غلاء المعيشة يفرز نقمة اجتماعية وبوادر انتقام فئوي في الجزائر

تراجع قيم التضامن والتكافل يضع المجتمع على عتبة التفكك والانقسام.
الأحد 2024/07/14
سلوك أناني

تنتشر حالة من الاستياء والنقمة بين أطياف المجتمع الجزائري بسبب غلاء الأسعار ولجوء بعض الفئات لاسيما مربي المواشي إلى استغلال المناسبات لتحقيق أرباح كبيرة ما أفرز ظاهرة اجتماعية غريبة لم يعتدها الجزائريين الذين باتوا مهددين بالفقر مع استمرار تدهور الطبقة الوسطى.

الجزائر - منذ اجتياح موجة الغلاء لسوق المواشي وحرمان آلاف العائلات الجزائرية من اقتناء أضحية العيد، طفت حالة من الانتقام والتشفي بين فئات المجتمع، حيث وجد مربو المواشي أنفسهم أمام موجة غضب ووعيد بالانتقام منهم، كما عمد تجار وعمال خدمات إلى رفع أسعارهم أسوة بهؤلاء ونكاية فيهم، الأمر الذي يدفع لبروز حالة غير مسبوقة من الانتقام الفئوي، خاصة بعد ظهور مرض أصاب الماشية.

وتصاعدت تعليقات التشفي خلال الأزمة الصحية التي أصابت رؤوس وقطعان الأبقار خلال الأسابيع الأخيرة، والتي كبدت المربين خسائر فادحة بعد تسجيل حالات نفوق ماشية في بعض البؤر بوسط البلاد، وذلك على خلفية الارتفاع الفاحش لأسعار الأضحية، واعتبر هؤلاء أن العدالة الإلهية تنتقم للعائلات والأطفال الذين حرموا من الأضحية بسبب الغلاء.

وعكس مظاهر التعاطف والتضامن التي تميز عادة المجتمع الجزائر في الظروف الاستثنائية، فان حالة من الازدراء والحقد طفت على السطح في الآونة الأخيرة، وهو ما يعتبر مؤشرا غير مسبوق، يزيد من حالة التفكك والانقسام بين طبقات وفئات المجتمع، خاصة مع في ظل توجه الناشطين في المجالات التجارية والخدماتية إلى ترصد أيّ فرصة لرد الصاع لمربي المواشي خلال الأسابيع الماضية.

وسجلت الجزائر تباينا صارخا في أسعار المواشي بين الأسابيع التي سبقت عيد الأضحى وبين الأسابيع التي تلته، حيث تراوحت أسعارها بين 500 و1500 دولار للرأس الواحد، وهو سقف لم يسجل في أيّ سوق إقليمية أو دولية، ثم عادت إلى وضعها الطبيعي، وهو ما دفع المستهلكين إلى التساؤل عن الأمر الذي تغير حتى تختل بهذا الشكل.

المواسم والأعياد تحولت إلى صداع لدى أرباب الأسر نتيجة تراجع القدرة الشرائية ما أدى الى تراجع بعض العادات والتقاليد

ورغم تدخل السلطات المختصة لضبط السوق في مختلف المواد الاستهلاكية، لدرجة سن قوانين رادعة تصل عقوبتها إلى عشر سنوات سجن نافذة وغرامات مالية باهظة في حق المضاربين والمتلاعبين بالأسعار، إلا أنه لم يسجل لها حضور خلال الموجة التي اجتاحت سوق المواشي، مما خلف حالة غضب واستياء اجتماعي، تحولت الى حملة تنمر وازدراء تجاه العاملين في قطاع المواشي.

واعتبر رئيس منظمة حماية المستهلك مصطفى زبدي حينها أن “الرفع الجنوني للأسعار هو سلوك أناني لا يعبّر عن روح التضامن والخفض من هامش الربح، وأن حجج هؤلاء في ارتفاع تكلفة الإنتاج من غذاء وأعلاف لا يبرر عملية رهن المجتمع بين أيدي فئة معينة من المهنيين”.

ولفت إلى أن المواسم الاستهلاكية الكبرى تستوجب حالة من التضامن ومساهمة كل فئات المجتمع في تحقيق الحد الأدنى من التوازن، لأن التوجه في هذا المسار يفكك المجتمع من الداخل ويفرز روحا انتقامية بين مختلف الفئات، فيصبح كل طرف يفكر بأنانية في مصالحه الضيقة فقط دون مراعاة للآخرين.

وعلق مدونون على شبكات التواصل الاجتماعي، من الناشطين في مختلف المجالات والحرف والخدمات، بأن ما لحق بعض مربي المواشي في عدد من مناطق البلاد هو عدالة سماوية أنصفت الأطفال والعائلات التي لم تقدر على اقتناء الأضحية خلال هذا العيد بسبب الأسعار الفاحشة التي طبقها هؤلاء سواء في الأغنام أو رؤوس الأبقار.

في حين توعد آخرون بأنه سينتقم بأسعار مماثلة على مربي المواشي عند توجههم لطلب خدماتهم، ودعوا المصالح الحكومية إلى وقف دعم أسعار الأعلاف لأنها لم تعد مجدية، وأنها تذهب إلى جيوب المربين دون أن يسجل لها أثر على أسعار يفترض أن تكون في متناول أكبر عدد ممكن من العائلات.

وذكرت تقارير محلية بأن انتشار مرض غريب في مناطق بوسط البلاد تسبب في هلاك أعداد من رؤوس الأبقار، وتحدثت عن مرض الجلد العقدي المعدي ولذلك يجري تطويق بؤر الوباء وغلق الأسواق، في انتظار تشخيص المرض وتحضير العلاج اللازم.

غلاء فاحش

وقالت المصادر أن مربي المواشي استفاقوا في الآونة الأخيرة على نفوق الأبقار لأسباب مجهولة، ما زرع الهلع والخوف لدى الفلاحين والموالين في غياب معطيات كافية تمكنهم من الوقاية أو الاستدراك، وأن الخوف والقلق انتقل إلى سكان تلك المناطق الذين خشوا أن ينتقل المرض إلى الإنسان، خاصة أن لا أحد يمتلك معلومات دقيقة وصحيحة عمّا يجري.

وأضافت “من الاحتمالات الواردة هو إصابة الأبقار بمرض الجلد العقدي المعدي البقري، وأن مختصين أشاروا الى ظهور المرض لأول مرة العام 1923 في جنوب أفريقيا، وانتشر بعد ذلك في أفريقيا وآسيا وأوروبا، وأن البؤر سجلت في وسط البلاد على غرار محافظات البليدة، غرداية، الجزائر العاصمة، باتنة، البويرة، بجاية والوادي، وأنه ينتقل عن طريق الحشرات كالذباب والبعوض”.

وباتت ظاهرة الغلاء الفاحش هاجسا يؤرق مختلف الفئات الاجتماعية، بينما يجري تبادل الاتهام باستغلال الوضع للتربح غير المشروع، وتحييد قيم التضامن والتكافل التي كانت تراعي أوضاع الآخرين، بالاقتناع بهامش ربح ضئيل من أجل المساهمة الجماعية في تجاوز الأزمة التي تضرب الجميع.

وتحولت المواسم والأعياد الى صداع حقيقي في رؤوس أرباب الأسر، نتيجة تراجع القدرة الشرائية والغلاء الفاحش، وهو ما أدى الى تراجع بعض العادات والطقوس في محاولة لمواكبة الوضع الاجتماعي والاقتصادي المستجد، حيث بات النزوع إلى الفردانية والانكفاء على الذات مآل العائلات في ظل تفاقم الكلفة المادية للحياة الجماعية والاجتماعية.

الجزائر مع توالي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات الأخيرة تشهد ظهور بوادر تآكل طبقتها الوسطى من الموظفين والعمال

وتشهد الجزائر مع توالي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات الأخيرة، ظهور بوادر تآكل طبقتها الوسطى المشكلة من الموظفين والعمال، وهو ما يعتبر مؤشرات لانحدار هذه الطبقة نحو “الفقر”.

وبات يعيش نحو 23 مليون جزائري ينتمون للطبقة الوسطى أوضاعا صعبة وسط موجات غلاء متواصل للسلع الضرورية والخدمات قد تدفعهم نحو الفقر في ظل سياسات حكومية تفتقد إلى أيّ مساندة أو حماية لهم.

ويصف أستاذ الاقتصاد الاجتماعي في جامعة باجي مختار سعيد بربيش “الطبقة الوسطى” بأنها “ليست غنية إلى درجة تسمح لها بالعيش دون خوف من الظروف الاقتصادية التي تمر بها الجزائر، ولا هي فقيرة إلى درجة تسمح لها بالاستفادة من المنح التي تخصصها الحكومة الجزائرية للفقراء”، وهي تمثل 52 في المئة من سكان البلاد المقدر عددهم بـ45 مليون نسمة، وهي الطبقة التي باتت تعيش حاضرا قاتما وتنتظر المستقبل بتشاؤم كبير.

ويعود ظهور الطبقة الوسطى في الجزائر بشكل خاص من خلال القطاع العام، وخاصة في مرحلة الرهان على التصنيع السريع، حيث كانت الحاجة ماسة إلى مسيرين ومهندسين لترجمة المشروع قبل 50 سنة وإن لم تُحدد لها ضوابط تُمكن من تعريفها، إلا أن بربيش يقول إنه “يمكن تحديدها، حسب الدخل، والتي يمكن حصرها في الأشخاص الذين يتقاضون ما بين 200 و1600 دولار في الشهر”.

وكانت الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان قد دقت ناقوس الخطر، من ازدياد نسبة الفقر في الجزائر بشكل ملحوظ، حيث أكدت أن “مظـاهر الفقر عرفت تحولا كبيرًا في الجزائر بحيث لم يعد الفقر يمس الفئات المحرومة فقط، بل طال الفئات المتوسطة”.

واعتبرت الرابطة في تقرير لها أن “ربع الجزائريين يعيشون تحت خط الفقر الذي تتجلى مظاهره من خلال تدهور المستوى المعيشي وسوء الخدمات الصحية والبطالة وتزايد الراغبين في الهجرة بأيّ ثمن”.

وبعد أن عاشت الطبقة الوسطى في الجزائر فترة مزدهرة منذ 2010 إلى غاية 2014 تميزت برفع أجور عمال القطاع العمومي ورفع الراتب الوطني الأدنى المضمون، إلا أن هذه الشريحة من المجتمع أضحت تعيش حاضرا يتميز بتدهور قدرتها الشرائية جراء انهيار قيمة الدينار وارتفاع الأسعار، بسبب انفلات معدلات التضخم، وهو وضع قد يغير تركيبة المجتمع الجزائري إذا استمر الحال على ما هو عليه.

تراجع القدرة الشرائية

ويعبّر الخبراء عن مخاوفهم من عدم صمود الطبقة الوسطى أمام الصدمة التي تعرض لها الاقتصاد الجزائري جراء انهيار مداخيل النفط، بالإضافة إلى مخلفات الجائحة الصحية، وليست هذه المخاوف بعيدة عن المواطنين الذين باتوا يترقبون انهيارا بات وشيكا لهذه الطبقة في ظل تأكيد التوقعات إلى تواصل ارتفاع مستويات التضخم، ولا وجود لبوادر انتعاش العملة وعودة بريقها.

وكان البنك الأفريقي للتنمية قد كشف في دراسة له أجراها سنة 2021 أن 27 في المئة من الطبقة الوسطى في الجزائر أي ثلثها، بات مهددا بالفقر. ولا يتضمّن القانون الجزائري تعريفًا محددًا للفقر، لكن يمكن اعتماد التعريف الدولي لتحديد الفئة الفقيرة وأبعادها في الجزائر باعتبارها عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتعمل وفق القوانين الدولية.

وتقول الأمم المتحدة إن “الفقر أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، لأن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة إلى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع، وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات”. وبالنظر إلى بعض العناصر المحدَّدة من طرف الأمم المتحدة، تجب الإشارة إلى أن الدستور الجزائري ينصّ على حق التغذية والتعليم والصحة.

لكن الحكومة الجزائرية لا تقدِّم رقمًا محددًا لمواطنيها الذين يعيشون في فقر أو فقر مدقع، إلا أن بعض العمليات التضامنية تعطي فكرة حول عدد الفقراء في البلاد، حتى لو كانت هذه الأرقام غير كافية، ومن هذه العمليات توزِّع الدولة 1.7 مليون قفة رمضانية للعائلات المعوزة في السنة، وإذا تم افتراض أن الأسرة الواحدة تتكون من ثلاثة أفراد على الأقل، فيصبح هذا الرقم يتعدّى 5 ملايين شخص يصنَّفون ضمن الفقراء.

ورغم أن الجزائر حافظت على سياسة الدعم الاجتماعي لسنوات، بهدف تمكين كل المواطنين من العيش الكريم وتبديد الفوارق الاجتماعية، إلا أن هذه السياسة أصبحت سببًا في إفقار بعض الجزائريين.

ويقول المختصون أن سياسة الدعم الاجتماعي التي تُعتبر تقليدًا مقدسًا في الجزائر، كانت غطاء واقيًا لأساسيات العيش الكريم في المجتمع الجزائري في أولى سنوات الاستقلال، لكن مع مرور السنوات صار من الممكن تحديد مواطن الضعف فيها، رغم إيجابياتها ومميزاتها من عدالة اجتماعية والاستجابة لمعايير الكفاءة الاقتصادية، ناهيك عمّا تسبّبه من إنهاك وضغوط على ميزانية الدولة وميزان المدفوعات.

15