عراق العبادي يخرق سيادته بيديه ويصدر طائفيته إلى المحيط العربي

لا يستطيع النظام العراقي الحالي رؤية السياسة والعمل الحكومي والعسكري والدبلوماسي من خارج المنطق الطائفي، لأنه مؤسس عليه، وله في ذلك دستور نافذ وناجز بأجهزة ضخمة تجثو على العراقيين. لذلك فإن السلوك الذي تنتهجه كل الحكومات التي جاءت بعد الاحتلال لا يخرج عن دائرة الطائفية والمذهبية، ولعل إرسال العبادي مؤخرا لعدد من الوفود إلى الدول العربية (أغلبها سنية) يؤكد النظرة الطائفية غير الوطنية التي يعتمدها.
الخميس 2016/06/09
ولاء العبادي لإيران يكشف زيف ما يروجه للعرب

نقلت الأخبار أن السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي أرسل وفوداً إلى دول عربية لشرح “تطورات سير معركة الفلوجة والوضع الأمني والإنساني خلالها”؛ منها وفدان إلى دول خليجية يرأسهما وزيرا الدفاع والتخطيط، وهما من الكتلة السنية، وحتى وزير الخارجية الشيعي إبراهيم الجعفري، في إيفاده إلى مصر للغرض نفسه، اصطحب معه رئيس ديوان الوقف السني.

والسؤال هنا: لماذا يجد العبادي نفسه ملزماً بأن يشرح لدول عربية تطورات معركة تجري على أرض عراقية ويخوضها جنود ومتطوعون عراقيون؟ ألا يكرّس مثل هذا السلوك الأزمة الوطنية بأبعادها المحلية والإقليمية، وبمضمونها الهوياتي والطائفي، ولا يحلها؟

تفكير مقلوب

العبادي يفترض أن العرب أقرب إلى العراقيين السنّة أكثر من قرية إليهم، ولذلك يجد نفسه معنيا بإيضاح ما يجري للخليجيين، وهو منطق يطعن في وطنية العبادي نفسه وسيادية منصبه عندما يبرر ما ينتهج من سياسات لأطراف خارجية، ويطعن في العراقيين السنّة لأنه يفترض أن ولاءهم للدول العربية لا للعراق وأنها مرجعيتهم التي يمكن الحديث معها بخصوصهم، ويطعن من ناحية ثالثة في دول الخليج عندما ينطلق في مثل هذا السلوك من فرضية أنها تتعامل مع العراق على أساس طائفي وأنها تريد أن تطلع على ما يجري للسنّة فقط، دون غيرهم، عبر الإصغاء لوزير سنّي.

إن مثل هذه الخطوة تشي بشعور الحكومة العراقية بأن ثمة أزمة ووضعا غير طبيعي، وأنها غير واثقة من سياساتها، فكثرة التبرير للداخل والخارج تؤشر على إحساس بافتقار السياسة للشرعية والحاجة للتعويض بإجراءات إعلامية أو دبلوماسية، لأن السلوك المشروع لا يحتاج إلى الدفاع عنه أو تسويقه فهو يسوّق نفسه بنفسه. ولست أفهم مستوى سوء التقدير، أو سوء النية، والانفصال عن الواقع الذي يجعل الحكومة تتورط في تسويق سردية أن صانع القرار “السني” في السعودية أو الإمارات أو البحرين يفترض أن يكون أكثر حرصاً على مواطني الفلوجة من صانع القرار العراقي “الشيعي” في بغداد؟ هل هناك استقالة من الوطنية وإغراق في الطائفية واستغراق في تبني التصور الطائفي للعالم أكثر من هذا المنطق في المشهد العراقي؟

يكرّس مثل هذا التصرف من صانع القرار العراقي سردية أن لكل مكون عراقي “ولي أمر” إقليميا أو دوليا، أو “مظلة” خارجية. فالسنّة لهم العرب والخليج، والشيعة لهم إيران وروسيا، والأكراد لهم أميركا وتركيا، وأن العراقيين غير مؤهلين، لا كمواطنين أفراد ولا كمكونات اجتماعية، لأن تتحدث معهم حكومتهم مباشرة في ما يخصهم، وأن للحكومة أن ترتكب ما تشاء بحق أي عراقي، من أي مكون مذهبي أو عرقي، ما دامت قادرة على تسويغ سياساتها لدى رعاة ذلك المكون.

ولست أدري ما سرّ إصرار السيد العبادي والذين من حوله من كتلة التحالف الشيعي على التطلّع الدائم إلى الخارج، وأن يديروا اللعبة السياسية ببوصلة إقليمية ودولية تفترض، بالمزيد من العدمية الوطنية والتنكّر للانتماء والقطيعة مع الواقع العراقي، أن التوازن الداخلي لا يكون إلا انعكاساً لتوازن إقليمي ومباركة دولية، في حين أن الأزمة الحقيقية في الداخل وأن المشكلة تحلّ عراقياً بين العراقيين، بمنطق عراقي وبتنازلات عراقية وبضمانات عراقية، وأن التوازن لن يتحقق من دون إرادة عراقية ذاتية، فقوة ونجاعة الحل في عراقيته التي لا لبس فيها، وأي منطق آخر يلعب بالأوراق الإقليمية والدولية ويتطلع للخارج، استدعاءً أو استعداءً، هو منطق يستثمر في الأزمة ويكرّسها ويفاقمها.

حل أزمة الفلوجة هو حل عراقي سياسي واجتماعي بالدرجة الأولى يتمثل في مقاربة الأزمة الوطنية من جذورها

إن حل أزمة الفلوجة، وسواها، هو حل عراقي، سياسي واجتماعي بالدرجة الأولى، يتمثل في مقاربة الأزمة الوطنية من جذورها، وكسر الاستقطاب الطائفي بصورة نهائية، وسد ذرائع الكراهية المذهبية، وتحقيق الاندماج الوطني بصيغة حاسمة على أساس الاعتراف المتبادل والعفو والتسامح وطلب الصفح بين العراقيين، والشروع في إنتاج ذاكرة عراقية جديدة لا مكان فيها للظلم أو الثأر، ويفترض أن يكون ذلك في داخل العراق، في بغداد والبصرة والموصل والنجف والرمادي والعمارة، وليس في أنقرة أو طهران أو القاهرة أو الرياض.

عندما تكون هناك مخاوف من إبادة للفلوجة أو أنباء عن انتهاكات لحقوق الإنسان فإن من يفترض أن تتوجه إليه الحكومة بالإيضاح والتبرير هو الشعب العراقي وليس الدول العربية أو الخليج. فماذا عن المواطن العراقي؟ من المسؤول عن شرح تطورات معركة الفلوجة له؟ ماذا عن المواطنة الشيعية التي يفترض أن العبادي يمثلها وفق المنطق المذهبي؛ من يشرح لها ما ينتظر ابنها أو زوجها الذي يقاتل في الجيش أو الحشد الشعبي على مشارف الفلوجة؟! ومن يشرح للمواطن السني – الذي يفترض أن المسؤولين السنّة الموفدين إلى الخليج يمثلونه وفق المحاصصة المكوناتية – ما يجري للسكان السنّة هناك وهل تهدف العملية إلى تحرير المدينة أم هي تطهير طائفي؟

تصدير الطائفية

قد تبدو خطوة العبادي في التواصل مع الدول العربية لتوضيح مواقفه ذكية وتندرج في إطار مد الجسور مع المحيط العربي. لكنها، بالمنطق الوطني العراقي ومن منظور سيادي يرتبط بوحدة العراقيين وكرامتهم ومسؤولية دولتهم عنهم، هي سلوك يكرّس “السيولة الطائفية” للوضع العراقي وغياب المواطنة الرصينة والانضباط الدولتي، ويتضاد تماماً مع ما هو مطلوب من الحكومة فعله داخلياً على صعيد تفكيك الأزمة الطائفية، وتدعيم التماسك الاجتماعي، وتجفيف منابع الثأرية المذهبية، كمدخل لا غنى عنه للقضاء على داعش، قبل التوجه للخارج بالشرح أو التبرير أو تسويق السياسة.

الإنجاز الحقيقي وكسر الاستقطاب الإقليمي يكونان في إرسال مسؤول شيعي يتمتع بما يكفي من المصداقية إلى الدول السنية

ولماذا يفترض الدكتور العبادي أن الدول الخليجية ستقتنع بوجهة نظره بمجرد سماعها من مبعوثيه؟ إن ما يحرك دول الخليج، ككل دول العالم، هو أمنها ومصالحها، وهي تجد في الحضور الإيراني في العراق ونمو واتساع الظاهرة الميليشياوية والتفكك الطائفي للمجتمع العراقي تهديداً مباشراً لأمن الخليج ودوله ومجتمعاته، وعليه هي تريد أن ترى سياسة على الأرض تصب في اتجاه تعزيز الوضع الوطني العراقي، وترسيخ سيادة العراق، واحتكار الدولة العراقية للعنف والسلاح، لا أن تستمع لشروحات من وزراء عراقيين يحاولون تبرير سياسات ميدانية تتناقض تماماً مع المصالح العراقية والخليجية!

وليت مسؤولاً خليجياً يبادر فينصح مبعوثي العبادي بالقول “إننا لا نقبل للعراق ما لا نقبله لأنفسنا، فدولنا لا تشرح للعراق ما يتعلق بشؤونها الداخلية، ولا نريد للعراق أن يهين نفسه وشعبه بأن يشرح لنا ما يجري على أرضه. اذهبوا فاحقنوا دماءكم وسووا نزاعاتكم بعيداً عن ضرب العراقي بالعراقي والاستثمار في مستنقع الكراهية. وانزعوا شوك الطائفية بأيديكم، وتعاملوا مع العراقيين على أساس المواطنة لا سواها من معايير التمييز والتحاصص فهذا هو السبيل الوحيد للقضاء على الإرهاب بأشكاله”. ليت مسؤولاً سعودياً أو إماراتياً يقولها لوزراء العبادي لعلّها تجبر كسر الكرامة العراقية.

إننا ننظر للمحيط الإقليمي من المنظور الطائفي الذي نعتمده في ما بيننا كعراقيين؛ بمعنى أن صانع القرار لا يكتفي بالمنطق الطائفي السائد محلياً وبين الفرقاء السياسيين بل يعمد إلى تعميمه إقليمياً عبر سياسة العراق الخارجية في تكريسٍ صريحٍ لنظرية عراق المكونات والتنابذ المذهبي. إنه إمعان في مذهبة الصراع السياسي وأطيفته، ونقل للمـذهبة السيـاسية إلى مـا وراء الحدود.

ولماذا يفترض الدكتور العبادي أن دول الخليج لن تصغي إلا لوزير سني ولن تصدق إلا خطاباً سنياً يشرح لها ويسوّق عليها ما يجري في الفلوجة السنية بلسان سني مبين؟ أليس هذا طعناً ضمنياً في مصداقية الساسة الشيعة يكرّس فكرة أنهم ليسوا مؤهلين لكسب ثقة الدول العربية أو إقناعها بالسياسة العراقية، إن كان فيها ما يستحق الاقتناع به أساساً؟

الإنجاز الحقيقي وكسر الاستقطاب الإقليمي يكونان في إرسال مسؤول شيعي يتمتع بما يكفي من المصداقية إلى الدول السنية، ليحدثهم فيقتنعوا بكلامه، وهذا يتطلب، ابتداءً، أن تكون السياسة فعلاً مقنعة ومؤهلة لأن يتفهموها ويدعموها. لكن يبدو أن ليس في النخبة الحاكمة مكان لشيعي يحظى بثقة العرب والخليج، أو سني يحظى بثقة مواطنيه الشيعة في الداخل، لأن وجود ونشاط مثل هذه النماذج العابرة للهويات ينقضان من الأساس السردية التي قامت عليها العملية السياسية؛ أي اعتماد الهوية الطائفية، المنغلقة المنطوية المرتابة، ولا شيء غيرها، في رسم علاقات العراقيين في ما بينهم ومع العالم.

كاتب من العراق

6