على المترجمين العرب استغلال آلات الترجمة بدل محاربتها

المترجم العُماني أيمن العويسي: الترجمة ليست عملية لغوية صرفة.
الثلاثاء 2021/12/21
الترجمة تبني الحضارات

هناك الآلاف من اللغات في العالم، والمترجمون هم الخيط غير المرئي الذي يجعل متحدثي هذه اللغات على تواصل في ما بينهم؛ إنها الترجمة وحدها التي تدمج الثقافات وتجعل جسر الاتصال دائما ممدودا، واضعة التفاهم وتقبُّل الآخر شرطا لعبوره. في إطلالة على واقع الترجمة وأهميتها كان هذا الحوار مع المترجم العماني أيمن بن مصبح العويسي.

مسقط – حقق المترجم العُماني أيمن بن مصبح العويسي حضورا أدبيا مُغايرا من خلال تتبعه لأثر الثقافة العُمانية وجذورها في كتابات الباحثين الغربيين، فهناك العديد من الكتب النوعية التي قام بنقلها إلى العربية ولاقت إقبالا مميزا من قِبل المتتبعين للتاريخ العُماني منذ عقود ماضية حتى يومنا الحاضر.

من بين تلك الكتب التي نقلها المترجم أيمن العويسي إلى اللغة العربية كتاب “تاريخ عُمان الحديث”، الذي حظي بجائزة الإبداع الثقافي لعام 2021 (الدورة الثانية عشرة)، كأفضل إصدار في الترجمة من لغات مختلفة إلى اللغة العربية، مناصفة مع كتاب “دولة زنجبار العربية” للمترجمة رحمة الحبسية، وقد نظّمتها الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء.

ويستعرض هذا الكتاب تاريخ عُمان الحديث بدءا من القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا، ويضم بين جنباته أحدث الدراسات العلمية التي كُتِبت عن عُمان، يتخللها بعض التحليلات التي استقاها الكاتبان جيرمي جونز ونیكولاس ریدوت من قراءتهما للسياسات التي تنتهجها عُمان الحديثة فضلا عن علاقاتها الدولية في الوقت الراهن، حيث انتهج الكاتبان نهجا مميزا وجديدا في دراسة التاريخ العُماني، ومزجا بين الدراسات السياسية والثقافية.

ويتناول الكتاب أيضا مجموعة من المواضيع المهمة حول عُمان من بينها “الكوزموبوليتانية التاريخية” العُمانية، والدور العُماني المميّز دينيا وفي الحياة الثقافية والسياسية في المنظقة، ودور عُمان في الاقتصاد العالمي في القرن العشرين.

التواصل بين الثقافات

الترجمة وحدها التي تدمج الثقافات

في هذا الإطار يتحدّث المترجم أيمن العويسي أيضا عن الأسباب التي دعته إلى ترجمة كتاب آخر حمل عنوان “عُمان الثقافة والدبلوماسية” والخطوات المحفّزة للأخذ بهذا المشروع ويقول مُفصلا “حين ترجمتُ كتاب تاريخ عُمان الحديث للكاتبين البريطانيين جيرمي جونز ونيكولاس ريدوت في عام 2018، رأيت فيه إشارات كثيرة لكتاب ‘عُمان الثقافة والدبلوماسية‘، فقررت قراءته لأرى إمكانية تبنّيه ليكون المشروع القادم؛ لما رأيت فيه من مواضيع مهمة تتصل بالثقافة العُمانية ومساهمتها في صياغة الدبلوماسية العُمانية بشكلها الحديث، وكعادته أبدى محمد هادي مدير دار الرافدين استعداده لتبنّي هذا المشروع والبدء في إجراءات الحصول على حقوقه، لكن اللجنة الوطنية للشباب في عُمان (سابقا) كانت قد حصلت على حقوقه لأحد مشاريعها، وبعد تواصل معهم عقدنا شراكة بين اللجنة والدار للشروع في هذا العمل الذي أرجو أن يكون إضافة للمكتبة العربية”.

ويُضيف العويسي مُفسّرا ماهية الكتاب وما جاء فيه من تفاصيل “تناول الكاتبان في صفحات كتاب ‘عُمان الثقافة والدبلوماسية‘ مجموعة من المواضيع المتعلّقة بنشأة الدبلوماسية العُمانية وعلاقتها بثقافة البلاد وكيف أثّر كلّ منهما في الآخر“.

وقسَّم الكاتبان عملهما إلى ثلاثة أجزاء؛ تناول الجزء الأول كوزموبوليتانية العُماني وانفتاحه على المحيط الهندي، وناقشا مساهمة هذا الانفتاح في تشكيل ثقافة الدبلوماسية العُمانية، وينتقلُ الكاتبان في الجزء الثاني لتحليل علاقات عُمان بمحيطها بدءا من أعمال القرصنة في الخليج والمحيط خلال تلك الحقبة، وعلاقات عُمان بالقوى البارزة آنذاك كجمهورية ميسور والإنجليز وأميركا وفرنسا وغيرها.

ويختتم الجزء الثالث من هذا الكتاب بالحديث عن إدارتها للعلاقات مع جيرانها، ودورها في عملية السلام في الشرق الأوسط، وينتهي هذا الجزء الأخير بسرد مبادرات عُمان في سبيل تعزيز دبلوماسيتها الخارجية كالكراسي العلمية والرحلات البحرية التي تُعيد إحياء أمجاد أسلاف العُمانيين.

وفي ما يتعلّق بالنهج المُتّبع لترجمة هذا الكتاب يُشير العويسي إلى أنه انتهج ذات النهج الذي اتبعه في ترجمة كتاب “تاريخ عُمان الحديث” بالرجوع إلى المصادر التاريخية وأهل الاختصاص في التاريخ للتحقق من بعض المعلومات الواردة في الكتاب وكيف كانت في أصلها.

يلفت العويسي إلى كيفية مساهمة الترجمة في تضييق الفجوة الثقافية بين الشعوب، وأكثر المجالات حظوظا في نقلها للآخر ضمن سياق الترجمة وهنا يقول “هناك مفاهيم تتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن الترجمة؛ مثل اللغات والثقافات والحضارات والتفاهم والتواصل وغيرها؛ لكونها ترتبط ارتباطا وثيقا بالترجمة؛ فهي في جوهرها انتقال بين لغتين وثقافتين وحضارتين بهدف مدّ جسور التواصل والتفاهم بينهما”.

الترجمة الأدبية بأنواعها تحتاج إلى نفس إبداعي قبل النفسِ الترجمي؛ لكون المترجم الأدبي ينتج نصا إبداعيا بدوره

ويضيف أنّ الترجمة ساهمت أيَّما إسهام في التواصل بين مختلف الشعوب خاصة في عصرنا الحديث مع ما يشهده العالم من انفتاح وتقارب بين مختلف الشعوب، مُشيرا إلى أنه شارك في شهر نوفمبر الماضي في مؤتمر دولي ضمَّ أكثر من 1000 مشارك من كافة بقاع الأرض، يتحدثون بشتى اللغات أمام جمهور لا يتقن لغتهم، بيد أن المترجمين جعلوا كل متحدث يخاطب الحاضرين وكأنهم من بلده وثقافته، دون أن يشعر بأنه يتحدث إلى أشخاص ربما لم يسمعوا قط لغته التي يتحدث بها؛ فكان المترجم جسرا تعبر منه الثقافات لتلتقي في جزيرة واحدة تتحدث لغة واحدة وهي لغة الترجمة، وسألت نفسي حينها كيف سيغدو كوكبنا بلا ترجمة؟ وكيف سنتواصل مع الآخر؟

ويذكر أن “الترجمة ساهمت عبر العصور في بناء الحضارات، فحين تنشأ حضارة جديدة فإنها تُكمل ما بدأته الحضارات الأخرى، فتتعلم من دروسها وتستقي من معين علمها، وهذا الأمر لم يكن ليتحقق لولا الترجمة التي جعلت هذه الحضارات وكأنها حضارة واحدة تتشارك علومها وإنجازاتها، وقد نالت الترجمة الأدبية نصيبها في عصرنا الحالي من الإنتاج الترجمي، ومع أهمية الأدب في التعرُّف على ثقافة الآخر، والحاجة إلى المزيد من الجهود في ترجمة العلوم بشتى مجالاتها لتنهض حضارتنا مجددا والكتابة بلغتنا إلى الآخر، كما قامت الحضارة الغربية على أنقاض الحضارة الإسلامية”.

وفي إشارة أخرى إلى الترجمة الأدبية كونها من أصعب مجالات الترجمة، إذ لا بد من فهم الصور الجمالية والتعبيرية والاستعارات ونقل الحالة الشعورية من لغة إلى أخرى، هنا يتحدّث العويسي حول ما إذا كان هذا المعتقد حقيقيا أم لا ويقول “من تجربتي الشخصية في ترجمة رواية ‘الجاسوس‘ لمكسيم غوركي عايشتُ هذا النوع من أنواع النصوص عن قُرب، وأستطيع القول إنّ ما كتبته صحيح كليا؛ فالترجمة الأدبية بأنواعها تحتاج إلى نفسِ إبداعي قبل النفسِ الترجمي؛ لكون المترجم الأدبي ينتج نصا إبداعيا لقراء من لغة أخرى وثقافة أخرى تحوي كتابتها الإبداعية على شروط وعناصر يتعيّن على المترجم الأدبي معرفتها وهو يخوض غمار هذه التجربة، وأعتقد أن هذا الأمر دفع الجاحظ ليقول يوما باستحالة ترجمة الشعر”.

ويُضيف “الشعر لا يُمكن أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطَّع نظمُه، وبطَل وزنُه، وذهب حُسنه، وسقط موضع التعجب منه، ليس مثل الكلام المنثور، المبتدَأ على ذلك أحسنُ وأوقع من المنثور الذي تحوَّل من موزون الشعر. لكننا نرى اليوم محاولات ناجحة لترجمة الشعر، وهذا برأيي يعود لكون المترجم شاعرا في الأصل قبل أن يكون مترجما، وأذكر تحديدا المترجم الشاعر محمد الصارمي الذي له إصدارات شعرية مترجمة لاقت قبولا بين القراء”.

الترجمة والآلة

احتفاء بتاريخ سلطنة عمان

وفي الإطار ذاته حيث نعيش العالم في هذا العصر حيث زخم التواصل والاتصالات، يوضح العويسي ما إذا كانت الحاجة إلى الترجمة زادت أم أن التكنولوجيا أصبحت تُغني عن المترجمين خصوصا أن جوجل أعلنت عن نظام الترجمة الآلية العصبية، وما إذا ما تقوم به هذه المواقع والتقنيات يشبه ما يفعله المترجم وهنا يؤكد أن تقنيات الترجمة خطت خطوات غير مسبوقة خلال السنوات الماضية؛ إذ عكف الباحثون والمخترعون على تقديم حلول تسهّل من عملية الترجمة وتدخل الآلة فيها، وحققت هذه الجهود نجاحات مبهرة تارة وفشلت فشلا ذريعا تارة أخرى.

ويوضح أنه “عند الحديث عن تقنيات الترجمة نتحدّث عن الترجمة الآلية وبرامج الترجمة بمساعدة الحاسوب، والقواميس الإلكترونية وذواكر الترجمة وغيرها من الأدوات، على سبيل المثال عن الترجمة الآلية، فقد مرّت بمراحل مختلفة منها مرحلة الترجمة الآلية الإحصائية التي كانت سائدة إلى زمن ليس ببعيد حتى أتت الترجمة الآلية العصبية لتحل محلها، إذ كان النوع الأول ينتج نصوصا ركيكة تعتمد على إحصاءات وخوارزميات لغوية بعيدة كل البُعد عن السياق، لكن الترجمة الآلية العصبية أدخلت مفهوم الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق للآلة لتجعل الآلة تترجم وفق سياقات محددة وباستخدام ترجمات بشرية سابقة، الأمر الذي عزز من جودتها؛ لكننا لم نستغنِ عن المترجم إلى الآن، لماذا؟”.

وهنا يُجيب العويسي بقوله “لكون الترجمة ليست عملية لغوية صرفة تستطيع الآلة نقلها بكل سهولة؛ فالنصوص تحمل بين طياتها عناصر ثقافية ودينية وسياسية واجتماعية تعجز الآلة عن فكها، أضف إليها المشاعر الكامنة بين حروفها. لذا أعتقد أن هذه التقنيات ليست تحديا وإنما ستُعين المترجم على تجويد عمله وتسريع وتيرته، الأمر الذي حدا بكثير من المؤسسات التعليمية إلى إدخال تقنيات الترجمة في مناهجها التعليمية، مثل قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس، والذي وقّع اتفاقية تعاون مع الشركة المزوّدة لبرنامج ‘الميموكيو‘ الذي يُعدُّ من البرامج الرائدة في مجال الترجمة بمساعدة الحاسوب أو ما يُسمّى بـCAT tools”.

ويتابع “كما عمدت بعض البرامج الأكاديمية إلى تدريس مادة التحرير اللاحق والتي تتضمّن مراجعة المترجم لنصوص ترجمتها الآلة وإدخال اللمسات البشرية عليها، مما يعني دقة في العمل وسرعة في الإنجاز؛ ولكن علينا أن ننتبه إلى أن هذه المرحلة لا تأتي إلا بعد سنوات من تعليم الطالب مهارات الترجمة والمهارات اللغوية التي يستطيع من خلالها تطويع النص الذي ترجمته الآلة بدلا من أن يغدو سجينها الذي لا يستطيع الفرار منها”.

ويختتم العويسي حديثه بقوله “هناك نصوص لا تستطيع الآلة نقلها كالنصوص الأدبية والنصوص التي تحوي مفردات وأفكارا لا يفقهها إلا مَن عايش تلك الثقافة وفهِمَ خصائصها وخصوصيتها. لذا أرى شخصيا أن علينا تبنّي هذه التقنيات وتسخيرها خدمة لنا بدلا من محاربتها وتشنيعها والاستثمار في الأبحاث المتعلّقة بها واللحاق بركبِ هذا التطوُّر الحاصل في هذا المجال، وأرجو شخصيا أن يكون مجال البحث في تقنيات الترجمة والترجمة الآلية وبرمجة اللغات الطبيعية من بين أولويات البحث العلمي في سلطنة عُمان، خاصة أن مسقط ستستضيف مركز التعريب والترجمة الذي عُيَّن الدكتور عبدالله بن سيف التوبي مديرا له مؤخرا كأولى بشائر تأسيسه“.

13