عبدالقادر محمدي رحلة طبيب عربي حصد اعتراف الغرب بنبوغه

يستذكر والد الطبيب الجزائري عبدالقادر محمدي دفاتر الأيام ليستحضر حلما مدفونا في الذاكرة منذ أيام التعليم المتوسط، ويسكن مقام السر والشراكة بينهما، كان يمازح الوالد طفله، وهما في حديقة بيت العائلة العتيق في بلدة “بيرين” بمحافظة الجلفة جنوبي العاصمة بقوله: سنكتب معا يوما ما كتابا يكون العنوان فيه “من الدوّار إلى هارفارد”.
وغير بعيد عن الحلم والنّبوءة، مضت الأيام بما فاض به عن جوانب الدفاتر صخبا وجهدا، وامتدت الدّروب وتشعّبت، وها هو اليوم يغيّر عنوان الكتاب الموعود ليصبح “سرديات العبور من بيرين إلى ستانفورد”، ليروي حكاية نجاح انطلقت من عمق الجزائر لتصل إلى أرقى الجامعات الأميركية، لتساهم بجهودها في إنقاذ البشرية من الجائحة العالمية، وتثبت للعالم أن النخبة العربية يمكن أن تبدع في مختلف المجالات متى توفّر لها المناخ المناسب.
محمّدي ولد في الجزائر العاصمة العام 1982 ومن جامعتها تخرج ضمن المكرّمين من طرف الطاقم المشرف على مسارهم الجامعي، وبين المحطّتين التاريخيتين، تنقل وفق ترحال أبويه الطبيبين اللذين مثلت الخدمتان الوطنية والمدنية في حياتهما سبع سنوات من السفر عبر المدن الداخلية، وانتهى بها المطاف بالاستقرار في بلدة بيرين، والبلاد تضج بدماء العشرية الدموية ودموعها.
النبوءة تتحول إلى حقيقة
الخبراء الأميركيون يجمعون على أن دراسة محمدي هي أول مادة علمية تثبت دور الجهاز العصبي في تشكيل مشهد كوفيد المعقد، وهي الدراسة التي نقلت مركز الخطر من الجهاز التنفسي مناصفة مع الجهاز العصبي المركزي بإصابة 40 بالمئة لكل منهما
تلقى محمدي هناك تعليمه في بلدة عين وسارة المجاورة، برغبة من الوالد الذي كان يبحث عن تنوع في الوسط الطلابي وعن الاختلاف الخلاق بين مناخات ومكونات الطلبة الوجدانية والفكرية، وكأنه كان يدرك أن ابنه ليس بالتلميذ العادي ويستوجب تحضير الجو المناسب له وتهيئته لمستقبل علمي ومهني واعد.
يذكر الوالد أن ابنه الطفل كان يستقطبه توجهان: الرياضيات واللغات، أما الرياضيات فقد شكلت لحمة عقله العميقة إلى حد الاعتراف بأنه لا فرق بينها وبين الفلسفة في أبوابها المتصلة بالمنطق الصوري وبالإبستيمولوجيا، أما قطب اللغات الثلاث فكان تحديا متواصلا داخل مناخ خاص بالمدن الداخلية عموما وبأحادية الهوى فيما يخص الانتساب الهوياتي واللغوي.
ويضيف ”لم تمنعه هذه التحديدات من الفوز بشهادات المتعمق في اللغة الفرنسية وبشهادة التوفل الإنجليزية، كثمرة جهد يدفعه في كل عطلات الصيف إلى مدارس اللغات الخاصة والنادرة في العاصمة، أما فيما يخصّ التحصيل اللغوي العربي فقد تربّي الطفل محبّتها والاعتزاز بها اعتزازا غير مشروط، ومن خلالها تبنّي القيم الأجمل التي تحملها كسر قيمي للحياة المشتركة مع البقاء على اليقظة النقدية الجذرية في وجه كل دعوة أو ادعاء هازم للعقل”.
وفي شهر يوليو الماضي انتهت مداولات جامعتي ستانفورد وكاليفورنيا الى فتح منصبين للجزائريين محمدي وزوجته سهى بشير، المنصب الأول في قسم طب الأشعة العصبية والمنصب الثاني في تخصص القلب في طب الأطفال وعلم الجينات والبيولوجيا الجزيئية. وكان ذلك أول دخول جزائري بفضل الثنائي المذكور، لما يعرف بالمثلث الخرافي الساحر في سان فرانسيسكو المكون من وادي السيليكون إلى جامعة كاليفورنيا، وجامعة ستانفورد التي انتزعت العام 2015 المرتبة العالمية الأولى من هارفارد، المستحوذة على الصدارة منذ عقود.
ويبدو أن البيئة الطبية للعائلة كانت حافزا لمحمدي للخوض في هذا المجال، فوالده جراح أسنان ومختص في الطب الصيني، أنهى 12 عاما قضاها في العديد من الجامعات الفرنسية، بتأسيس المعهد الفرنسي – الجزائري للطب البديل بالشراكة مع جامعة باريس 13.
أسرار كوفيد
التحق محمدي قبل عامين بجامعة سينسيناتي، قادما من جامعة كليفلاند كلينيك بأوهايو، الحائزة على المرتبة الأولى عالميا في هذا التخصص، وفيها أكمل زمالة طب الأشعة
العصبي، وذلك بعدما تخصص في الطب النووي وطب الأشعة التشخيصية في جامعتي جونز هوبكز وتوليدو على التوالي، حيث شهد له خبراء الجامعة أنه “مؤثر مميز في حلول العصر الذهبي طبيا على المؤسسة” بمعية قامات مثل الأستاذة ماهوني رئيسة قسم الأشعة ورئيسة منظمة علم الأشعة لأميركا الشمالية، المؤسسة المرجعية في التخصص على المستوى الدولي.
بداية محمدي في عالم النبوغ الطبي بدأت بفترة تدريب الإقامة في مستشفى جونز هوبكنز المتربع وقتها على الرتبة الأولى أميركيا ولعامه الـ23. وكان قسم طب الأشعة فيه كان محجا للمتميزين الحالمين بالنبوغ في هذا التخصص بمثل ما نبغ به الطبيب الجزائري الآخر إلياس زرهوني في هذا القسم ذاته وتحت إشراف المعلم الكبير ستانلي سيغلمان.
ويذكر بأن ذلك حدث قبل أن يصبح الأستاذ زرهوني طبيب الرؤساء الأميركان ثم الممثل العلمي الخاص لاثنين منهم ثم رئيس المعهد الوطني للصحة الذي يحظى بميزانية مسخرة للصحة الأميركية بما يكافئ المدخول القومي لعشر دول من الحجم المتوسط.
وكان زرهوني الطبيب الجزائري الوحيد الذي عبر عتبة جامعة هوبكنز، وهو الصرح العلمي المرموق الذي لم يلجه بعد زرهوني إلا اثنان فقط هما محمدي وزوجته المختصة في طب الأطفال والتي زاولت بدءا إقامة طب الوراثة والبيولوجيا الجزيئية هناك.
الفريق الطبي يقوم باستحداث علاج عبر التأثير على أنسجة الدماغ بواسطة نبرات الموسيقى، وتشترك في هذه التجربة غير المسبوقة جامعات متعددة في تخصصات الـ{أر.أي.أم} الوظيفي والفن وتكنولوجيا المعلومات
وزامل الباحث الجزائري نخباً طبية أميركية، على غرار أشالا فاجال مديرة الأبحاث الطبية في أوهايو والحاصلة على عدة منح من المعهد الأميركي للصحة في برنامج واسع من الأبحاث تفرغت له كلية بالمعية الحصرية مع محمدي الذي يشغل منصب ما يسمى بـ”القارئ الأول والمركزي” إضافة إلى البحوث التي يبادر بها في أعماله المستقلة، فضلا عن المديرة العامة لمعهد غاردنر للعلوم العصبية الذي يقود حاليا برنامج دراسة من عشرين شهرا، في مجال البحث عن علاج غير نظامي لأمراض الكوفيد ومخلفاته وما يسمى بـ”الكوفيد الطويل“ التي هي أعراض يغلب عليها “الضباب الذهني” وتأثيرات أخرى على أجهزة مختلفة.
يقوم الفريق المذكور باستحداث علاج عبر التأثير على أنسجة الدماغ بواسطة نبرات الموسيقى، وتشترك في هذه التجربة غير المسبوقة جامعات متعددة، في تخصص الـ”أر.أي.أم” الوظيفي، يشرف عليه محمدي، والفن وتكنولوجيا المعلوماتية حيث تمت مشاركة جامعة ستانفورد في التجربة، بابتكار تطبيق إلكتروني لمعالجة المادة الموسيقية المتضمَّنة في البحث.
ساهم الخبير الجزائري بابتكار نظام تعليمي مخصّص لطب الأشعة العصبية ومنهاج دراسي للأطباء المقيمين والمؤهلين بالزمالة، يتم تنظيمه بطريقة تفاعلية تتضمن ثيمات يتم التحضير المسبق لها، وهو الإنجاز الذي كرّمته الجامعة من أجله بجائزة أفضل مدرس – مقيم في العام 2017.
هذه مرحلة ساهمت بترقيته إلى منصب ريادة مجالس أورام الدماغ، والإشراف عليها أسبوعيا في معهد غاردنر للعلوم العصبية، والإشراف على محاضرة طلاب الطب وطلاب الدراسات العليا والأطباء المقيمين والزملاء، إلى جانب الإشراف على مقابلات الأطباء المقيمين وعلى تأهيل الملتحقين بأطقم طب الأشعة.
وفي دائرة التأليف أنجز محمدي مناصفة مع مديرة معهد غاردنر كتابا أول موسوما بـ”دليل مريض ورم الدماغ ومقدم الرعاية والطبيب العام” وكتابا ثانيا بعنوان “طب الأعصاب السريري”، إلى جانب مقالات نشرت في مجلات متخصصة منها “راديولوجي” العام 2020، والمجلة الأميركية لطب الأشعة العصبية خلال العامين 2020 و2021، وترشح بها لنيل جائزة “كورنيلوس دايك” للمنظمة الأميركية لطب الأشعة العصبية خلال العام الجاري.
وخلال العام الماضي المصادف لذروة وباء كورونا، قدّم دراسة مرموقة مكنت من الرصد المنهجي الكامل للأعراض العصبية لدى مرضى كوفيد، والتي كانت أمرا مغيبا على الإطلاق في تشخيص كوفيد في بداية الجائحة.
وأجمع الخبراء حينها على أن الدراسة المذكورة هي أول دراسة تثبت دور الجهاز العصبي في تشكيل مشهد الكوفيد المعقد، وهي الدراسة التي نقلت مركز الخطر من الجهاز التنفسي مناصفة مع الجهاز العصبي المركزي بإصابة 40 في المئة كل منهما بينما تصيب الـ20 في المئة الباقية القلب وبعض الأجهزة الأخرى.
وكتبت جريدة إكسبرس اللندنية بالبند العريض في إشارة إلى أبحاث محمدي لتؤكد أنها ”دراسة تستدرك ما غفلت عنه هيئة الخدمات والصحة للمملكة البريطانية، وما لم تدرجه في منوالها الطبي الرسمي”. وأنه بالفعل اقتصرت توصيات الهيئة على متلازمة هزيلة مكونة من الحمّى والسعال وآلام الظهر.
متلازمة غير معروفة

شملت الدراسة التي أجراها محمدي على 725 مريضا بالكوفيد، وخصت ثلاث مؤسسات استشفائية مختلفة من إيطاليا، إضافة إلى مؤسسة سينسيناتي من الولايات المتحدة، وتصدر البحث وسائل الإعلام العالمية بأكثر من 200 صحيفة، في أكثر من 35 بلدا وبـ25 لغة.
كما أدار دراسة أخرى في مركز ”رادها“، حيث كان على رأس فريق من 30 عالما من البارزين في طب أشعة الأعصاب في أربعة بلدان هي أميركا، البرازيل، إيطاليا وإسبانيا، وهي الدراسة التي انطلقت من سؤال أولي ”هل يمكن أن تعكس شدة إصابة الرئة في مرض الكوفيد إصابات في الدماغ يتوقعها الفحص بالـ”أي.أر.أم؟”، وخلصت الدراسة إلى الإيجاب بنعم، بعد أن كشفت لأول مرة وبالبرهان التصويري على متلازمة غير مسبوقة تربط بين أمراض الرئة وأمراض الدماغ.
وشكلت هذه المتلازمة أرضية أسّس عليها محمدي القدرة على التنبؤ بما يحصل في دماغ المصاب بكوفيد في الأيام القليلة التي تلي إصابة رئتيه، وبناء على ذلك طور نظاما للرئة يتم بمقتضاه تقسيم مرضى كوفيد إلى شرائح بخمس وعشرين مرتبة، في سلّم يسمح مبكرا بانتقاء المرشحين إلى المضاعفات وتوجيههم إلى التكفل الأنجع لهم مراقبة ووقاية وعلاجا مبكرا.
وحظي البحث بإشادات أكاديمية وإعلامية، كما في تغريدة لمديرية الأبحاث في موقع الجامعة الرسمي قالت فيها ”عمل لا يصدق أنجزه د. محمدي. إنها حاجة الأشياء إلى البطل الفريد كي تتحقق”، وجاء في تغريدة أخرى ”تم نشر المخطوط الخاص بارتباط شدة إصابة الرئة بتصوير الأعصاب بقيادة نجمنا الصاعد د. محمدي”.
أما المذيع التلفزيوني الأميركي براد وود فصدح منبهرا بعد حواره المباشر مع محمدي ”إنها القدرة على التنبؤ يا سادة”، وأضاف في إشارة إلى المبنى الذي وراء ظهره “ها هنا، في هذا المبنى تصنع الريادة العالمية، ويصنع الفارق“.
في حوزة محمدي العديد من الجوائز والأوسمة التقديرية بما في ذلك الجائزة الأولى في أميركا لأفضل دراسة حالة بالتصوير الطبي للمعهد الاميركي في علم أمراض الأعصاب، وجائزة أفضل مقال، وجائزة المقال الأكثر اقتباسا، وتم اختياره عام 2017، ضمن الباحثين العشرة الأكثر تأثيرا حول العالم من طرف مجلة التصوير المقطعي المحوسب للصدر والمنبثقة عن الجمعية العلمية لأمراض الصدر، فضلا عن تسمية تقنية القياس الهندسي المدقق للشريان الرئوي الرئيس من أجل التشخيص المبكر لضغط الدم الرئوي باسمه.