عوائد الخليج الإضافية من النفط والغاز تتحول إلى مشاريع للطاقة المتجددة

تسارع الدول الخليجية لتأمين بنية تحتية فعالة للطاقة المتجددة. الثروات المتراكمة عن بيع النفط والغاز تتحول إلى مشاريع تراعي البيئة وتغذي بالحياة عواصم خليجية عالمية كانت لوقت قصير مدنا صحراوية بعدد محدود من السكان.
لندن - مرت 60 عاما حاسمة في الخليج. تحولت المدن الصحراوية التي تضم بضعة آلاف من المواطنين إلى مدن عالمية بفضل ثروات النفط والغاز. الثروات في الخليج، سواء تلك التي تراكمت عبر السنين أو التي تنتظر الإنتاج، فلكية. وتمتلك السعودية وحدها 16 في المئة من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم وهي أيضا ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، وهي مسؤولة عن 15 في المئة من الإنتاج العالمي.
كان عام 2022 سنة استثنائية للسعودية والعديد من الدول المنتجة للنفط والغاز في الشرق الأوسط نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة. وحسب تقديرات أولية عن وزارة المالية في السعودية، سُجّل فائض بقيمة 102 مليار ريال (27 مليار دولار) سنة 2022، وهو ما يمثل 2.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي 2022، سيصل إجمالي الإيرادات إلى حوالي 1.234 تريليون ريال، مقابل إنفاق بنحو 1.132 تريليون ريال.
لكن الأمر لم يكن دائما على هذا الحال. حيث عانت معظم دول مجلس التعاون الخليجي لسنوات من عجز كبير في الميزانية وسط انخفاض أسعار الطاقة. وكانت وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيفات الائتمانية قد قدّرت خلال العام الماضي أن عجز الميزانيات الحكومية في دول مجلس التعاون الخليجي سيصل إلى حوالي 490 مليار دولار بشكل تراكمي بين عامي 2020 و2023 بينما سيرتفع الدين الحكومي بمقدار 100 مليار دولار في 2021.
عائدات استثنائية
ويقول أليكس كيماني في مقال على موقع أويل برايس المتخصص إن الأمور “سارت على نحو أفضل بكثير مما خشي الكثيرون بالنسبة إلى هذه الدول. لكن حكومات الخليج تدرك مدى اعتماد اقتصاداتها على النفط والغاز”.
وتبنت السعودية وجيرانها لهذا السبب التحول في مجال الطاقة. وتستثمر هذه الأطراف الآن بكثافة في الطاقة المتجددة. ووفقا لتقرير مجموعة بوسطن الاستشارية السنوي لعمليات الاندماج والاستحواذ، فإن 10.3 في المئة من جميع معاملات الاندماج والاستحواذ هي صفقات طاقة خضراء، حيث تضاعف نشاط الاندماج والاستحواذ الأخضر أربع مرات منذ 2001. وتقول مجموعة بوسطن الاستشارية إن الشرق الأوسط سجّل 283 صفقة خضراء في الأرباع الثلاثة الأولى من 2022، وهو ما يمثل زيادة قدرها 16 في المئة من نفس الفترة من العام الماضي بقيمة إجمالية قدرها 23.8 مليار دولار. ويتوقع التقرير استمرار الاعتبارات البيئية في دفع عدد متزايد من الصفقات، على الرغم من ظروف الاقتصاد الكلي غير المواتية.
وقال إيهاب خليل، وهو شريك ومدير إداري لوحدة الخدمات المالية لكبار المستثمرين والأسهم الخاصة في مجموعة بوسطن للاستشارات الشرق الأوسط، إن “للصفقات الخضراء شعبية متزايدة في المنطقة. تعدّ معاملات الاستدامة المتصاعدة في الشرق الأوسط نتيجة واضحة لبرامج التحول الوطني الراسخة التي تسعى لتحقيق مخرجات اقتصادية متنوعة للبلدان التي تسير إلى صافي الصفر. ستؤتي عمليات الاندماج والاستحواذ الخضراء ثمارها مع استمرار المنطقة في ترسيخ نفسها كمركز يمكن أن يزدهر فيه التعاون والتنويع”.
السعودية والإمارات في الصدارة
كما أظهر تحليل مجموعة بوسطن الاستشارية أن الصفقات الخضراء تخلق على مستوى العالم قيمة أكبر مقارنة بتلك غير الخضراء عند الإعلان وعلى مدار العامين التاليين على الرغم من الأقساط الكبيرة التي تتطلبها في كثير من الأحيان. وفقا للتقرير، فإن متوسط العائد الإجمالي النسبي للمساهمين لمدة عامين للصفقات غير الخضراء (-0.55 في المئة) يتجاوز متوسط عائد الصفقات الخضراء (-2.38 في المئة). ومن خلال تحليل العائد التراكمي غير الطبيعي لفترات مدتها ثلاثة أيام قبل إعلان الصفقة وبعدها، وجدت مجموعة بوسطن الاستشارية أن متوسطه للمعاملات المتعلقة بالبيئة (1.0 في المئة) أعلى بشكل هامشي من الصفقات غير الخضراء (0.0 في المئة).
وتتصدر السعودية والإمارات من بين جميع دول الخليج الطريق في استثمارات الطاقة النظيفة. ويحتاج الأمر إلى التعمق في كيفية إعادة تصنيف هذين البلدين وتنويع اقتصاداتهما بعيدا عن النفط.
على الرغم من أن وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان قد أحدث ضجة في المجتمع النفطي العام الماضي بعد أن أخبر بلومبيرغ نيوز أن المملكة ستضخ آخر قطرة نفط ينتجها العالم، إلا أن السعودية قد صنعت واحدة من أكثر مخططات الطاقة النظيفة طموحا: الرؤية الاقتصادية 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
وحددت المملكة في الخطة الاقتصادية هدفا لتطوير ما يقرب من 60 غيغاوات من الطاقة المتجددة بحلول نهاية العقد، وهو ما يقارن بالقدرة المركبة التي تبلغ 80 غيغاوات تقريبا من محطات الطاقة التي تحرق الغاز أو النفط. وقد أحرزت السعودية حتى الآن تقدما محدودا في نشر مصادر الطاقة المتجددة باستخدام 300 ميغاواط فقط من الطاقة الشمسية على نطاق المرافق في حين تبقى 400 ميغاواط من طاقة الرياح قيد الإنشاء.
وتعد السعودية، بمساحاتها التي تتمتع بأشعة الشمس ونسيم البحر الأحمر، مكانا رئيسيا لتوليد الطاقة المتجددة. وسببت شركة النفط الوطنية السعودية أرامكو في العام الماضي صدمة في أسواق الغاز الطبيعي بعد أن أعلنت أنها أطلقت أكبر مشروع للغاز الصخري خارج الولايات المتحدة. وقالت إنها تخطط لإنفاق 110 مليارات دولار على مدى العامين المقبلين لتطوير حقل غاز الجافورة الذي يقدر أنه يحتوي على 200 تريليون قدم مكعب من الغاز. وتأمل الشركة المملوكة للدولة في بدء إنتاج الغاز الطبيعي من الجافورة في 2024 والوصول إلى 2.2 مليار قدم مكعب في اليوم من مبيعات الغاز بحلول 2036 مع 425 مليون قدم مكعب يوميا من الإيثان. كما أعلنت أرامكو قبل سنتين أنه بدلا من تبريد كل هذا الغاز وتصديره على أنه غاز طبيعي مسال، فإنها ستحوله إلى الهيدروجين الأزرق الأنظف.
كما أبلغت المستثمرين أنها تخلت عن خططها الفورية لتطوير قطاع الغاز الطبيعي المسال لصالح الهيدروجين. وقال أمين بن حسن الناصر، رئيس شركة أرامكو وكبير الإداريين التنفيذيين، إن خطة المملكة الفورية تكمن في إنتاج ما يكفي من الغاز الطبيعي للاستخدام المنزلي لوقف حرق النفط في محطات توليد الكهرباء وتحويل الباقي إلى هيدروجين. ويتكون الهيدروجين الأزرق من الغاز الطبيعي إما عن طريق إصلاح الميثان بالبخار في نظام إنتاج الهيدروجين أو الإصلاح الحراري التلقائي مع التقاط ثاني أكسيد الكربون المتولد ثم تخزينه. ويخفف التقاط الغازات الدفيئة من الآثار البيئية على مستوى الكوكب.
وأرسلت أرامكو في 2020 أول شحنة من الأمونيا الزرقاء في العالم من السعودية إلى اليابان. وتبحث اليابان، التي تجعلها تضاريسها الجبلية ونشاطها الزلزالي الشديد غير مناسبة لتطوير الطاقة المتجددة المستدامة، عن موردين موثوقين لوقود الهيدروجين مع المملكة وأستراليا في قائمتها المختصرة.
المحطة النووية أكبر مولد للكهرباء في الإمارات العربية المتحدة منذ وصولها إلى مستوى تشغيل بنسبة 100 في المئة
وتعمل الحكومة السعودية أيضا على بناء محطة هيدروجين خضراء بقيمة 5 مليارات دولار ستعمل على تشغيل مدينة نيوم الضخمة المخطط لها عند افتتاحها في 2025. وسيستخدم مصنع الهيدروجين، الذي يطلق عليه اسم هيليوس غرين فيولز، الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتوليد 4 غيغاواط من الطاقة النظيفة التي ستستخدم لإنتاج الهيدروجين الأخضر. والأهم أن شركة هيليوس يمكن أن تنتج قريبا هيدروجينا أخضر أرخص من النفط.
وتقدّر بلومبيرغ نيو إنيرجي فاينانس أن تكاليف شركة هيليوس يمكن أن تصل إلى 1.50 دولار للكيلوغرام بحلول 2030، وهي أرخص بكثير من متوسط تكلفة الهيدروجين الأخضر عند 5 دولارات للكيلوغرام وحتى أرخص من الهيدروجين الرمادي المصنوع من تكسير الغاز الطبيعي. وتتمتع السعودية بميزة تنافسية جادة في تجارة الهيدروجين الأخضر بفضل سطوع الشمس الدائم والرياح والمساحات الشاسعة من الأراضي غير المستخدمة.
وقالت ألمانيا إنها بحاجة إلى كميات “هائلة” من الهيدروجين الأخضر، وتأمل أن تصبح السعودية مصدّرا رئيسيا. والتزم مجلس الوزراء الألماني قبل عامين باستثمار 9 مليارات يورو (حوالي 10.2 مليار دولار) في تكنولوجيا الهيدروجين في محاولة لإزالة الكربون من الاقتصاد وخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. واقترحت الحكومة بناء قدرة تحليل كهربائي تبلغ 5 آلاف ميغاواط بحلول 2030 و5 آلاف ميغاواط أخرى بحلول 2040 على مدى العقد التالي لإنتاج وقود الهيدروجين.
ويقول كيماني “أدركت القوة الاقتصادية الأوروبية أنها لا تستطيع السير بمفردها وستتطلب مصدّرين منخفضي التكلفة مثل السعودية خاصة لأنها تضاعف التزاماتها المتعلقة بالطاقة الخضراء بعد سلسلة من الفيضانات المدمرة في البلاد”.
أعلنت مؤسسة الإمارات للطاقة النووية العام الماضي بدء تشغيل أول محطة للطاقة النووية في البلاد، وهي محطة براكة للطاقة النووية.
تحويل النفايات إلى طاقة
وأصبحت المحطة النووية التي تبلغ طاقتها 1400 ميغاواط أكبر مولّد للكهرباء في الإمارات العربية المتحدة منذ وصولها إلى مستوى تشغيل بنسبة 100 في المئة في أوائل شهر ديسمبر، وهي الآن توفر “كهرباء ثابتة وموثوقة ومستدامة على مدار الساعة”. وتقول مؤسسة الإمارات للطاقة النووية إن الوحدة تقود الآن أكبر جهد لإزالة الكربون من أي صناعة في الإمارات حتى الآن.
كما تضع الإمارات أساسا قويا لانتقال الطاقة على خطى السعودية. وتعمل شركة “مصدر”، ذراع الطاقة النظيفة لصندوق مبادلة السيادي في أبوظبي، على بناء قدرات متجددة في آسيا الوسطى بعد توقيع صفقة في أبريل 2021 لتطوير مشروع للطاقة الشمسية في أذربيجان.
وعملت “مصدر” منذ إنشائها في 2006 على بناء مجموعة من أصول الطاقة المتجددة في 30 دولة مختلفة، حيث استثمرت حوالي 20 مليار دولار لتطوير 11 غيغاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وقدرات توليد الطاقة من النفايات إلى طاقة.
الحكومة السعودية تعمل على بناء محطة هيدروجين خضراء بقيمة 5 مليارات دولار ستعمل على تشغيل مدينة نيوم الضخمة المخطط لها عند افتتاحها في 2025
والآن تقول “مصدر” إنها تعتزم تطبيق الدروس المستقاة من الخارج لتطوير قدرة الطاقة النظيفة في الوطن. وذكر محمد جميل الرمحي، الرئيس التنفيذي لشركة أبوظبي لطاقة المستقبل “مصدر”، أن الحلول التي طورتها المؤسسة في عملياتها الدولية ستكون لها تطبيقات في الإمارات.
كما تخطط “مصدر”، على سبيل المثال، لتعزيز موارد الرياح الضعيفة نسبيا في الإمارات عبر تطوير مزارع الرياح المحلية باستخدام توربينات قادرة على توليد الكهرباء حتى عند انخفاض سرعات الرياح. كما تعمل الشركة على بناء منشأة بقيمة 1.1 مليار دولار لحرق الفضلات وتوليد الطاقة في واحدة من أكبر محطات تحويل النفايات إلى طاقة في العالم. وستحرق المصانع بمجرد اكتمالها ما يقرب من ثلثي النفايات المنزلية التي تولّدها الدولة سنويا.
على الرغم من أن محطات تحويل النفايات إلى طاقة الحديثة لا تعتبر عادة مصدرا نظيفا للطاقة، إلا أنها أكثر نظافة من بدائلها حسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وتعتمد هذه المصانع التقنيات المتقدمة لحرق النفايات في درجات حرارة عالية وضمان الاحتراق الكامل، مما يترك كميات قليلة من المنتجات الثانوية السامة مثل الرماد المتطاير. وقد أظهرت الاختبارات أن الهواء المنبعث من مداخن معينة لتحويل النفايات إلى طاقة يمكن أن يكون أنظف من الهواء المتدفق إلى الداخل.