عن أي دولة فلسطينية يتحدث الرئيس الأميركي

بايدن يريد طمأنة الديمقراطيين والعرب بقدرته على الضغط على نتنياهو.
الأحد 2024/01/21
لفتة أميركية متأخرة

حديث الرئيس الأميركي جو بايدن عن خيار الدولتين جاء فضفاضا، وبدا الهدف منه رفع الحرج عن إدارته داخليا وخارجيا. وبدلا من الضغط لوقف عمليات التقتيل والتهجير سعى بايدن إلى تقديم مخرج لبنيامين نتنياهو بالتلميح إلى أن الدولة الفلسطينية المقترحة قد تكون منزوعة السلاح.

القاهرة - بدا حديث الرئيس الأميركي جو بايدن عن دولة فلسطينية بعد اتصال هاتفي أجراه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الجمعة، وكأنه طوق نجاة لكثيرين سئموا رفض الأخير لهذا الخيار، وحرصه على عدم خروجه لمناقشته في النور، وتصور البعض ممن استمعوا إلى نتيجة الاتصال أن بايدن عازم على تطبيق حل الدولتين، لكن هناك من راودتهم الشكوك عندما فكروا في المعاني الخفية التي حملها، والأجواء التي ساق فيها الرئيس الأميركي إيجازه واستفاضته نظريا حول أهمية تحقيقه.

أراد جو بايدن التأكيد على أنه لم يفقد بعد قدرته للضغط على نتيناهو بإشارته إلى أنه لم يعترض على خيار الدولة الفلسطينية، وهو الذي تحدث قبل أيام قليلة عن ممانعة قاطعة، ويسعى دوما نحو إنهاء كل بريق مبكرا يمكن أن يفتح طاقة أمل له، وظهر رئيس الحكومة الإسرائيلية كأنه يتحدى عمدا رؤى الإدارة الأميركية حاليا، ويحتفظ بهامش للخلاف معها والهروب من ضغوطها السياسية.

كشفت مكالمة بايدن مع نتنياهو بعد انقطاع امتد نحو شهر أن الرجل أقنعه بحاجته إلى إبداء مرونة شكلية في مسألة الدولة، لأنها تحمل عوامل فنائها وعليه فقط أن يساعده في الانحناء لعاصفة حادة تتعرض لها الإدارة الأميركية من داخل الحزب الديمقراطي، والعتب الذي يواجهه من قبل بعض القادة العرب الذين ربطوا التطبيع النهائي مع إسرائيل بالحديث عن حل مناسب للقضية الفلسطينية.

جاءت إشارات بايدن والطاقم السياسي والدبلوماسي في إدارته خطابا فضفاضا كي يتخطى عقبات مرحلة الانتخابات التي يتوقع الديمقراطيون أن تكون شرسة في المنافسة مع الحزب الجمهوري، وسترخي الحرب على غزة بظلالها عليها ما لم يحاول بايدن الإيحاء بأن لديه إنجازا خارجيا ملموسا.

تلميح بايدن إلى وجود دول في الأمم المتحدة لا تملك جيوشا يظهر أن فكرته تعني أنه يريد دولة فلسطينية منزوعة السلاح
◙ تلميح بايدن إلى وجود دول في الأمم المتحدة لا تملك جيوشا يظهر أن فكرته تعني أنه يريد دولة فلسطينية منزوعة السلاح

ويعتقد أن المتاجرة بالدولة الفلسطينية يمكن أن توفر له قدرة على امتصاص الغضب المتنامي داخل حزبه بشأن التخلي عن بعض ثوابته الخارجية، بسبب الدعم الكبير الذي قدمته واشنطن لإسرائيل ولم توضع له ضوابط تؤدي لتخفيف اتهامات بأنها تشارك في إبادة الشعب الفلسطيني، فضلا عن تقويض دورها في منطقة الشرق الأوسط، ما يمنح قوى أخرى فرصة للتقدم في بيئة تبدو أكثر استعدادا لتقبل أدوار من الصين وروسيا، ورفضا للولايات المتحدة ودول أوروبية عدة بسبب الموقف من حرب غزة.

ساق بايدن سرديته للدولة الفلسطينية، ومعه بعض الدول الغربية، في صورة تريد دوائر عربية كثيرة سماعها بسبب حيرتها بين التطبيع مع إسرائيل وبين التزاماتها بشأن ثوابت القضية الفلسطينية، وحاول تطويق غضبة مكتومة ليعطي أملا بأن واشنطن لم تتخل عن منهجها في هذا الشأن.

ويرد أيضا على حملة اعتراضات تتصاعد داخل الحزب الديمقراطي جراء التصاق الإدارة الأميركية أكثر من اللازم بالحكومة الإسرائيلية اليمينية منذ بداية الحرب ومن دون أن تحصل واشنطن على ما يفيدها سياسيا، أو على الأقل يمنحها قدرة لعدم مبارحة مقعدها المركزي في عملية التسوية السياسية في المنطقة.

توقف عدد من الإشارات الغربية عند مشروع الدولة الفلسطينية ولم يكلف أحد القادة نفسه تشجيع وقف إطلاق النار والإعلان عن إجراءات محددة للضغط على إسرائيل، وعلى العكس استخدمت واشنطن الفيتو في مجلس الأمن الدولي لتعطيل قرار يفتح بارقة أمل لوقف الحرب، وفي خضم حديث عدد كبير من المسؤوليين الأميركيين عن الدولة الفلسطينية (الوهمية) كانوا يباركون عمليات التصعيد الإسرائيلي في غزة.

تقلل هذه الإزدواجية أو الشيزوفرينيا من قيمة أي معاني حول الدولة المزعومة، وتحصرها في نطاق الدعاية السياسية الفجة، وتوصيل رسائل إلى من يهمهم الأمر في المنطقة، لأن أي دولة يتم طرحها بحاجة إلى رؤية تجيب على حزمة كبيرة من الأسئلة البديهية التي يمكن أن توفر لها فرصة للتحقق، فما بالنا بالحياة والاستمرار؟

أكد تلميح بايدن إلى وجود دول في الأمم المتحدة لا تملك جيوشا أن فكرته تعني أنه يريد دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وهو ما جرى طرحه منذ سنوات طويلة، وقد يقبل به البعض من الفلسطينيين والعرب، لكن المشكلة في أن هذه الدولة سوف تكون مقطعة الأوصال في ظل طوفان المستوطنات الذي ابتلع مساحات كبيرة من أراضي الضفة الغربية، ولا أحد يتحدث عن مصيره بدقة.

يرمي وضع شماعة التعثر على عاتق حركة حماس وحدها إلى تبرئة نتيناهو وأعضاء حكومته المتطرفة وكل المستوطنين من أي مسؤولية، ويؤكد تجاهل بايدن الوقوف عن القضايا التي يثيرها هؤلاء وتنسف حلمه الظاهر على السطح في دولة فلسطينية، بغض النظر عن صورتها، عنصر الربا السياسي، وأن الأدبيات التي يعلن عنها من وقت لآخر حول المشروع تحصره في حيز الشعارات، وبالتالي عدم خروجه للنور مستقبلا، طالما أن أشد الإسرائيليين اعتدالا يتجنبون الخوض في تفاصيل ملف الدولة.

◙ تلميح بايدن إلى وجود دول في الأمم المتحدة لا تملك جيوشا يؤكد أن فكرته تعني أنه يريد دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وهو ما جرى طرحه منذ سنوات طويلة

خسرت الإدارة الأميركية بترديدها شعارات تجاوزها الزمن، لأن مضامينها فارغة، ويؤكد ما خلقته الحرب الراهنة وتداعياتها السياسية والأمنية الحاجة لرؤية واضحة، ولن يعيد الزمن دورته ليجلس الفلسطينيون سنوات حول طاولة مفاوضات تنتقل من عاصمة إلى أخرى بلا فائدة، وتصبح المحادثات أشبه بروتين غربي أو تمرين للعصف الذهني يمارسه إسرائيليون للتفكير في كيفية تفادي الوصول إلى نقطة تجبرهم على التسليم بأن التسوية ممكنة وتحمل منهجا يقبل التطبيق.

للدولة الناشئة، فلسطينية أو غيرها، مجموعة من العناصر تمثل الحد الأدنى لتستطيع مقاومة ما يمكن أن تواجهه من رياح خفيفة، وإذا كانت هذه الرياح تأتي من إسرائيل لابد أن تكون العناصر أو المحددات اللازمة لديها قدرة على الصمود حتى لا يقتلعها عنف يمارسه مستوطن جرت تنشئته على أن الفلسطيني والإسرائيلي لا يجتمعان.

والمشكلة أن ممارسات حكومة نتنياهو تكرس هذا النهج بإمعانها في التقتيل والتهجير وتدمير مقومات الحياة في غزة، ولم تخل الضفة الغربية من تصرفات تصب في هذا الاتجاه، ناهيك عن سيناريوهات قاتمة يتم تداولها لليوم التالي لوقف الحرب، وتدعم اليد الطولى لإسرائيل، وتنهي المظاهر الطفيفة للقوة المعنوية والمادية للفلسطينيين، مع وضع فيتو لأي دور لحماس ولو نجح بعض المنتمين إليها عن طريق انتخابات.

يتحدث جو بايدن بما يشي بالثقة في فكرته وإمكانية تطبيقها وهو يرى إسرائيل تمارس غيّها السياسي والعسكري، ولا يستطيع الضغط عليها للتوصل إلى هدنة طويلة وزيادة عدد القوافل التي تحمل مساعدات، ويعد القبول بأي مناقشة للصورة المطلوبة لشكل الدولة عملية مستحيلة، ولذلك فعن أي دولة فلسطينية يتحدث الرئيس الأميركي؟

4