عصر التكوين من جديد

العالم اليوم أمام معضلة تكوين حقيقية. سوق العمل يتغير بشكل متسارع تقف حتى أرقى الجامعات عاجزة عن مجاراته.
الأربعاء 2023/05/03
التكوين الإضافي يحتاج إلى أن يتم بسرعة

في تونس، ثمة مصطلح لا تسمعه في المشرق: التكوين. هو شيء بين الإعداد والتدريب والتعليم. مفردة ذكية لها تاريخها بالطبع في الثقافة والأديان. يحتاج المشرقي أن يعوّد أذنه على سماعها وعينه على قراءتها وعقله على فهم مغزاها. هذا لا يعني أنها لا تطلق بمجال يبدو غريبا بعض الشيء مثل تكوين بدلا من تدريب على قيادة السيارة.

في أول تعرّفي على الكلمة، سمعتها من كاتب تونسي ينتقد آخر. قال "إنه غير متكوّن". لم أفهم المعنى في البداية، لكن أدركت من سياق الحديث بأنه لم يتقدم بالتعليم مما يؤهله أن يصبح كاتبا أو مثقفا أو محررا في صحيفة. كانت إحدى الزميلات تجادل بين فضل محرر متكوّن وآخر غير متكوّن، أي الأول خريج معهد صحافة والآخر التقط المهنة بالتدريب والانتباه ولكنه قدم إليها، مثلي، من خلفية مختلفة.

العالم اليوم أمام معضلة تكوين حقيقية. سوق العمل يتغير بشكل متسارع تقف حتى أرقى الجامعات عاجزة عن مجاراته. لا أتحدث عن فروع العلم الأساسية. ستبقى معنا كليات الطب والهندسة والعلوم والاقتصاد والمعلوماتية، لكن لو تم تفكيك كل مهمة من مهام التعليم في هذه الكليات، سنجد أن المسمّى نفسه صار مرنا وغير محدد. يحتاج كل فرع من فروع الهندسة مثلا إلى إعادة تكوين لمناهجه.

الطبيب المتخصص الذي يريد استكمال دراسته في تخصص الأوعية الدموية، يحتاج أن يجلس بجانب طالب الهندسة الميكانيكية لأن العلم يعيد النظر بالتخصص ويراه منظومة أنابيب/أوردة وشرايين، ومضخة/قلب، وسوائل/دم ولمف (التعبير الميكانيكي الدقيق مائع). الجرّاح يدرس أساسيات هندسة الروبوت. طبيب الأشعة يتعلم كيف ينظر الذكاء الاصطناعي إلى الصور ويلتقط الإشارات منها.

الصحافي يتدرب على تحرير الصور والفيديو والنشر الإلكتروني وفنون التعامل مع المنصات الاجتماعية، مثلما يتنبّه وهو يعد النص إلى قواعد اللغة والصرف التي عمرها أكثر من ألف عام. المحرر يستفيد من برامج المحاورة للذكاء الاصطناعي ليلتقط النص الحقيقي من ذلك المنسوخ أو المزوّر أو المفبرك.

ما الجديد؟ هذا ما كان يحدث دائما. الجديد، بتقديري شيئان. الأول، هو أن هذا التكوين الإضافي يحتاج إلى أن يتم بسرعة. المؤسسات لن تنتظر منتسبيها كي يتأقلموا مع المطلوب المتجدد دائما، ولن تتردد في استبدال الموظفين بآخرين يتقنون الأدوات الإضافية بجوار تكوينهم الأصلي. والثاني، هو الاستعداد العقلي والنفسي لدى الجميع في شطب التكوين الأكاديمي أو الحرفي السابق طالما ماتت تلك المهنة أو لم يعد هناك من يستفيد منها لأسباب اقتصادية أو عملية أو تكنولوجية؛ استغناء بمستوى نسيان مهنة الورّاقين ما إن جاء عصر المطابع، أو إلغاء جامعة مثل أكسفورد قسم الجغرافيا.

"سفر التكوين" بالمعنى الديني هو لحظات الخلق الكبرى. عصر التكوين الراهن هو مجموع لتغيرات صغيرة في كل شيء تقريبا، تتجمع لتصنع سِفْرها الخاص.

18