عقيدة بوتين في سوريا: المصالح تقتضي التوازن في العلاقات

ترتفع في شوارع مدينة حلب التي بات الجيش السوري يسيطر عليها كاملة، صور الرئيس بشار الأسد وإلى جانبه نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ما يؤشر على النفوذ المتصاعد لموسكو في سوريا، على الأرجح على حساب إيران، الحليف الآخر للنظام، لكن ذلك لا يعني، وفق الباحث الروسي ديميتري ترينين، مدير معهد كارنغي موسكو، أن الرباط الهش بين موسكو وطهران سينفصل قريبا.
السبت 2017/03/18
المصالح المتبادلة لا تبني الثقة بالضرورة

موسكو - بعد تقاربها المفاجئ مع أنقرة في العام 2016، باتت موسكو تعتبر أن طريق النصر يمر عبر تسوية مع تركيا الداعمة للمعارضة وصاحبة النفوذ في المنطقة الحدودية مع سوريا شمالا، فيما ترفض حليفتها إيران هذه المقاربة.

ومع بروز هذا التقارب تساءل موقع “تابناك” الإلكتروني الذي يديره محسن رضائي، القائد السابق للحرس الثوري الإيراني، ما إذا كان “إشراك تركيا في محاولات إنهاء الحرب في سوريا” يمكن أن يشكل “تهديدا” لإيران.

يجيب على هذا التساؤل الباحث الروسي ديميتري ترينين مدير معهد كارنغي موسكو في تحليل نشر على موقع المركز، مشيرا إلى أن بعد السيطرة على حلب في ديسمبر الماضي تحوّل التركيز في سوريا نحو المقاربة الدبلوماسية. لقد فازت روسيا مبدئيا بالحرب، وتسعى الآن إلى الفوز بالسلم، في مهمة ليست أقل صعوبة من الأولى.

ومن أجل المضي قدما استعانت موسكو أولا بتركيا كشريك أساسي في جعل المعارضة السورية تقبل بهدنة وتنضم إلى المباحثات من أجل التوصل إلى تسوية سياسية في المستقبل. ثم شكّلت ثلاثيا دبلوماسيا مع تركيا وإيران لدعم هذه المحادثات. واختارت أيضا الأستانة، عاصمة كازاخستان، مقرا لهذه المباحثات، مع الإشارة إلى أن الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزارباييف صديق مقرّب لبوتين.

ويتوقف الباحث الروسي عند إسرائيل كضلع مؤثر في العلاقة بين روسيا وإيران في الشرق الأوسط، مشيرا إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعرب خلال زيارته إلى الكرملين لمضيفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن المخاوف الشديدة التي تساور إسرائيل إزاء التقارير التي تتحدّث عن نيّة إيران في أن يكون لها حضور بحري على ساحل المتوسط في سوريا، وسعيها إلى نشر عناصر من حزب الله وقوات أخرى موالية لها على مقربة من مرتفعات الجولان.

السلم في سوريا

يشير ديميتري ترينين إلى أن بوتين يدرك أنه من أجل الفوز بالسلم في سوريا لا يكفي إيجاد أرضية مشتركة بين الأفرقاء السوريين بل ينبغي أيضا أن ينخرط الفاعلون الإقليميون المعنيون في عملية أخذ ورد شديدة التعقيد. والحالة التركية معبِّرة جدا في هذا الإطار، في أواخر العام 2015 وقع صدام مباشر بين السياسات الروسية في سوريا والسياسات التركية ما أسفر عن قيام تركيا بإسقاط مقاتلة روسية، وحدوث فتور في العلاقات بين البلدين استمر سبعة أشهر.

في مطلع شهر مارس 2017 توجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو إبان زيارة نتنياهو إليها لوضع اللمسات الأخيرة على تطبيع العلاقات التركية-الروسية. وكان على أردوغان أن يتخلّى عن المطالبة برحيل الأسد، وقد أقرّ فعليا بالدور المحوري الذي تضطلع به روسيا في سوريا، وأبدى بوتين من جهته تفهّمه الشديد للمخاوف الأمنية التركية.

في أغسطس 2016 بعد الزيارة الوفاقية التي قام بها أردوغان إلى سانت بطرسبرغ، التزم الرئيس الروسي الصمت في موقف يعبّر عن موافقة ضمنية على الاجتياح التركي المحدود في شمال سوريا، والذي كان الهدف منه منع قيام جيب كردي على طول الحدود التركية مع سوريا.

وفي يناير وفبراير من العام الجاري قصف سلاح الجو الروسي أهدافا تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في مدينة الباب دعما للهجوم التركي عليها.

ويقول ديميتري ترينين إن هذه التحركات تسلّط الضوء على الهدف الأساسي الذي تتوخّاه موسكو في مقاربتها العامة للمسألة، فهي لا تملك الموارد اللازمة من أجل الحلول مكان الولايات المتحدة في موقع القوة المسيطرة في الشرق الأوسط، مع الإشارة إلى أن هذا العبء أصبح ثقيلا على كاهل الولايات المتحدة نفسها، ولا تطمح إلى الحلول مكانها، بل إن موسكو تسعى إلى أن تكون في موقع الوسيط الذي يقيم علاقات جيدة مع مختلف الأفرقاء المعنيين، لكنها تتجنّب أن تصبح حليفا أو خصما كاملا لأيّ منهم.

ويضيف أن الخلافات يمكن معالجتها وفقا للشروط التي ترى موسكو أنها مناسبة، كما حصل في الخلاف مع تركيا أردوغان. أما تحالفاتها فظرفية ومحدودة، ولا سبيل للمقارنة بينها وبين حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو العلاقات الأميركية-الإسرائيلية. والدعم الذي تقدّمه روسيا للرئيس بشار الأسد مشروط، وحلفها مع إيران ظرفي.

ديميتري ترينين: موسكو لا تملك الموارد اللازمة من أجل الحلول مكان واشنطن

ومن المؤشرات الأخرى على التنافس بين موسكو وطهران زيادة عدد العسكريين الروس في سوريا، ويشير الخبير العسكري الروسي بافل فلغنهاور إلى أن “الوجود الروسي في سوريا يزداد بسرعة وقد تضاعف منذ الخريف عدد العسكريين، وسيبلغ قريبا عشرة آلاف”.

وعلى غرار علاقة إيران بمقاتلين لبنانيين وعراقيين وأفغان شكلت روسيا مجموعات مسلحة محلية (…) أقل كلفة من المرتزقة الروس، وتشبه قوات الصحوة (قوات عشائرية مناهضة لتنظيم القاعدة) التي شكلها الأميركيون في العراق”، من هذه القوات “صقور الصحراء” و”الفرقة الخامسة”، بالإضافة إلى مجموعتين مسلحتين سوريتين وأخرى فلسطينية.

ومردّ هذه الخطوات، وفق ديميتري ترينين، أن روسيا تتعامل مع إيران باعتبارها لاعبا جدّيا، وعنيدا في معظم الأحيان، لا يمكن التعاطي معه باستخفاف، مشيرا إلى أن كل طرف لا يكنّ أيّ مشاعر ودّ عميقة للطرف الآخر، لكن عندما تلتقي المصالح يمكنهما التفاعل بطريقة مثمرة. ويستشهد الباحث الروسي بتعاون موسكو وطهران قبل عشرين عاما عبر استخدام الوسائل الدبلوماسية، وكيف تمكنا من التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض ساهمت في إنهاء الحرب الأهلية الدموية في طاجكستان . وفي سوريا التقى الجانبان حول مصلحة مشتركة في مساعدة الأسد على الدفاع عن نظامه في وجه معارضة مسلّحة، لكن يتوقّف الأمر عند هذا الحد، وفق ترينين.

خطر قرب الجولان

يوافق الروس الذين لا يشاركون طهران جدول أعمالها الأوسع في المنطقة، على أنه يجب أن تكون إيران جزءا من التسوية السورية، إلى جانب لاعبين إقليميين آخرين، منهم السعوديون.

ويشير ترينين إلى أن الروس يتمتعون بقدر كاف من الواقعية ليدركوا أن طهران ترغب في الحفاظ على رابط معيّن مع حليفها حزب الله. بيد أنهم يدركون أيضا أنه من شأن وجود عسكري تابع لإيران أو حزب الله في سوريا، لا سيما على مقربة من مرتفعات الجولان، أن يشكّل مصدرا مستمرا للنزاع مع إسرائيل، ما يتسبّب في تقويض التسوية السياسية التي تبذل موسكو قصارى جهدها لإنجازها.

لكنه يوضح أن روسيا لا توافق موافقة كاملة على الآراء الإسرائيلية حول إيران، ففي الاجتماع الأخير مع نتنياهو، الذي عُقد عشية عيد المساخر (بوريم)، أشار بوتين إلى أن إيران تستحق بأن يتم التعاطي معها بطريقة متّزنة بعيدا عن الانفعالات.

غير أن لموسكو تاريخا في التعامل بجدّية مع المصالح الأمنية الإسرائيلية، فقد امتنعت عن تزويد دمشق بصواريخ دفاع جوي من طراز “إس-300”، ولم تعترض على الهجمات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف تابعة لحزب الله داخل سوريا، وعندما استقدمت سلاحها الجوي ودفاعاتها الجوية إلى سوريا حرصت منذ البداية على تأكيد التنسيق مع الإسرائيليين، تجنّبا للحوادث، وقد تكلّلت هذه المقاربة بالنجاح حتى الآن.

في مراحل لاحقة تقتضي مصلحة موسكو إضفاء شرعية على وجودها الجوي والبحري في سوريا بعد التوصل إلى تسوية سياسية. وفي حين لا يزال وقف إطلاق النار هشا، يكتسب القتال ضد داعش زخما. لكن يُحيط الالتباس بمستقبل سوريا نظرا إلى أن القوى الخارجية ستواصل العمل داخل البلاد. في نظر موسكو، يجب أن تغادر جميع تلك القوى الأراضي السورية بعد التسوية، ما عدا روسيا نفسها التي منحها النظام السوري حقوق إنشاء قواعد لها في البلاد.

ويخلص ديميتري ترينين إلى أنه من غير الواقعي على الإطلاق أن نأمل بأن تضحّي روسيا بإيران من أجل التقارب مع إدارة ترامب أو حتى لتحسين العلاقات مع إسرائيل. ستستمر روسيا في السعي لتحقيق مصالحها الخاصة في الشرق الأوسط، والتي تقتضي الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأفرقاء الأساسيين، بمن فيهم إيران.

بيد أن موسكو تطوّر أيضا فهما عميقا للتوازنات الدقيقة في المنطقة التي لا ينبغي الإخلال بها. وبهذا المعنى يبدي الروس تعاطفا واضحا مع الوضع الإسرائيلي.

7