غليان في الشارع الأردني: عدم الاستقرار أخطر من أي وقت مضى

عمان – تدخل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني للتهدئة من حالة الاحتقان الاجتماعي والتصعيد النقابي التي تشهدها البلاد بسبب خطة إصلاح يشرف عليها صندوق النقد الدولي، وأوعز إلى الحكومة بتجميد قرار رفع أسعار المحروقات، لكن لا تشي الأجواء بأن الأمر سينتهي عند هذا الحد في ظل المرحلة الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الأردن.
وأعلنت الحكومة الأردنية الخميس عن رفع أسعار رسوم استهلاك الكهرباء للمرة الخامسة منذ بداية العام الحالي، ورفع أسعار المحروقات بنسب وصلت إلى 5.5 بالمئة. وتراجعت الجمعة عن قرارها بعد تدخل العاهل الأردني.
وقال شهود عيان ونشطاء إن تدخل الملك عبدالله الثاني أحبط احتجاجات كان يخطط لها نشطاء مدنيون في العاصمة عمان وفي مدن أخرى ضد زيادة الأسعار بعد صلاة الجمعة. وشهد الأردن في السابق اضطرابات قصيرة الأمد واحتجاجات في العاصمة ومدن أخرى بعد تخفيضات كبيرة للدعم وزيادات في أسعار البنزين بضغوط من صندوق النقد الدولي لم تحظ بقبول شعبي.
يفرض موقع الأردن الحساس جملة من التغييرات الجذرية في طبيعة عمل مؤسسات الدولة والمجالات الخاضعة لها، ويلعب الملك عبدالله دورا حاسما في فرض التوازن وإعادة ضبط الوضع ومنعه من الانفلات.
ويؤكد على ذلك روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى بقوله إن “مهمة منع انزلاق الأردن إلى حالة من عدم الاستقرار تكمن بشكل أساسي في مسؤولية الملك”.
أزمة مزدوجة
شهد النظام القانوني السياسي الأردني في السنوات الأخيرة عددا من التغييرات والتعديلات في مستوى صلاحيات الملك والعمل الحكومي في علاقته بالبرلمان، وفي ذلك ارتباط ليس فقط بالسياق الأمني والعسكري الداخلي والإقليمي والدولي، وإنما بمسألة الإصلاحات الاقتصادية وسياسة التقشف.
ويواجه الأردن أزمة مزدوجة يلتقي فيها الفساد وغياب الإصلاحات المؤثرة مع تداعيات الصراعات في المنطقة والتأثير المباشر للأزمة في سوريا.
ورغم أن الاحتجاجات تكررت كثيرا في الأردن في السنوات الأخيرة، وخصوصا منذ الربيع العربي، وكانت تهدأ في كل مرة، إلا أن المراقبين ينظرون بقلق إلى موجة الإضرابات الأخيرة التي اجتاحت كافة المدن الأردنية، ووصلت إلى حد المطالبة بإسقاط الحكومة.
الاحتجاجات الأردنية لا تهدد خطة الحكومة وصندوق النقد الدولي فقط بل تهدد الاستقرار داخل الأردن الذي استطاع مواجهة اندلاع الربيع العربي قبل سنوات
وفتحت المناسبة الباب أمام اتهامات أطلقها المتظاهرون من خلال هتافاتهم وما رفعوه من لافتات تتهم الحكومة بالفساد.
ويرى مراقبون أن الوضع وصل إلى مرحلة حرجة من التوتر، خصوصا بعد تصعيد النقابات وجمعيات أصحاب المهن، التي نفذت أكبر إضراب من نوعه في البلاد ضد مشروع قانون معدل الضريبة الجديد.
واتخذت الحكومة إجراءات في السنوات الثلاث الماضية استجابة لتوجيهات صندوق النقد الدولي، الذي طالب المملكة بإصلاحات اقتصادية تمكنها من الحصول على قروض جديدة في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة وتجاوز الدين العام 35 مليار دولار.
وكغيرها من برامج الإصلاح الصعبة التي تسببت في احتقان اجتماعي، أثارت خطوات الحكومة غضب الشريحة العريضة من المجتمع الأردني باعتبار أنها المتضرر الأكبر، حيث يقول الخبراء إن القانون الجديد يرفع معدل ضريبة الدخل ويوسع دائرة الشمول للشرائح الأقل دخلا.
ويضيفون أن ما يضاعف من حالة الغضب انتشار الفساد في مؤسسات الدولة والعلاقة المتوترة بين المواطنين والحكومة.
وعكست هذه الاحتجاجات قناعة لدى المواطن الأردني مفادها أنه يعتبر أن خطة صندوق النقد الدولي تستهدفه كمصدر للتعويض عن الخسائر الاقتصادية وأن عليه أن يدفع ثمن سياسات اقتصادية حكومية هي المسؤولة عن مستويات العجز التي يعاني منها اقتصاد البلاد.
وتشمل سلسلة الإجراءات رفع الضريبة على المبيعات بنسبة 16 بالمئة ورفع أسعار الخبز والمحروقات والطاقة ورفع نسب الضريبة على الدخل.
وتهدف هذه الإجراءات وفق خطة الحكومة إلى التخفيف من نسبة الدين العام المقدر حاليا بـ95.8 بالمئة من الدخل القومي. وشهدت كل من عمان والسلط ومعان احتجاجات ليل الخميس الجمعة على قرار الحكومة بشأن رفع أسعار المحروقات، في حين أقدم محتجون في أربد وجرش على حرق إطارات ونادوا بهتافات ضد الحكومة، وإطلاق عيارات نارية في الهواء، كما أغلقوا بالمركبات الطرقات في أربد والزرقاء.
وفي أحدث تصعيد الجمعة، تجمهر عدد من المتظاهرين أمام دار رئاسة الوزراء في منطقة الدوار الرابع وفي منطقة طبربور إجابة لدعوة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي للاحتجاج، وتواجدت قوة أمنية في المكان تحسبا لأي طارئ، في حين تم تفريق المعتصمين بشكل ودي.
ويوضح المحلل الأردني زيد النوايسة أن “الشارع الأردني يتابع بقلق حكومة الملقي وخاصة فريقها الاقتصادي الذي لم ينجح في وقف نزيف المديونية”.
ويعتبر النوايسة أن الملقي أعاد استنساخ تجربة سلفه عبدالله النسور في فرض المزيد من الضرائب خاصة في قطاع الطاقة.
ويرجح النوايسة أن تتصاعد الضغوط ضد الحكومة ورئيسها. لكن، يرى متابعون أن تحميل حكومة الملقي التي تشكلت سنة 2016، على أنقاض حكومة عبدالله النسور، في ظروف مشابهة لما تمر به البلاد اليوم، كل المسؤولية عن تردي الأحوال الاقتصادية غير منصف، فالأزمة تعود لعقود وقد عمقتها صراعات الجوار.
المواطن الأردني يرى أنه مطالب بدفع ثمن سياسات اقتصادية حكومية هي المسؤولة عن مستويات العجز التي يعاني منها اقتصاد البلاد في الوقت الراهن
ويضيف المتابعون أن تحميل مسؤولية ما يعانيه المواطن الأردني فقط إلى الحكومة يبقى أمرا مبالغا فيه، فهناك العديد من الأطراف التي تخلت عن مسؤوليتها، على غرار المعارضة التي ركنت إلى الراحة والخمول دون أن تخلق أدوات ضغط لتحسين أوضاع الناس. أما جماعة الإخوان فوضعها لا يقل سوءا، حيث أنه ورغم عملية “استعراض العضلات” التي تقوم بها الجماعة مع كل أزمة إلا أنها تعجز عن تقديم بدائل واقعية وآمنة بعيدا عن صراخ ساحات الاحتجاج، ومحاولات الاستثمار في غضب الأردنيين.
وهن الاقتصاد الأردني
يعاني الأردن ظروفا اقتصادية صعبة وذلك لعجز مزمن في الموازنة وارتفاع الدين العام، ما دفعه قبل أشهر قليلة للزيادة في الضرائب وإلغاء إعفاءات على سلع أساسية كثيرة.
وأنهى الأردن في يناير الماضي دعم الخبز لترتفع بعض أسعاره إلى المثلين في بلد يعاني من بطالة متزايدة. وما يجري في الحالة الأردنية يكاد يكون تكرارا لحالات مشابهة في دول أخرى لجهة فرض سياسات تقشفية قادت إلى قلاقل في الشوارع.
ويشبه الوضع في الأردن ما حدث في تونس ومصر كما في دول أميركا اللاتينية، حيث سببت إجراءات الإصلاح ضغوطا داخلية لا سيما على الشرائح الاجتماعية المحدودة الدخل التي خرجت إلى الشارع وصعدت ضد الحكومات ضمن موقف صعب حيث هؤلاء على حق والحكومة على حق أيضا.
وينبه محللون لشؤون الاقتصاد النامي إلى أن سياسة ربط الأحزمة واللجوء إلى التقشف وضبط الإنفاق العام قد تكون مطلوبة لكي يفرج المقرضون الدوليون عن الحقن المالية الضرورية لإعادة إطلاق الاقتصادات المريضة، لكن للأمر أضرارا مباشرة على البنية الاقتصادية للمجتمع، ويسبب المزيد من الضغوط على القدرة الشرائية خصوصا لدى الفئة الوسطى والفقيرة، ويتضاعف الخطر حين يرتبط بالفساد وتكون البنية التحتية هشة وعرضة للاختراق من جماعات لا تنشط إلا في الفوضى.
ويحذر الخبراء من أن هذه الإجراءات تبقى موضعية إذا لم تتصاحب مع خطة شاملة تعيد هيكلة الاقتصاد على نحو يضمن تحقيق نمو عام ومستدام على الآجال الطويلة. فالاحتجاجات الأردنية لا تهدد خطة الحكومة وصندوق النقد الدولي فقط، بل تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني داخل المملكة الأردنية التي استطاعت مواجهة اندلاع حريق الربيع العربي قبل سبع سنوات.
خصوصية الأردن
حمل المراقبون مسؤولية ذلك إلى ما وصفوه بضيق أفق البيروقراطيين في الأردن كما داخل المؤسسات المالية الدولية، وسعيهم لمعالجة المعضلات معالجة تقنية حسابية لا تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الأردن ومجتمعه كما خصوصية المناطق المحاذية له، والتي يمكن أن تصدر آفاتها إذا ما ضعفت مناعة البلاد على ردها.
ويقول برلمانيون أردنيون إن الطبقة السياسية تسعى بصعوبة لإدارة أزمة اندلاع الإضرابات والمظاهرات في الداخل الأردني في الوقت الذي يعاني منه الأردن من ضغوط اقتصادية خارجية سببها الأزمة السورية. ويكشف هؤلاء أن الحرب السورية نقلت كتلة بشرية من اللاجئين السوريين يقدر عدد المسجلين منهم بـ650 ألف شخص فيما بعض الأرقام ترفع هذا الحجم إلى مليون يضغطون على البنى التحتية الأردنية وعلى موارد البلد المحدودة.
وتكشف التجارب الماضية، كما التصعيد الراهن، أنه لا يمكن علاج الأزمة الاقتصادية الأردنية بمقاربة جراحية موضعية يفرضها صندوق النقد الدولي، خصوصا أن هذه الإصلاحات لا تحظى برضا اجتماعي ولم تعمل الحكومة ما هو ضروري لتهيئة المجتمع لتقبل هذه الإجراءات بوصفها وصفة للخلاص.
ومع ذلك، قد تكون هذه التدابير مدخلا يعيد إطلاق دينامية اقتصاد البلاد على منوال التجربة المصرية في هذا الصدد باتجاه قيام اقتصاد واعد ومستقر في المستقبل، لكن الأمر يحتاج إلى معالجة تنطلق من البنية التحتية وإعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين بمختلف شرائحهم.
الأردن في موقع جيو-استراتيجي حساس لا يسمح له بالتعامل مع أزمة داخلية كبرى تصل إلى ما يشبه التمرد العام ضد الحكومة حاليا وربما يدفع البعض نحو التمرد ضد النظام السياسي برمته لاحقا.
وبينما تبحث سلطات عمان خلف الكواليس خطة لتأمين حدودها مع سوريا مع ما يستلزم ذلك من يقظة واستعداد لمواجهة أي تهديدات قد يسببها انفجار الوضع في الجنوب السوري، فإن أي انفجار داخلي في الأردن يعني انزلاق البلاد، ذات المركز الاستراتيجي، نحو مآلات لا تحمد عقباها.
إن العمل على تأمين المجال الأردني من أي تأثيرات سلبية تأتي من المحيط الإقليمي سواء من العراق أو سوريا أو لبنان أو فلسطين يعتبر الهدف الرئيسي للمؤسسات السياسية والمجتمع المدني ومؤسسات الحكم في البلاد، ولن تتمكن البلاد من هذا التأمين إلا في حالة توفير الحد الأدنى الأمني والسياسي والاجتماعي الضامن لذلك، فالذهاب نحو إصلاحات اقتصادية صعبة ولها تأثير مباشر على المواطن، يتطلب إيجاد مشهد سياسي ناضج وقادر على إدارة المرحلة بعيدا عن أي شعارات قد تسبب تقويضا أمنيا للبلاد له نتائج لا تقارن مع أزمة اقتصادية عابرة.