عدوى الشوفينية تنتقل من الساسة إلى العسكر وتقرّب أوروبا من عصر ما بعد التسامح

انتقال ظاهرة التشدّد القومي في أوروبا من السياسيين إلى العسكر يعني أنّ الأحزاب الشوفينية المعادية للأجانب والرافضة للتنوع الثقافي والديني في القارّة لم تعد تقف بمفردها في ساحة الصراع من أجل فرض أفكارها وتطبيق نموذجها، وأنّها باتت تستند إلى قوّة دفع كبيرة، الأمر الذي يهدّد بحدوث رِدّة في الديمقراطية الأوروبية التي قد تتحوّل من حامية للحقوق والمبادئ الإنسانية إلى بوابة لعودة الفاشية.
باريس - مثّلت تحذيرات عسكريين فرنسيين من تفكّك فرنسا وتهديدهم بقيام الجيش بدور في منع قيام حرب أهلية رأوا أنها محتملة الحدوث، سابقة لم تشهد الدولة الراسخة في الديمقراطية والنظام الجمهوري مثيلا لها منذ قيام مجموعة من الجنرالات الفرنسيين قبل ستين عاما بمحاولة انقلاب لوقف مسار استقلال الجزائر الذي كان قد بدأ آنذاك في عهد الرئيس شارل ديغول.
ويَعتبر المدافعون عن الديمقراطية أنّ ما ورد في مقالين نشرهما عسكريون، بعضهم لا يزال في الخدمة وغالبيتهم متقاعدون، يمثّل امتدادا للتشدّد والتطرّف المتصاعدين منذ سنوات بشكل مطّرد في أوروبا عن طريق حركات سياسية أقلّ إيمانا بفكرة التعدّد والتعايش وأقرب إلى تبنّي أفكار شوفينية متشدّدة قوميا وعقائديا.
لكنّ المنعطف في الحالة الفرنسية، بحسب هؤلاء، أنّ المقالين يؤشّران على تسرّب التشدّد إلى داخل الجسم العسكري المنيع عادة ضدّ الأفكار السياسية والأيديولوجية، ما يعني أنّ الظاهرة الملحوظة بشكل واضح في الحقل السياسي بصدد اكتساب قوّة جديدة تقرّب أوروبا من عصر ما بعد التسامح وتمهّد الأرضية لـ”هولوكست” من نوع آخر يكون ضحاياه هذه المرّة الوافدون إلى القارّة وأصحاب البشرة غير البيضاء الذين اندمج الكثيرون منهم في المجتمعات الأوروبية، لكنّ كثيرين أيضا ظلوا على هامش تلك المجتمعات مانحين بأفكارهم وممارساتهم الشاذّة الذريعة للمتشدّدين الأوروبيين من عسكر وسياسيين.
وممّا يلاحظ في الساحة الفرنسية أنّ تصاعد الأفكار اليمينية وانتشارها واكتسابها لحامل سياسي يزداد قوّة من دورة انتخابية إلى أخرى متمثّل في حزب الجبهة الوطنية، ثمّ حزب التجمّع الوطني بزعامة مارين لوبان، يأتي بالتوازي مع توسّع دائرة التشدّد بين مسلمي البلاد وانتقال أفراد منهم إلى ممارسة العنف تنفيذا لتعليمات تنظيمي القاعدة وداعش سواء في الداخل الفرنسي أو بالسفر إلى بؤر الصراع مثل سوريا.
دفع متبادل
يجد التشدّد الفرنسي والأوروبي عموما قوّة دفع في التطرّف الإسلامي الذي يمنح الشوفينيين والمتعصّبين قوميا وعقائديا نوعا من “المصداقية” لدى شرائح متخوّفة على استقرار بلدانها. ولذلك لم يكن من محض الصدفة أنّ تأتي تحذيرات العسكريين الفرنسيين بعد سنوات شهدت فرنسا خلالها عدّة أحداث دامية وعمليات قتل فظيعة تورّط فيها متطرّفون إسلاميون من أصول غير أوروبية.
ونُشر مؤخّرا مقال جديد يُعتقد أن عسكريين وراءه في مجلّة “فالور أَكْتِيَالْ” (قيم حالية) المحافظة وأيده قسم من اليمين المتطرّف يتخوّف كاتبوه من حرب أهلية في فرنسا ويشكّكون في قابلية هذا البلد الراسخ في النظام الجمهوري للبقاء، ما أثار غضب الغالبية الحاكمة. وجاء المقال بعد أقل من ثلاثة أسابيع على نشر عسكريين غالبيتهم من المتقاعدين مقالا يواجه بعض موقّعيه عقوبات إذ يتحدثون عن تفكك فرنسا ويبدون استعدادهم لدعم السياسات الرامية إلى مكافحة ذلك.
وأوضح أصحاب المقال أنهم انتسبوا مؤخرا إلى السلك العسكري والبعض منهم قاتل في مالي وأفغانستان وأفريقيا الوسطى، وهم لم يوجّهوا أي نداء للسياسيين لكنّهم حذروا مما رأوا أنه “حرب أهلية فرنسية ما زالت في مهدها”.
ويجمع بين البلدان الثلاثة التي ورد ذكرها في المقال أنها تشهد حروبا أهلية متواصلة منذ سنوات وأنّ الإسلاميين المتطرّفين طرف في تلك الحروب، كما أنّ لفرنسا حضورا عسكريا في كل منها، فالجيش الفرنسي موجود في كلّ من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى دفاعا عن نفوذ فرنسا في المستعمرتين السابقتين، وقد سجّلت خلال السنوات الماضية خسائر في صفوفه خصوصا في مالي التي تكافح بصعوبة لأجل عدم السقوط بأيدي المتشدّدين الإسلاميين الذين تقدّموا بشكل ملحوظ في بلدان أفريقية قريبة، لاسيما في نيجيريا والكامرون، مهدّدين نفوذ فرنسا الكبير في النيجر حيث مناجم اليورانيوم التي تمتلك امتياز استغلاله شركة فرنسية.
أما في أفغانستان فشاركت فرنسا إلى حدود سنة 2012 في التصدّي لحركة طالبان المتشدّدة ضمن قوّات الحلف الأطلسي الذي بدأ بالفعل في خسارة المعركة هناك بقرار الولايات المتّحدة مؤخّرا سحب قواتها من البلد، وهذا من العوامل التي تثير فزع العسكريين الفرنسيين من هزيمة أمام التطرف الإسلامي.
ولم يلق مقال العسكريين، القريب في مضمونه من شعارات حزب التجمّع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان، ترحيبا من رئاسة أركان الجيوش الفرنسية التي آثرت النأي بنفسها عن مضمون المقال.
وافدون اندمجوا في المجتمعات الأوروبية وامتثلوا لقيمها وآخرون ظلوا على هامشها مانحين بأفكارهم وممارساتهم الشاذّة الذريعة للمتشدّدين الأوروبيين من عسكر وسياسيين
وشدّد ضابط رفيع في هيئة الأركان العامة في تصريح لوكالة فرانس برس على ضرورة احترام منتسبي القوّات المسلّحة لواجب التحفّظ، مشدّدا على أن البعد عن السياسة هو مصدر مصداقية تلك القوّات، ومضيفا «من الممكن أن تكون لدينا قناعات شخصية لكن الجيوش خارج إطار السياسة وولاؤها مطلق للرئيس المنتخب، وهي خاضعة لقائد الجيوش”، ومشددا على ضرورة تحلّي الخارجين من السلك العسكري بحسّ المسؤولية.
وعلّق وزير الداخلية جيرالد دارمانان على المقال ومحرّريه بالقول “إنهم أشخاص مجهولون”، متسائلا حول إخفائهم لهوياتها “هل هذه شجاعة؟”. كما اتّهم معدّي المقال بالانخراط في العمل السياسي مع قرب موعد الانتخابات الإقليمية والرئاسية.
وبدوره اتّهم نائب رئيس حزب الجمهورية إلى الأمام الحاكم أوغ رانسون مجلّة فالور أكتيال بأنها سلّطت الضوء على مقال لا قيمة له.
ويندد المقال الذي نشر في التاسع من مايو الجاري بفوضى وعنف تشهدهما فرنسا، ويدعو موقّعوه رئيس الجمهورية والوزراء والنواب وكبار الموظفين إلى ضمان بقاء البلاد.
وشهدت ضواحي العاصمة الفرنسية باريس في شهر أكتوبر الماضي جريمة قتل مدرّس لمادة التاريخ ذبحا على يد متشدّد إسلامي من أصول شيشانية، وذلك بعد أن قام المدرّس بعرض صور مسيئة للنبي محمّد على تلاميذه في حادثة عُدّت نموذجا لاستفادة التشدّد المتقابل والمختلف في مشاربه، كل نوع من الآخر.
كما شهدت مدينة نيس على الساحل الجنوبي في الشهر ذاته هجوما استهدف المصلّين في كنيسة نوتردام خلّف ثلاث ضحايا ونفّذه متشدّد إسلامي كان قد وصل للتوّ من بلاده تونس التي أصبحت خلال العشرية الأخيرة مصدرا ومعْبرا رئيسيا للهجرة السرّية باتّجاه أوروبا.

أما أكثر العمليات دموية، وفي الوقت نفسه الأكثر إثارة لفزع الفرنسيين وبالنتيجة الأكثر خدمة للأحزاب اليمينية داخل البلاد وفي أوروبا على وجه العموم، فتمثّلت في الهجوم الذي نفّذته مجموعة من الانتحاريين الإسلاميين سنة 2015 على مسرح باتاكلان ومناطق قريبة وأسفر عن مقتل وجرح العشرات من المدنيين.
وتخدم مثل تلك الهجمات بشكل كبير اليمين المتشدّد في أوروبا وتساهم في تسريع صعوده اللافت في فرنسا
حيث يتّخذ عدد من السياسيين والعسكريين من تلك الأعمال الصادمة حجّة لتبرير أفكارهم المنافية للديمقراطية وحقوق الإنسان وحجّة على مصداقية تحذيراتهم من تفكّك البلاد.
وأكد كاتبو المقال في المجلّة المذكورة أنّ “الكراهية لفرنسا وتاريخها أصبحت القاعدة”. وفي دليل على رواج مثل تلك الأفكار حصد النص بعد مُضي ساعات قليلة على نشره عشرات الآلاف من التواقيع.
ولم يقتصر أصحاب المقال على التحذير النظري بلّ مرّوا إلى التهديد باتخاذ خطوات عملية قائلين “إذا اندلعت حرب أهلية سيحفظ الجيش النظام على أرضه، لأن هذا ما سيطلب منه”، متوجّهين للسياسيين بالقول “لا علاقة للأمر بتمديد ولاياتكم أو الفوز بولايات جديدة بل ببقاء بلادنا”.
منزع قديم
التعصّب القومي في أوروبا يتبادل الدفع مع التطرّف الإسلامي الذي يمنحه رواجا بين شرائح متخوّفة على استقرار بلدانها
كانت المجلّة نفسها قد نشرت في أبريل الماضي مقالا أثار صدمة بعد أن ناشد فيه نحو عشرين جنرالا ومئة ضابط رفيعي المستوى وأكثر من ألف عسكري آخرين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدفاع عن الحس الوطني معبّرين عن “استعدادهم لدعم السياسات التي تأخذ في الاعتبار الحفاظ على الأمة”.
وأدان حينها رئيس الوزراء جان كاستيكس ما اعتبره مبادرة “تخالف كل مبادئنا الجمهورية” واتّهم حزب التجمّع الوطني الذي دعا الموقّعين إلى دعمه بالسعي لاستعادة مكانة سياسية مفقودة. لكن البعض من اليمينيين جددوا تأييدهم للمقال الجديد واعتبروا أن توصيفه دقيق وفق النائب الفرنسي في البرلمان الأوروبي فرنسوا كزافييه بيلامي. ومن جهته اعتبر النائب عن الجمهوريين جوليان أوبير أن المقال جرس إنذار جدّي.
ولا يصدر رواج الأفكار المتشدّدة بين فئات من الجيش الفرنسي من فراغ بل توجد أرضية تاريخية لذلك إذ أنّ مؤسّس حزب الجبهة الوطنية القومي المتشدّد ليس سوى الضابط السابق جون ماري لوبان الذي سبق له أن خدم في الجزائر قائدا لفرقة من المظلّيين عندما كانت مستعمرة فرنسية وهو صاحب شعار فرنسا للفرنسيين الذي يلخّص معاداته للأجانب، حتى أنّه يعتبر أن المنتخب الفرنسي لكرة القدم لا يمثّل بلاده لأنّه يضم عددا كبيرا من ذوي البشرة غير البيضاء.
وكنموذج آخر عن رواج التشدّد بين عدد من الضباط الفرنسيين، وخصوصا منهم أولئك الذين خدموا في المستعمرات الفرنسية السابقة، كانت شهادة الجنرال بول أوساريس قبيل وفاته عن ممارسته التعذيب في الجزائر قد صدمت الرأي العام الفرنسي والدولي، ليس فقط بما انطوت عليه من حقائق صادمة وما حملته من وحشية وفظاعة، بل بما عبّر عنه الجنرال من قناعة تامّة بأن ما مارسه كان لأجل المصلحة العليا لوطنه فرنسا.
وعلى الرغم مما عكسته الاعتراضات من قبل شخصيات فرنسية وازنة على دعوة العسكريين في المقالين المنشورين بالمجلة المحافظة من وجود جبهة ممانعة للأفكار اليمينية التي حملها مقال العسكريين، إلاّ أنّ المهتمّين بالشؤون الأوروبية يحذّرون من وجود مشكلة حقيقية تتمثّل في أن ما حمله المقال من أفكار مضادّة للتسامح والتنوّع والتعدّد التي لطالما شكّلت أبرز نقاط قوّة المجتمعات الأوروبية، بدأت تلقى رواجا هامّا داخل تلك المجتمعات نفسها وذلك لأسباب موضوعية بينها كثرة المهاجرين القادمين بطرق عشوائية وما يمثّلونه من ضغوط متزايدة على الخدمات العامّة ومواطن العمل، ومن تهديد للأمن في بعض الأحيان عبر ما يحملونه من أفكار دينية متشدّدة تزيد في تغذيتها حالة التهميش التي يعانيها سكان بعض الأحياء في عدّة مدن أوروبية يقطنها هؤلاء المهاجرون.
وتزداد المشكلة تعقيدا عندما يجد السياسيون المعتدلون أنفسهم مضطرّين إلى منافسة أصحاب الأفكار اليمينية المتشدّدة على أرضيتهم لأسباب انتخابية، وهو ما يرى كثيرون أنّ الرئيس الفرنسي ماكرون انزلق إليه عندما حذّر مما سماه الانفصالية الإسلامية في إشارة إلى خروج مسلمي البلاد عن قيم الجمهورية وقوانينها، الأمر الذي استغّله الإسلاميون في فرنسا وخارجها ليشنّوا عليه وعلى بلاده حملة عاتية وصلت حدّ الدعوة إلى مقاطعة فرنسا سياسيا وتجاريا.