عسكريو الجزائر وإسلاميّوها.. دروس المرحلة الانتقالية في مصر

القطاعات المدنية بين شقي رحى الجيش والتيار الإسلامي، والإسلاميون أعينهم منصبّة على الآليات التي تضعهم في قلب السلطة وبعيدا عن العاصفة.
الأحد 2019/03/17
استنفار في صفوف المجتمع المدني والقوى الوطنية لتغيير كل الحرس القديم

تتواصل الاحتجاجات المناوئة لتمديد فترة حكم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، بعد أن سعى الأخير إلى الالتفاف على فكرة الولاية الخامسة بأن أعلن عدم ترشحه لكن مع تأجيل الانتخابات. وأجّج الخطوة غضب الجزائريين الذين انتقلوا من الاحتجاج على الولاية الخامسة للرئيس المريض إلى التصعيد ضد أي حلول مؤقتة تطيل عمر أزمة البلاد الكامنة في نظامها ونخبتها السياسية. لكن تبقى هذه الاحتجاجات مشوبة بحذر كبير وتطلع نحو ما ستأتي به المؤسسة العسكرية ذات القبضة القوية على البلاد، وإلى أي مدى يمكن أن تذهب في تحالفاتها، خصوصا مع الإسلاميين، الذين انقلبوا من أعداء خلال “العشرية السوداء” إلى حلفاء نشأت بينهما منذ عقدين علاقة وطيدة قوامها مصالح سياسية واقتصادية.

تبدو المؤسسة العسكرية الجزائرية أمام امتحان صعب للخروج من الأزمة الراهنة، فهي لا تستطيع تكرار أي من السيناريوهات السابقة، في فرض هيمنتها مباشرة، أو توثيق عرى العلاقة مع التيار الإسلامي، بذريعة العبور إلى بر الأمان، أو الاستعانة بوجوه من خارجها كستار سياسي لها، ولم تعد تنطلي على الشعب الحجج التي جرى تمريرها من قبل في ظروف معيّنة.

تتعلم الشعوب من تجارب غيرها عموما، ولديها قدرة على الاستيعاب والفرز بصورة عالية. وتزايدت هذه المسألة مع تصاعد التأثيرات في زمن التكنولوجيا المتطورة، ولذلك تواجه الخيارات التي طرحها الجيش الجزائري، صراحة أو ضمنيا، أزمة ثقة كبيرة عند عدد كبير من المواطنين الذين خرجوا في تظاهرات غرضها البحث عن الأفضل سياسيا.

يحمل الجزائريون ودّا كبيرا لجيشهم، ويضعونه في مكانة متقدمة، ويثقون في قدرته على حماية بلدهم. ولم تفارق أعينهم الأحداث التي جرت في ليبيا وسوريا واليمن والعراق. ويحرصون على أهمية المؤسسة العسكرية كرمز للاستقلال وتوفير الأمن والاستقرار ووحدة البلاد. الأمر الذي جعل تظاهراتهم منضبطة وتقدم عنوانا حضاريا لمطالبهم، ورفضا واضحا للدخول في معارك جانبية تقود إلى شبهة الانزلاق في أتون حرب مدمّرة.

إذا كانت القوى الوطنية تستوعب مخاطر التفاهم بين المؤسسة العسكرية والتيار الإسلامي، فالأخير أيضا يعي تداعيات التجربة المصرية، والتي أدت إلى تقويض أذرعه الخشنة والناعمة معا

وجد الجزائريون أنفسهم أمام احتمال إعادة توثيق التحالف بين الجيش والإسلاميين، وهي الصيغة التي ظهرت مؤشراتها بعد عشر سنوات من الكر والفر، ومن خلالها يمكن وضع حد للتظاهرات العارمة في البلاد، وهو ما ينتبه له التيار المدني جيدا، لأن ما وصلت إليه الجزائر، عقب التفاهمات السابقة، أدخلها في عقم سياسي أفضى إلى محاولة التمديد عنوة لحكم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة، وهو في حالة مرضية مزمنة، وبدت الأحزاب السياسية عاجزة عن تقديم مرشح قوي يمكن التوافق عليه.

وتحت وطأة الاحتجاجات استجاب بوتفليقة لمطالب المتظاهرين، وأعلن في 11 مارس 2019 عدم ترشحه لولاية خامسة، ما يعني عودة الهدوء إلى الشوارع والميادين وإطفاء شعلة الاحتجاجات. لكن عادت التظاهرات بصورة أكثر تنظيما، ورفع أنصارها سقف المطالب، بعدما اشتموا رائحة التفافة سياسية يمكن أن تؤدي إلى تمديد حكم بوتفليقة دون انتخابات رئاسية.

بين مصر والجزائر

دور مهم للتيار الإسلامي في تغذية التظاهرات والتحريض على من طالبوا بوقفها
دور مهم للتيار الإسلامي في تغذية التظاهرات والتحريض على من طالبوا بوقفها

يتشابه السيناريو الجزائري مع آخر مصري جرى في أول فبراير 2011، عندما أعلن الرئيس حسني مبارك رغبته في التنحي، وتشكيل حكومة كفاءات تعمل على تهيئة البلاد لمرحلة مقبلة. وكادت التظاهرات العارمة في مصر تختفي، حتى حدث صدام، قيل إنه مفتعل، في ميدان التحرير بوسط القاهرة، بين متظاهرين ومؤيدين للحزب الوطني الحاكم آنذاك. وأدى الأمر إلى التصميم على رحيل مبارك فورا، بعد الأحداث الشهيرة المعروفة بـ”موقعة الجمل”، حيث استخدم من دُفعوا إلى اقتحام الميدان الجمال والحمير. ووقع عدد من القتلى والجرحى، منحوا زخما جديدا للتظاهرات، بما أعاد الصخب وقطع الطريق على أي خيار للتسوية السياسية.

ولعبت جماعة الإخوان وغيرها من أنصار التيار الإسلامي، دورا مهما في تغذية التظاهرات والتحريض على من طالبوا بوقفها، بعد أن لاحت في الأفق رغبة مبارك للخروج الآمن من السلطة، وشهدت البلاد نحو عشرة أيام من الاحتجاجات الحاشدة إلى أن أعلن مبارك تنحيه بلا مواربة، وتفويض المجلس العسكري في إدارة البلاد.

هدأت الأمور نسبيا، وأدار المجلس المرحلة الانتقالية، مستعينا بالقوى الإسلامية المنظمة، وساعد على وضع إعلان دستوري، وإجراء انتخابات برلمانية، ثم رئاسية، قادت إلى هيمنة التيار الإسلامي على البرلمان، ونجاح الإخواني محمد مرسي في الوصول إلى حكم مصر لأول مرة.

يختلف البعض حول هذا المسار، فهناك من قالوا إن صعود الإخوان للسلطة كان مدبرا ومقصودا لاختبارهم وإثبات فشلهم وحرقهم سياسيا أمام الجماهير. وهناك من قالوا إن المجلس العسكري اضطر إلى إنجاح مرسي على حساب منافسه الفريق أحمد شفيق، خوفا من تصاعد حدة التوتر وتهديد أمن البلاد بصورة واسعة.

في كل الحالات، خسر التيار الإسلامي الحكم بعد ثورة 30 يونيو 2013، وخرجت قواه من المشهد السياسي، وصعدت المؤسسة العسكرية بأريحية بدلا منه ورسخت أقدامها في الحكم برضاء شعبي عارم.

شيء من هذا القبيل يلوح في الأفق، أو بمعنى أدق يخشاه الجزائريون، لأن العلاقة بين المؤسسة العسكرية والإسلاميين توطدت بصورة كبيرة، وانتقلت من الجمر والنار إلى التقارب والوئام. وظهرت تجليات هذا التحول في تكرار مطالبة قيادات إسلامية مؤخرا بأن يلعب الجيش دورا فعالا في الاستحقاق الانتخابي للوصول إلى التوافق الوطني.

يتذكر الجزائريون ما قاله ذات يوم رابح كبير، أحد قادة جبهة الإنقاذ، {جبهة التحرير أكلت 30 عاما، ونحن أيضا سنأكل 30 عاما}، وهي دلالة على النهم والجشع للسلطة، والرغبة في الوصول إليها بشتى السبل

تعلم قيادات المؤسسة العسكرية عمق التنظيم السياسي داخل القوى الإسلامية، وهي الوحيدة بين جميع التيارات التي تمتلك تصورات محددة لبلورة أهدافها وتحويلها إلى واقع على الأرض، كما أنها تدرك صرامة الجيش وسيطرته على مفاصل الدولة، بما يجعل الدوائر الأخرى ضئيلة بالنسبة له، وتتعامل معه بمرونة على طريقة “خذ وطالب”.

يحقق التفاهم بين الجانبين مصالح سياسية واقتصادية خفية لكل فريق، ويرسخ العلاقة التي نشأت بينهما على مدار عقدين، وربما تتزايد الملامح وتتوسع الأطر.

تتسم المؤسسة العسكرية في الجزائر على مدار تاريخها بالشدة والحسم، ومع ذلك استوعبت التيار الإسلامي في الفترة الماضية. وتجنّبت الدخول في صدام سياسي أو مسلح مع أطيافه المختلفة. وسعت إلى تعميم تجربة التفاهم في المنطقة، وربما تكون دروس “العشرية السوداء” سببا في هذا الوفاق، وربما تكون الضغوط التي تعرض لها الجيش، من الداخل والخارج، أجبرته على التهدئة.

واستفاد التيار الإسلامي من الهدوء النسبي طوال السنوات الماضية. واتخذ أحيانا نوعا من الكمون، ساعد على زيادة تغلغل عناصره في مؤسسات الدولة، والتعمق في اختراق المجتمع، بما أدى إلى استمالة بعض القيادات الأمنية إلى الخطاب الإسلامي، وهو ما ساهم في أن ينتقل التعاطف معه من باب المصالح السياسية إلى باب المصالح الأيديولوجية عند البعض، بعد شيوع مصطلح “حملة المباخر” في صفوف المؤسسة العسكرية.

أشد ما يقلق القطاعات المدنية في الجزائر أنها أصبحت بين شقي رحى الجيش والتيار الإسلامي، وهي المعادلة التي سبق أن مرت بها مصر منذ منتصف عام 2012 إلى منتصف 2013، وأفضت إلى انحياز المواطنين صراحة للمؤسسة العسكرية، وسقط حكم جماعة الإخوان بعد خروج مظاهرات شعبية كبيرة وجدت ترحيبا من قيادات الجيش المصري.

يريد عسكريو الجزائر وقف الغليان في الشارع، ويعي هؤلاء أن الإسلاميين الورقة القادرة على ذلك، ويحاولون توطيد العلاقة معهم لعبور الأزمة بسلام، غير أن عناصر هذا التيار تسعى إلى تعظيم مكاسب السنوات الماضية، ولم تعد مقتنعة بمشاركة محدودة في السلطة، وتجد في ما يجري الآن فرصة للقفز عليها بطريقة تخفف من هواجس القوى الأخرى المناوئة.

يعتقد البعض أن الجيش الجزائري يستطيع تكرار نموذج المجلس العسكري المصري، في توظيف التيار الإسلامي لأغراضه السياسية وكفى، واستمالة القوى المدنية التي لا ترى غضاضة في التفاهم معه، إلى حين تستقر الأوضاع وتتمكن المؤسسة العسكرية من ترتيب صفوفها والقبض مرة أخرى على زمام المبادرة وتقديم مرشح يحظى بالإجماع داخلها.

يتجاهل هؤلاء أن الجزائر ليست مصر من ناحية رفض المؤسسة العسكرية في الثانية للتحالف الطويل مع التيار الإسلامي، وأي تفاهمات حدثت كانت لدواع معيّنة وظرفية وبمثابة انحناء للعاصفة، بينما في الأولى (الجزائر) يمكن أن يتعمق التحالف وبناء قواسم مشتركة عليه تفيد الطرفين، بدليل صمود العلاقة الدافئة بينهما لنحو عقدين.

عبر سياسية

تشابه السيناريو الجزائري مع آخر مصري
تشابه السيناريو الجزائري مع آخر مصري

يستدل هذا الفريق على كلامه بأن الجيش المصري على خلاف جذري مع التيار الإسلامي، ويدرك أن السلطة هدف محوري وغاية نهائية في مفكرة هذا التيار، ما جعل القوتين على طرفي نقيض، وهي حالة لا ترتبط بوضع المؤسسة العسكرية في الوقت الراهن بمصر، حيث تجاوزتها منذ عقود طويلة، وكانت أشد معالمها وضوحا خلال فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر.

يظل الصراع على السلطة القاسم المشترك بين الجيش والتيار الإسلامي، وفي كل مرة يتم حسمه في مصر لصالح المؤسسة العسكرية، بينما الوضع يبدو مهتزا في الحالة الجزائرية، لأن الجيش هناك قبل، ولو على مضض، مشاركة الإسلاميين في كعكة الحكم، وعلى استعداد لزيادة نصيبهم فيها حاليا، ما يقلق المجتمع المدني والقوى الوطنية ويجعلها في حالة استنفار تجاه أي اتفاق بين الطرفين.

يتذكر الجزائريون ما قاله ذات يوم رابح كبير، أحد قادة جبهة الإنقاذ، “جبهة التحرير أكلت 30 عاما، ونحن أيضا سنأكل 30 عاما”، وهي دلالة على النهم والجشع للسلطة، والرغبة في الوصول إليها بشتى السبل، وأصبحت القوى الوطنية أكثر وعيا، ولن تنطلي عليها مراوغات سياسية من الجيش أو الإسلاميين.

وفي هذا السياق يمكن فهم الرفض الصارم للصيغة المطاطة التي طرحها الرئيس بوتفليقة لعدم الترشح لولاية خامسة، والتحفظ على الندوة الوطنية الجامعة التي من المتوقع أن تخرج عنها مقررات لتعديل الدستور، لأنها قد تحوي مناورة خفية لكسب الوقت وترتيب الأوضاع بالطريقة التي تضمن استمرار مكاسب المؤسسة العسكرية وحلفائها، وأصحاب المصالح السياسية والاقتصادية، وبينهم التيار الإسلامي الذي بات أكثر وعيا بما يدور حوله في المنطقة. ويرى أن الثمرة ناضجة لتسقط في حجره. ويشعر بأن الفرصة غير مستبعدة لتصدّر المشهد في الجزائر.

إذا كانت القوى الوطنية تستوعب مخاطر التفاهم بين المؤسسة العسكرية والتيار الإسلامي، فالأخير أيضا يعي تداعيات التجربة المصرية، والتي أدت إلى تقويض أذرعه الخشنة والناعمة معا، وجعلته يكاد يتلاشى بفعل الضربات السياسية والأمنية والقانونية التي تعرض لها في السنوات الماضية.

يجد الجيش الجزائري الآن نفسه أمام معضلة كبيرة، لأن الإسلاميين الذين عرفهم وقبل التفاهم معهم منذ سنوات، بعد أن فقدوا عشرات الآلاف من كوادرهم، ليسوا هؤلاء الذين يمرحون في البلاد الآن، ويملكون أدوات متعددة، ولن تغريهم مناصب وزارية محدودة، فقد صارت أعينهم منصبّة على الآليات التي تضعهم في قلب السلطة، وبعيدا عن العاصفة.

تقود هذه المعادلة إلى مرحلة من الشد والجذب بين الجانبين، عكس ما يتوقع البعض، لأن المؤسسة العسكرية لن تستطيع التفريط في مكاسبها التاريخية، وإذا رضخت لمطالب القوى الدينية، ستجد نفسها أمام مواجهة حامية مع القوى المدنية، التي أصبحت قلقة أكثر من أي وقت مضى من استمرار التفاهم بين الطرفين، لأن كليهما يحمل أجندة لا تتماشى مع الإصلاحات والتطلعات السياسية الحقيقية.

7