عثرات إسرائيل قوة لحماس

لا تزال إسرائيل متمسكة بأهدافها المعلنة بتدمير حركة حماس، لكن هذه الأهداف لم تتحقق بعد ثمانية أشهر. ويرى محللون أن صورة دولة إسرائيل تضررت كثيرا وأن تعويلها على القوة الصارمة يزيد كلفة الحرب السياسية والعسكرية.
غزة - غالبا ما تحقق الانتصارات والمآثر العسكرية الإسرائيلية انتصارات في ساحة المعركة وتفشل في الامتداد إلى مكاسب سياسية. لكن حرب غزة غيرت هذا النموذج، حيث لم تسفر عن أي انتصار عسكري أو سياسي. وتدهورت الأمور بتخلي إسرائيل عن فكرة أن القوة الناعمة لا تقل أهمية عن القوة الصارمة. وحذر الباحث جوزيف نايفي في هذا السياق من أن “تجاهل القوة الناعمة أو إهمالها يعدّ خطأ إستراتيجيا وتحليليا”.
وأضاف “تكون السيوف أقوى من الكلمات على المدى القصير، ولكن الكلمات توجّه السيوف على المدى الطويل”. ويرى الباحث في شؤون الشرق الأوسط جيمس دورسي أن إسرائيل لم تستجب للنصيحة وهي تخسر نتيجة لذلك حربين في غزة، الحرب نفسها والمعركة على القلوب والعقول. وفي المقابل، يبقى كل ما تحتاج حماس إلى فعله لإعلان النصر هو البقاء على قيد الحياة.
وقد قدّست إسرائيل هذه الفكرة، التي تنطبق على معظم الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تواجه قوات عسكرية تقليدية، من خلال الإصرار على أنها ستدمر حماس عسكريا وسياسيا. وتكمن مشكلة إسرائيل في احتمال نجاة حماس لو قتلت زعيم الحركة في غزة يحيى السنوار. والسنوار من أكثر المطلوبين في إسرائيل، وقد أفلت من القوات الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب في أكتوبر الماضي. كما فشلت في تحقيق أهدافها الحربية الأخرى، أي إنقاذ الرهائن الذين تحتجزهم حماس وضمان عدم بقاء غزة منصة انطلاق للمقاومة الفلسطينية.
وقتل الفلسطينيون في نهاية هذا الأسبوع عشرة جنود إسرائيليين. وكانت هذه أعلى حصيلة في يوم واحد منذ يناير. وأقر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بأن إسرائيل لن تكون قادرة على إنقاذ جميع الرهائن الـ116 المتبقين عسكريا، ويعتقد أن 41 منهم قتلوا في الأسر خلال الحرب. وصرّح "لن نتمكن من إعادة الجميع إلى ديارهم بهذه الطريقة".
وعلى صعيد معركة كسب القلوب والعقول، لم تضيّع إسرائيل أي وقت في تدمير التعاطف الأولي الذي لاقته ردا على وحشية هجوم حماس في السابع من أكتوبر الذي أسفر عن مقتل أكثر من 1100 مدني إسرائيلي وأجنبي واختطاف 250 آخرين. وأطلِق سراح أكبر عدد من الرهائن منذ السابع من أكتوبر (أكثر من 100) خلال نوفمبر في تبادل للأسرى مع حماس. ولم ينقذ الجيش الإسرائيلي سوى سبعة أشخاص.
وقد تكون هزيمة إسرائيل التي ألحقتها بنفسها في الحرب على القلوب والعقول أكثر أهمية من عدم قدرتها على سحق حماس في ساحة المعركة رغم الضربات الشديدة التي تلقتها الحركة. وتحولت إسرائيل في غضون أشهر من كونها على أرضية أخلاقية عالية إلى دولة متهمة في محكمة العدل الدولية بتهم الإبادة الجماعية ويخاطر قادتها بإصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وكان كسب حرب القلوب والعقول معركة شاقة نظرا إلى عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا وجرحوا على أيدي القوات الإسرائيلية والدمار المادي الذي تكبدته البنية التحتية في غزة، إضافة إلى القمع الإسرائيلي المتزايد في الضفة الغربية، والتأييد الضمني لهجمات المستوطنين الأهلية على الفلسطينيين وقوافل المساعدات التي تشق طريقها إلى غزة.
وتبدو إسرائيل عازمة على ضمان إنهاء الحرب دولة منبوذة في جل أنحاء العالم بإعاقة تدفق الإغاثة الإنسانية اللازمة لمعالجة عواقب تقليصها للغذاء والوقود والمياه والكهرباء وتدمير القطاع الصحي في غزة. وتفاقم الوضع حين لم تبد إسرائيل أي تعاطف مع محنة الفلسطينيين الأبرياء ولا اعترافا بأن لهم حقوقا أيضا. وأدلى القادة الإسرائيليون مرارا وتكرارا بتصريحات الإبادة الجماعية وعرقلوا الجهود الرامية إلى تحقيق وقف لإطلاق النار.
وأظهرت حماس عدم حساسية مماثلة. لكن ذلك لا يحمل أي تأثير على مكانة إسرائيل العالمية. ولم يؤد التنديد الإسرائيلي بالاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحرب في جميع أنحاء العالم باعتبارها معادية للسامية ورفض استطلاعات الرأي العام التي تظهر تحول الرأي العام الغربي ضد الدولة العبرية إلا إلى تعميق الفجوة التي تجد نفسها فيها. وهذه حفرة ستجد تل أبيب صعوبة في الخروج منها. والأسوأ من ذلك أن سلوك إسرائيل في حرب غزة وموقفها المتناقض في العلاقات العامة، مثل الاستيطان في الضفة الغربية وغيرها من السياسات، ساهم في تصلب المواقف على جانبي الانقسام، مما جعل حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بعيد المنال بشكل غير مسبوق.
ويُهدد هذا بدعم فكرة حماس القائلة بوقف إطلاق النار طويل الأمد في غزة، وعلى نطاق أوسع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن هذا قد يكون الشيء الوحيد الذي يمكن تحقيقه. ومن المرجح أن يعزز القبر الذي حفرته إسرائيل لنفسها ادعاء حماس بأن حل الدولتين للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يجب أن يشمل هدنة طويلة الأمد بدلا من الاعتراف الفلسطيني بالدولة العبرية.
◙ إسرائيل فشلت في تدمير حماس ويبقى كل ما تحتاج الحركة إلى فعله لإعلان النصر هو البقاء على قيد الحياة
وتؤكد إسرائيل أن فكرة حماس عن هدنة طويلة الأمد بدلا من الاعتراف الفلسطيني بالدولة العبرية في سياق الدولتين يدل على تصميم الحركة على تدميرها والحفاظ على الحق في المقاومة المسلحة. وفي مقابل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل في ثمانينات القرن العشرين كمقدمة لإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، يتصور ميثاق حماس المعدل لسنة 2017 دولتين تعيشان جنبا إلى جنب دون الاعتراف ببعضهما البعض ودون علاقات دبلوماسية كاملة.
ويرفض الميثاق أي حقوق إسرائيلية وجميع قرارات الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية الأخرى التي تعترف بالحقوق الوطنية المتساوية للإسرائيليين والفلسطينيين، وينص على أنه “لا اعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، وإن كل ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطل، فالحقوق لا تسقط بالتقادم… وبما لا يعني إطلاقا الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية – فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة… وستظل المقاومة والجهاد لتحرير فلسطين حقا مشروعا وواجبا وشرفا لكل أبناء شعبنا وأمتنا".
وسعى بعض مسؤولي حماس منذ ذلك الحين إلى التراجع عن إصرارهم على الحق في شن الكفاح المسلح. وأشار مفاوض وقف إطلاق النار خليل الحية في أبريل إلى أن حماس ستوافق على هدنة لمدة خمس سنوات أو أكثر وتلقي أسلحتها وتتحول إلى حزب سياسي إذا أقيمت دولة فلسطينية مستقلة على حدود ما قبل 1967.
وأكد استطلاع حديث للرأي انخفاض الدعم بين الفلسطينيين لحل الدولتين للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني بشكل كبير. ومن المرجح لذلك أن يكتسب موقف حماس رواجا متزايدا بين الفلسطينيين، حتى لو رفضته إسرائيل تماما.وأظهر استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية هذا الشهر أن الدعم في غزة لحل الدولتين قد انخفض إلى النصف تقريبا من 62 في المئة في مارس إلى 32 في المئة في يونيو بينما بقي ثابتا عند ثلث سكان الضفة الغربية.
وأشار عزام التميمي، وهو باحث وصحافي يبلغ من العمر 69 عاما تربطه علاقات وثيقة بحماس، إلى أن الهدنة طويلة الأجل بدلا من اتفاق السلام “تعدّ الطريقة الوحيدة التي يمكنك من خلالها فك الارتباط. يمكن أن يتحقق وقف حقيقي لإطلاق النار”.
اقرأ أيضا:
وقال التميمي إن فكرة حماس "تبقى اعترافا فعليا بالوضع الراهن، لكنها ليست اعترافا قانونيا". وأصر التميمي على أنه “لن يقبل أبدا شرعية احتلال منزل والدتي في بئر السبع”، وأكد أنه “سيقبل، وأعتقد أن معظم الفلسطينيين الذين تمثلهم حماس سيقبلون، فكرة أن هذا الصراع لا يحقق ما يتوقعه أي من الجانبين، وبالتالي ليس فك الارتباط لوقف القتال… لمدة عشر سنوات أو 15 سنة أو 30 سنة… فكرة سيئة. سيمكن للناس خلال تلك الفترة التمتع بفترة راحة. ثم سيصعد جيل جديد ناشئ، ودع الأجيال القادمة تقرر ما تريد أن تفعله حيال هذا الصراع”.
وقد تضرب فكرة حماس والتميمي على وتر حساس بين الفلسطينيين، لكن من المؤكد أنها لن تدفع إسرائيل إلى الاقتراب من طاولة المفاوضات. وبغض النظر عن هدف إسرائيل المتمثل في تدمير حماس ورفض حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لحل الدولتين، أصرت تل أبيب لعقود على أن أي نظير فلسطيني يجب أن يعترف بالدولة العبرية بحكم القانون وأن يتخلى عن الكفاح المسلح. كما طالبت الفلسطينيين بالموافقة على إعطاء الأولوية للمخاوف الأمنية الإسرائيلية حتى لو كانت مخاوف الفلسطينيين مشروعة بنفس القدر.
ومن المؤكد أن دولتين في فلسطين التاريخية، بغض النظر عما إذا كانت تربطهما علاقات قانونية أو فعلية، ستشبهان الهند وباكستان، وهما دولتان انفصلتا عن بعضهما البعض خلال 1947، ولا تزالان على خلاف بعد 77 سنة. لكن يردد الكثيرون في الغرب اعتقاد رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني بأن “إسرائيل قد وقعت في فخ، فخ حماس الذي كان يهدف إلى عزلها”. وأضافت ميلوني في قمة مجموعة السبع في نهاية الأسبوع الماضي أنه “يبدو أنه نجح”.
وتوسعا في فكرة ميلوني، قال مفاوض السلام الإسرائيلي السابق دانيال ليفي إن هذه “كانت هزيمة كبيرة لإسرائيل باستخدامها قوتها بهذه الطريقة العشوائية، منذ اليوم الأول حين قالت إنها ستقطع… كل الغذاء والوقود والماء والكهرباء على السكان المدنيين في غزة. وكانت هزيمة على مستوى السمعة والأخلاق والقانون والاقتصاد… وسوف يؤدي هذا إلى تغيير ميزان القوى… ستخرج حماس من هذا الوضع في موقع الطرف الأقوى… وستخرج إسرائيل من هذا الوضع في موقع الأضعف… وهذا من صنع إسرائيل نفسها”.