عبدالهادي سعدون: من الصعب علينا الكتابة من موقع المتفرج

ما تهم الكاتب هي الكتابة أولا وجدواها، ومن ثم قيمة ما أصدره، وبعد ذلك يضع كل ذلك بين يد قارئ مجهول بالنسبة إليه، فمن منا يعرف حقا قارئه؟ لكن الكاتب عادة كلما أنهى كتابة شيء جديد، يحاول أن يفكر بأنه أمام قارئ نبيه وفي الوقت نفسه ناقد واع ومدمن للنصوص المحكمة، ومن هنا يدرك صعوبة الحكم سواء كان بالإعجاب أو الرفض. همّ الكاتب الوحيد في كل ما يكتبه هو أن يدرك القارئ بأنه أمام نص لا يمرّ بسهولة، ويحتاج إلى القراءة أكثر من مرة، والأكثر من ذلك هو أنه أمام نص يستحق كل هذا. “العرب” التقت الكاتب العراقي عبدالهادي سعدون لتحاوره حول عوالم الكتابة وكان لنا معه هذا الحوار.
الثلاثاء 2015/07/28

يكتب الشعر والقصة والرواية ويمارس الترجمة الأدبية هذه الحقول الإبداعية التي يقاربها الكاتب عبدالهادي سعدون لا بد أنها شكلت خبرة مميزة يستطيع بعدها أن يحدّد النوع الأدبي الذي يجد نفسه منحازا إليه، يقول: إنه القصة القصيرة. يشغله القارئ ويسعى إلى أن يقدم إليه نصا يحتاج للقراءة أكثر من مرة، بغداد هذه المدينة الساكنة القلب لم يستطع التحرر منها ومن ملامحها وهو المقيم في مدريد منذ العام 1993، صدر له “اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر” (1996)، “كنوز غرناطة” (1997)، “انتحالات عائلة” (2002)، “دائما” (2010)، “مذكرات كلب عراقي”، و”توستالا” (2014).

القصة صديقة

عن أقرب الأجناس إليه من بين الشعر والقصة والرواية والترجمة يقول عبدالهادي سعدون: الحقيقة التي أرغب أن أتوصل إليها هو أن أكون كاتبا لا غير، والأهم أن أنجح في المهمة أو على الأقل أن أحقق شيئا ما في حقل أي نوع من الكتابة التي أمارسها. فهل نجحت حقا؟ّ! لكنني بعد هذه المسيرة التي تصل إلى عشرين عاما منذ صدور أول كتاب لي، وبعد أن كتبت في كل الأنواع، أجدني وفيا للقصة ومتمسكا بها بوعي ودراية. لا بد أنني أجافي قول الحقيقة أنني قد تركت كل شيء من أجل القصة المعشوقة الحقيقية، فذلك ليس صحيحا لأنني أعاود المرور بين الحين والآخر على دروب الرواية وأحيانا على حجرات الشعر الفريدة، لكنني شغوف جدا بالقصة القصيرة وأجدني أقرب إليها في الكتابة وهي التي تحويني كليا وتنشط مسارات الحكي في داخلي. أما إذا سئلت عن الترجمة، فأعيد ما أقوله في كل مرة، وهو أن رغبة الترجمة تأتي متوازية مع الكتابة، وأنا أشعر بقيمتها وأهميتها لي كمثقف يعيش في مجتمع ولغة وإبداع لا بد من قراءته.

الواقع قد يغريك بالكتابة عنه لمجرد مراقبة البشر وما يجري في العالم، ولكن مهمة الكاتب ليست تسجيلية

يعتبر سعدون أن كل قصصه تنويعات على النص نفسه، بحيث لو تجمعت كلها لأشارت إلى نص واحد متكامل، وفي هذا يمكن الإشارة إلى “انتحالات عائلة” الصادرة عام 2003، والتي كانت عبارة عن قصص في رواية أو رواية في قصص وهذا ما ينتبه إليه ضيفنا بعمق، ولكنها ككتاب يقرأ أيضا كقصص منفردة. والحال مع “توستالا”،

في رأيه، يمضي في الشق نفسه وإن كان هنا أقل راديكالية عن “انتحالات عائلة”. يقول ضيفنا: تعمدت ذلك للخروج من معطف “انتحالات عائلة” التي أثرت صبغتها كتابتي التالية بشكل كبير، مما حدا بي ألا أنغمس في لعبة النص المنفصل والمتواصل مع النصوص في وحدة سردية كاملة. أما لماذا لم أدرجها في نص روائي؟ فهذا ما لا أعرف حتى أنا نفسي الإجابة عنه. فهل أحيله للذات الكاتبة وهي تعيد الصقل والكتابة وفق ما ترغب فيه وتراه صالحا من هيكل وجنس يؤطرها، أم لرغبة التلاعب والتكيف مع كل الأصناف الممكنة. كلها من الممكن أن تكون صائبة.

مدين لليدر

روايته “مذكرات كلب عراقي” أو كما يحب تسميتها “الرواية التي أتعبتني على مدى سنوات”، يجعلنا نتساءل إن كانت الكتابة عملا مرهقا إلى هذا الحد، رغم أن الكاتبة الأميركية جينيفر إيغان تقول: حين لا أكتب يجتاحني شعور بفقد شيء ما؟

يقول عبدالهادي سعدون: الكتابة مثل الحياة نفسها مرهقة وممتعة في آن واحد، وفيهما نجرب كل شيء من أقصاه إلى أقصاه. وعندما أقول إن الرواية أرهقتني، ذلك لفكرتها التي سيطرت عليّ لزمن طويل يفوق العشر سنوات، دون أن أجد المخرج الحقيقي لتدوينها، ومن هنا تعبها وقدرتي على الصبر حتى أكتبها.

الرواية تكتب نفسها بنفسها في اللحظة المناسبة تماما

يضيف: الحقيقة أنا أندهش عندما أقرأ للبعض الذين يتحدثون عن متعة الكتابة دون مشاقها، أعلم أنني لو لم أكتب لفقدت أكثر الأشياء أهمية في حياتي، ومن أهميتها تجتاحني رهبة الكتابة في كل عمل جديد وتقديري للصعوبة والمشاق التي تجتاحني منذ أول جملة حتى آخرها.

ولكن كل هذا يدخل في باب الرغبة البشرية، كلنا نبحث عن ذاتنا من خلال أشيائنا التي نختار ونقدس، وهذا ليس بالمجان ولا بالسهولة بالطبع.

الكتابة أكثر المهن مشقة وأكثرها إغراء ومتعة في آن واحد. الصنع والخلق في كل شيء جديد يمنحنا صنعة الخالق على رأي بورخيس وقبله بآلاف السنين ما ذكره أحد السومريين.

في رواية “مذكرات كلب عراقي” استعمل الكاتب قناع كلب لتمرير مشاهد حزينة لبلد دجلة والفرات. يعلق قائلا: القناع حاضر في كل الكتابات، أليست شخوصنا الحكائية هي قناع عنا بشكل وبآخر. الرواية وإن جاءت على لسان كلب، إنما هي في الواقع تصلح لتكون على لسان البشر، وهي أيضا جاءت مُقنّعة بها للحيلولة دون الوقوع في شرك العبرة الإنسانية. عندما فكرت وكتبت “مذكرات كلب عراقي” على لسان كلب، جعلني أكثر حرية بالبوح بكل هذا الثقل المُجحف الذي ينتابنا عندما نتناول موضوع العراق ولا نجد له مخرجا في الكتابة. لا أعرف هل أنا الذي نجحت ككاتب في تدوين مذكرات الكلب المدعو ليدر، أم أن ليدر قد ساعدني ومنحني فرصة إتمام رواية عن العراق المعاصر أرقتني وأتعبتني على مدى سنوات.

ويضيف: في كل تلك الفترة كنت أشعر أنا الإنسان المستلب من قسوة الواقع بنظرة تعاطف الحيوانات الأليفة التي رافقتني في تلك الرحلة المضنية. يمكنني الإضافة هنا أن ليدر هو أنا نفسي المختفي بلباس وفروة وزمن لم أتميزه بشكل كبير حتى لو اختلفت وإياه بتفاصيل وآراء ومحن ومصائب أخرى. يتقاطع في الرواية مساري الكلب ليدر والواقع العراقي، وبقدر ما تحكي الرواية تطورات الأحداث بالنسبة إلى الكلب، تضيء في شكل تراجيدي، لحظات مهمة من واقع العراقيين، حتى تلك اللحظات التي تحول فيها الكلب الذي يتحدث لغات ويتأثر بسيده، إلى متوحش بدا أنها انعكاس للوحشية نفسها التي أصبح عليها كل واحد فينا في زمن الخيارات المهلكة.

الكاتب هو جزء من التجربة الإنسانية وهو ليس ببعيد عنها ولا هو بالكائن الفضائي الذي لا يمت إليها بصلة

ويؤكد سعدون أن كل نسيج رواية “مذكرات كلب عراقي” هو قناع لبسه لتمرير حكاية تضج في داخله عن العراق، بلده، حكاية كانت تنهشه نهشا على مدى أعوام ولم يعرف كيف يكتبها.

الواقع قد يغريك بالكتابة عنه لمجرد مراقبة البشر وما يجري في العالم، ولكن مهمتنا ليست تسجيلية، ومن هنا يصبح من الصعب علينا الكتابة من موقع المتفرج. أستطيع القول الآن إن الرواية تكتب نفسها بنفسها في اللحظة المناسبة تماما، ما نحتاجه هو التمعن والوقت والخيال لكتابتها.

حاضر في كل كتاباتي

عن شعوره بأن كل عمل جديد له هو الأخير يقول الروائي: طبعا وفي كل كتاب أكتبه. لذلك أحاول أن أجمع وأقول فيه كل ما أريد وكأنني أختفي بعدها. وهذه خاصية الكتابة وكذلك نقيضها المحرض على الاستمرارية. إذ ما أن تنتهي من كتاب حتى تجد نفسك في موضوع وكتاب آخر. لا تستطيع التعويل على أنك ستكتب إلى الأبد، أو أنك ستكتب العمل الأعظم وتستريح بعدها، فلا عمل أعظم حتى لو وضعت فيه كل ما رغبت.

الشعور في كل مرة بأنك لن تقول شيئا بعد الكتاب الأخير حقيقي، ولكن رغبة المعاودة بالكتابة والبحث والسرد من جديد هي حقيقية أيضا ودافعة إلى التواصل. الكتابة لا تختلف عن سنة البشر بالتعلق بالحياة في كل مسراتها وأوجاعها.

سعدون يعتبر أن كل قصصه تنويعات على النص نفسه

يلاحظ القارئ عند قراءته نصوص عبدالهادي سعدون الشعرية والقصصية أنه يكتب سيرة ذاتية لأشخاص ومدن وتفاصيل. إن كانت الذاتية في العمل الأدبي تعتبر نرجسية مفرطة أم تجربة إنسانية، يلفت ضيفنا إلى أنه يميل إلى وضعها من ضمن التجربة الإنسانية، فلا ننسى أن الكاتب هو جزء من هذه التجربة الإنسانية وليس ببعيد عنها ولا هو بالكائن الفضائي الذي لا يمت إليها بصلة. لذا يعتقد أننا كلنا نضع من تجاربنا الشخصية الذاتية في كل نص نكتبه حتى لو كنا نكتب عن آخرين لا يشبهوننا. وأنه في كل نصوصه تقريبا هناك لعب حكائي يستفيد من السيرة الذاتية بشكل كبير.

ويضيف: الكتابة الصادقة اللصيقة لا تأتي من خارج الذات، بل إن الذات جزء لا يتجزأ منها ومحرك رئيسي فيها. أنا حاضر في كل كتاباتي وأتلمسني حقا في كل شذراتها المتناثرة عبر النصوص التي لو جمعت من هنا وهناك لرأيتني متجسدا عبرها.

وعن مدى انشغاله بقارئه لحظة الكتابة، يقول سعدون: ما تهمني الكتابة أولاً في جدواها ومن ثم قيمة ما أصدره وبعد ذلك أضع كل ذلك بين يد قارئ مجهول لي، منْ منا يعرف حقاً قارئه؟ أنا لا، صدقاً. لكنني في كل مرة أنهي كتابة شيء جديد، أحاول أن أفكر بأني أمام قارئ نبيه وفي الوقت نفسه ناقد واع ومدمن للنصوص المحكمة، ومن هنا أدرك صعوبة الحكم سواء كان بالإعجاب أو الرفض. أقول وأكرر باستمرار أن همي الوحيد في كل ما كتبته وأكتبه اليوم هو أن يدرك القارئ بأنه أمام نص لا يمر بسهولة، ويحتاج للقراءة أكثر من مرة، والأكثر من ذلك هو أنه أمام نص يستحق كل هذا.

المدينة الملهمة

بين بغداد ومدريد جغرافيا كبيرة إلا أنه لم يستطع التحرر من بغداد في كل كتاباته. بغداد مدينة ولادته ورمز عراقيتيه حتى لو لم تجئ كمكان ومناخ دائم لأبطال نصوصه، إلا أنها حاضرة بشكل دائم عبر الشخوص والروح الداخلية المهيمنة على الحدث وتسيير الواقع الحكائي. ومع ذلك هناك حضور لمدينته الأخرى الحاضنة: مدريد. كل أبطال قصصه مثله تماما يتراوحون ما بين أرضين ومناخين ولغتين ليشكلوا كائنا متلبسا بها كلها كأعضاء دائمة في جسده ككل.

الكتابة الحقيقية والصادقة اللصيقة لا تأتي من خارج الذات، بل إن الذات جزء لا يتجزأ منها ومحرك رئيسي فيها

يقول ضيفنا: علينا إيجاد طريقة للتصالح مع الذات قبل التصالح مع الوطن الأم أو الوطن الجديد، وهي مهمة إن لم أقل مستحيلة فهي عسيرة بالمرة. ولكن المعرفة بالذات والتقابل مع الواقع هي أول خطوة نحو هذا التقارب وهذا الفهم الممكن. إن كل تقابل وتلاق وتلاقح واندماج في مجتمع جديد ليس معناه انسلاخا وتذويبا وفقدانا، بل العكس في رأيي فهذا معناه أكبر بكبير وهو الوجود والإصرار والتحرر. أرى أن الكاتب حتى وهو في معادلة تصفية دائمة مع الوطن أو أي تسمية أخرى في كل كتاباته إنما ينطلق من واقع علاقته الحميمة بالأرض الأم، وهذا الحال لا ينطبق على الكاتب المنفي فحسب، بل يشمل حتى كاتب الداخل الذي لم يغادر مدينته حتى، وإلا فسيكون نصه ميتا في كل المستويات لا يعتمد سوى على سرد حكاية والبكاء على أطلال أو تقصي ذكرى.

يضيف: هذا على أية حال ليس انتقاصا من وطن أو تشف بل هي حالة نزاع داخلي مع الذات في رفض ما يخرج عليها، هذا النزاع أو النزف الداخلي هو معادلة الأنا ـ الوطن، وهي تقييم ومحاورة واختلاف وتلاق مع أجزاء الذات نفسها.

في نصوص عديدة لي يحاول البطل الهروب ورفض ولعن كل ما له صلة بالوطن، وهي في حقيقتها محاولة اقتراب وإيجاد ومراجعة في آن واحد. إن الوعي بالمسألة يحيل الوطن إلى قضية تفاعلية وإن جاء تناولها بصيغ وأساليب مختلفة. ربما تجدين الإجابة عن تواجد بغداد والمناخ العراقي في كل نصوصي المدريدية وأخرى غيرها.

15