الأميركية، ليس فقط في التفاعل مع بقية العالم، وإنما أيضا في التدخل العسكري الأميركي الذي استهدف في مرات عديدة حماية التجارة الخارجية الأميركية، سواء لحماية حركة السفن أو فتح أسواق جديدة محتملة، أو الحصول على حصة من أسواق قائمة كانت تسيطر عليها قوى أوروبية في تلك السنوات البعيدة.
ترامب يقول إن إيران لا يمكنها امتلاك سلاح نووي، لكنه لم يحدد المطلوب بالضبط لضمان تحقيق هذه النتيجة
وفي الوقت نفسه كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة يفرضون قيودا للتدخلات الأميركية. ففي حين كان توماس جيفرسون يؤمن بعالمية القيم الأميركية فإنه كان يعارض السعي لفرضها على الآخرين بالقوة. كما أن جون آدامز كان يرى أن الولايات المتحدة دولة استثنائية بقيمها، لكن محاولة فرض هذه القيم دوليا يمكن أن تهدد هوية الولايات المتحدة وقيمها.
وجاء ترامب لكي يعيد التجارة والمصالح الاقتصادية إلى قلب السياسة الخارجية الأميركية وهو ما ظهر جليا باختياره لدول الخليج العربي الغنية كي تكون وجهته في أول جولة خارجية له. فلم تكن تلك الجولة تتعلق بالأمن والجيوستراتيجية، بل كانت تتعلق بصفقات تجارية ضخمة تخدم الشركات الأميركية ومصالحها الاستثمارية في قطاعات رئيسية كالطاقة والذكاء الاصطناعي.
كما يمكن لترامب الادعاء بأن جولته تلك حققت ليس فقط مكاسب اقتصادية، وإنما مكاسب سياسية بتعميق العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج، خاصة في ضوء صفقات الأسلحة الضخمة والاتفاقيات الاستثمارية الضخمة التي تم توقيعها في قطاعات الذكاء الاصطناعي وهو ما سيقلص المجالات التي يمكن للصين أن تنافس الولايات المتحدة فيها بهذه المنطقة.
وبعبارة أخرى فإن نهج “التجارة أولا” الذي يتبناه ترامب يمكن أن يحقق مكاسب سياسية للولايات المتحدة في شبه الجزيرة العربية. فمبيعات السلاح الأميركي الضخمة إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة ستعزز الروابط بين جيوش الدولتين والجيش الأميركي، في ضوء استمرار حاجة الدولتين إلى قطع الغيار وخدمات الدعم الفني والصيانة لتلك الأسلحة من الولايات المتحدة.
ومع ذلك يطرح دينيس روس الذي خدم في العديد من الإدارات الأميركية تساؤلا مهما هو: هل يجيد ترامب إدارة شؤون الدولة؟ ويقول إنه بالتأكيد يفهم معنى وأهمية النفوذ، لكن الأهم من ذلك هو مدى التوافق بين الوسائل والغايات، وهذا يحتاج إلى وضوح تلك الغايات.
إستراتيجية "أميركا أولا" لم تكن تعني أن تكون الولايات المتحدة انعزالية وإنما تتصرف بشكل أحادي، على أساس أن التحالفات ستحد من حريتها في العمل
ويضيف روس أن التوافق بين وسائل ترامب وأهدافه غير واضح، مشيرا إلى الرسوم الجمركية على سبيل المثال، والتي يرى أنها وسيلة وليست غاية.
ويبدو أن لدى ترامب ثلاثة أهداف محتملة وهي تصحيح شروط التبادل التجاري وزيادة فرص الوصول الأميركي إلى الأسواق، والثاني هو إعادة هيكلة اقتصاد الولايات المتحدة واستعادة التصنيع، وزيادة إيرادات الخزانة الأميركية، وأخيرا سد العجز في الموازنة وخفض الضرائب.
وفي حين يمكن تحقيق الهدفين الأول والثاني، فإن الهدف الثالث الذي يعكس أجندة شعبوية اقتصادية غير قابل للتحقيق على الأرجح.
وفي الوقت نفسه فإن حقيقة أن الرئيس ترامب يطالب في البداية بمطالب قصوى ثم يتراجع عنها تشير إلى أن، بغض النظر عن كلماته، أهدافه الحقيقية هي إعادة التوازن في شروط التبادل التجاري وتوليد الإيرادات.
وهذا منطقي، وقد يحقق إنجازا ملموسا في كلا الهدفين. وإذا نجح في تحقيق مكاسب كبيرة فستبرر الاضطراب الذي يخلقه ترامب.
ويرجح دينيس روس أن يؤثر عدم وضوح الأهداف على رغبة ترامب في إبرام صفقة مع الإيرانيين بشأن برنامجهم النووي. فالرئيس يقول إن إيران لا يمكنها امتلاك سلاح نووي، لكنه لم يحدد المطلوب بالضبط لضمان تحقيق هذه النتيجة.
إذا كانت التجارة هي هدف ترامب الأول، فإن إنهاء الحروب وليس إشعالها هو هدفه الثاني المعلن
وقال مايك والتز، مستشار الأمن القومي السابق في إدارة ترامب، إنه يتعين على الإيرانيين تفكيك بنيتهم التحتية النووية بالكامل. في حين قال ماركو روبيو، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي خلفا لوالتز، إن إيران يمكن أن تمتلك برنامجا نوويا مدنيا ولكن ليس قدرات تخصيب اليورانيوم محليا. ثم تراجع ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس ترامب في المفاوضات مع إيران، عن موقفه الأولي القائل بأن الإيرانيين يمكنهم التخصيب إلى مستويات منخفضة، وهو الآن يردد صدى الوزير روبيو.
وفي المقابل يقول الإيرانيون إنهم لا يريدون سلاحا نوويا، وسيقللون مخزوناتهم من اليورانيوم عالي التخصيب، وسيسمحون بمراقبة التزاماتهم، لكنهم لن يتخلوا عن التخصيب المحلي.
وفي حين يشير تباين مواقف الطرفين إلى أن المفاوضات تواجه طريقا مسدودا، فإن هذه أسباب تدعو للاعتقاد بأنه ما زال في الإمكان التوصل إلى اتفاق. فمن ناحية يحتاج الإيرانيون إلى اتفاق، في ظل المشكلات الاقتصادية الصعبة التي يعانون منها والتدهور الحاد لعملتهم، والنقص الحاد في إمدادات المياه والكهرباء والسخط الشعبي على نظام الحكم.
وليس هذا فقط، فالتهديد الإسرائيلي بقصف المنشآت النووية الإيرانية يظل ذا مصداقية في ضوء تدمير أنظمة الدفاع الجوي الإستراتيجية الإيرانية.
وفي المقابل يرغب ترامب في الوصول إلى اتفاق. فإذا كانت التجارة هي هدفه الأول، فإن إنهاء الحروب وليس إشعالها هو هدفه الثاني المعلن.
ويقول روس إن غياب الأهداف الواضحة ليس قاصرا على ترامب. فغالبا ما افتقر الرؤساء الديمقراطيون والجمهوريون، على حد السواء، إلى أهداف واضحة لأسباب متعددة: فقد فشلوا في دراسة أهدافهم بدقة (باراك أوباما في ليبيا)، أو لم يفهموا معناها على المدى الطويل (جورج بوش الابن في العراق)، أو تبنوها لأسباب سياسية (ليندون جونسون في فيتنام)، أو قبلوها شديدة العمومية ما جعل تحقيقها صعبا (ترامب في غزة).
وكما هو الحال في كل إدارة، يحتاج الرئيس إلى من حوله للمساعدة في ضمان توافق الأهداف مع المصالح الأميركية وقابليتها للتنفيذ.
وأخيرا فإن هناك عاملا آخر يمكن أن يحول دون قدرة ترامب على إدارة شؤون الدولة بنجاح، وهو حرصه الغريزي على رفع سقف المطالب إلى حده الأقصى، ثم التراجع عنه بعد ذلك. فمثل هذا النهج يشجع الأطراف الأخرى على تحدي مطالب ترامب والعمل على تقليصها على أساس أنه لا يتمسك بما يقدمه من مطالب في البداية، وهو ما يفرض تحديات بالغة الصعوبة على السياسة الخارجية الأميركية في جميع المجالات.
اقرأ أيضاً: