علماء الآثار يعودون لحل الألغاز التاريخية في أرض العراق

فرق التنقيب تزيح التراب عن عاصمة بلاد ما بين النهرين قبل بابل.
الخميس 2022/01/13
مدينة من التاريخ

لا تزال الآثار المدفونة في المئات من المواقع التاريخية في العراق تثير اهتمام فرق التنقيب التي توقفت أنشطتها بسبب الحروب وعدم استقرار الوضع الأمني منذ سنوات، لتعود هذه الأنشطة من أجل حل ألغاز الكنوز الأثرية المدفونة في تلك المواقع التي يعود تاريخها إلى حقب زمنية متعاقبة.

الناصرية (العراق) - في صحراء جنوب العراق يكشف علماء آثار فرنسيون بحماس عن لوح نقش بالكتابات المسمارية، بقي أربعة آلاف عام تحت الرمال قبل أن يبصر النور، في بلد مزقته الحروب والنزاعات ولم يطأه علماء الآثار الأجانب منذ سنين.

ويقول الباحث في الحضارة السومرية في جامعة “كوليج دو فرانس” دومينيك شاربان متحمّسًا “عندما نعثر على نقوش كهذه في الموقع، يكون الأمر مؤثراً جداً”.

وشاربان عضو من فريق حملة تنقيب بدأت نهاية العام 2021، في مدينة لارسا الأثرية التي تبعد حوالي 25 كيلومترا جنوب شرق مدينة الوركاء أو أوروك الأثرية.

وجرت أول عملية تنقيب محدودة في لارسا عام 1933، وتبعتها عمليات تنقيب أخرى في حقبة السبعينات، واستمر التنقيب في المدينة التاريخية حتى عام 1989.

وبدأ النقش في اللغة السومرية على قطع الآجر في القرن الـ19 قبل الميلاد. ويترجم شاربان ما نُقش على قطعة الطوب التي عثر عليها “أيها الإله شماش، الملك سين إيدينام، ملك لارسا، ملك سومر وآكاد”.

وخلفه يبحث العشرات من علماء الآثار الفرنسيين والعراقيين والأوروبيين في رقعة طوّقت بالحبال.

أول عملية تنقيب في مدينة لارسا الأثرية جرت عام 1933 وتبعتها عمليات أخرى استمرت حتى عام 1989

ويمشّط بعضهم قطع طوب، ويرفع آخرون التراب، ويكشفون تدريجيّا عما يبدو أساسات جسر يتوسط مدينة لارسا، عاصمة بلاد ما بين النهرين قبل بابل في الألفية الثانية قبل الميلاد.

ويشرح الباحث ريجي فاليه من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي قائلا إن “لارسا تعدّ أحد أكبر المواقع في العراق، حيث تبلغ مساحته أكثر من 200 هكتار”.

ويترأس مركزه البعثة الفرنسية – العراقية للتنقيب التي تضم نحو 20 شخصاً. وتمخضت عن الحملة “اكتشافات بارزة”، مثل منزل أحد الحكام البارزين من الحقبة المذكورة، تمّ تحديده من خلال نحو 60 لوحا مسماريا عثر عليها في الموقع، ونقلت بعد ذلك إلى المتحف الوطني في بغداد.

وتعدّ لارسا التي تقع غرب ذي قار بمثابة “جنة” للباحثين، وفق قول ريجي فاليه، كما العراق بأكمله، أو بلاد ما بين النهرين التي تعاقبت عليها منذ آلاف السنين حضارات مختلفة من الأكادية والبابلية، ثمّ دخلها الإسكندر المقدوني والمسيحيون والفرس والإسلاميون.

لكن ما أبعد الباحثين والمنقبين لفترة طويلة عن العراق هو تاريخه الحديث المليء بالأزمات والحروب. فقد عرف بين عامي 1990 و1991 حرب الخليج التي تلاها حصار دولي قاسٍ، قبل الغزو الأميركي في العام 2003.

وبعد ذلك عانى العراقيون من حرب طائفية بين عامي 2006 و2008، ثمّ من هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على ثلث أراضي البلاد في العام 2014.

وأعلن العراق في عام 2017 انتصاره على التنظيم. ويقول فاليه “عاد الاستقرار بشكل كبير إلى البلاد وأصبحت زيارتها ممكنة”. ويضيف أن “الفرنسيين عادوا في العام 2019، والإنجليز بعد ذلك بقليل. أما الإيطاليون فعادوا منذ العام 2011”.

عمق العراق الحضاري
عمق العراق الحضاري

وفي أواخر عام 2021 تواجدت في محافظة ذي قار الجنوبية -حيث موقع لارسا- عشر بعثات تنقيب عن الآثار أجنبية، وفق فاليه.

ويشعر مدير هيئة الآثار والتراث العراقية ليث حسين بالتحمّس لاستقبال زملائه الأجانب في العراق.

ويقول من بغداد “هذا يعود علينا بالنفع العلمي وأيضا يدرب الكادر. كوادرنا انقطعت فترة طويلة عن التدريب والآن هذه فرصة لتعليم كوادرنا التقنيات الحديثة”.

قرب النجف، المدينة التي تضمّ مقامات دينية مقدسة عند المسلمين الشيعة في وسط العراق، يشعر إبراهيم سلمان من معهد الآثار الألماني أيضاً بالغبطة لعودته إلى الميدان في حملة تنقيب في موقع مدينة الحيرة القديمة.

وبواسطة جهاز قياس مغناطيسي يمشّط فريق إبراهيم سلمان الموقع الذي يفترض أن المدينة كانت فيه. كانت المدينة مسيحيةً لوقت طويل وعرفت ذروة مجدها خلال عهد اللخميين في القرنين الخامس والسادس.

ويقول الباحث “نحن الآن على تلّ سنقوم بتنقيبه. بعض المؤشرات تجعلنا نعتقد أننا قد نعثر على كنيسة”.

وتتركّب هذه “القرائن” خصوصاً من آثار تكوّنت على الأرض جراء الرطوبة التي تتشربها الهياكل المدفونة تحت الأرض والتي ترتفع تدريجياً إلى السطح.

وتشير الأرض المبللة على شريط طوله عدة أمتار إلى أن جدران الكنيسة القديمة موجودة تحت أقدام عالم الآثار.

وموقع الحيرة أحدث بكثير من المواقع الأثرية الأخرى التي يُظهر تنوعها -بالنسبة إلى إبراهيم سلمان- أن “العراق، بلاد ما بين النهرين، هو فعلاً مهد الحضارات. الأمر بهذه البساطة”.

يذكر أن القطع الأثرية المهمة التي عثر عليها المنقبون في لارسا ومواقع أخرى سابقا قد تم الاحتفاظ بها في متحف الناصرية، الذي تم تأسيسه في العام 1969 ويعتبر ثاني أكبر متحف في العراق بعد المتحف الوطني.

وتضمنت هذه القطع هيكلا عظميا عمره 6.500 سنة وتمثالا برونزيا للملك أور نمو وإحدى أقدم العجلات في حضارة وادي الرافدين ومجموعة مهمة من الأختام الإسطوانية المسمارية وتماثيل لملوك وشخصيات سومرية.

18