عبدالرحيم كمال مؤلف مصري يخوض معركة ممتدة مع الإبداع

تراجع مستوى الكتاب والمؤلفين في الدراما والسينما المصرية في الآونة الأخيرة من ذوي الخبرات والكفاءات ومن المهمومين بمشروعات إبداعية معينة، ولم يعد هناك عدد كبير ينشغل بقضايا جادة وعميقة عقب رحيل أو عزوف مبدعين من نوعية وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن ومحمد صفاء عامر ومحمد جلال عبدالقوي.
يعد المؤلف والسيناريست عبدالرحيم كمال امتدادا لجيل ترك بصمة في إيقاظ الوعي المصري وقدم أعمالا لا تنسى في الذاكرة الوطنية، حيث يملك الرجل مشروعا فكريا لم يحد عنه، تعددت أشكال وألوان التعبير عنه بين الأدب والسينما والدراما.
اتجهت الأضواء نحو كمال الأيام الماضية بعد سيطرة حركة طالبان الأفغانية على السلطة في كابول وما يكتنف هذه الخطوة من غموض بشأن علاقة الولايات المتحدة التي قررت الانسحاب من أفغانستان بموقف الطيف الواسع من الحركات الإسلامية النشطة، وهي الزاوية التي كانت محور اهتمام مسلسل “القاهرة - كابول” الذي عرض على فضائيات مصرية وعربية رمضان الماضي، من تأليف وسيناريو وحوار عبدالرحيم كمال الذي حفر اسمه بهذا العمل في نوعية جديدة من الدراما السياسية والأمنية التي كان بعيدا عنها نسبيا، حيث صب خلال الفترة الماضية جانبا كبيرا من اهتمامه على المجتمع المصري وموروثاته الحضارية.
تشريح مجتمعي دقيق
أعاد زخم الأحداث الأخيرة في أفغانستان التذكير بالعمل ودروسه وعبره، والذي يحسب لمؤلفه قدرته على التحليل والاستشراف ورصد المعلومات وتشريح الحالة الإسلامية في دولة شبه مفككة وامتداداتها الخارجية في مصر والدور الذي تلعبه أجهزة استخباراتية مختلفة لتسخير القوى الإسلامية لصالحها.
وضع كمال يده على أطر سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية كثيرة ومتداخلة شكلت هذه الظاهرة التي تعدّ بمثابة مفاتيح لمعرفة مكوناتها وآليات انتشارها، ونجح في فك شفرات جملة من الألغاز حيرت البعض من المتابعين السياسيين، خاصة أنه نجح في تقريب مشاهد معقدة ومتشابكة إلى ذهن المشاهدين.
جاء الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس المصري عبدالفتاح السياسي مع برنامج “صالة التحرير” على قناة صدى البلد الاثنين (23 أغسطس) أثناء استضافة البرنامج للكاتب عبدالرحيم كمال ليمنحه إشارة قوية تدفعه لمواصلة معركته ضد ما يسمى بـ”تزييف الوعي”، حيث أشاد السيسي بدور المؤلف المصري وقدم له ما يشبه الحصانة الرئاسية ليواصل إبداعاته وحضه على ألا يتوقف عن تقديم كل ما هو جديد في معركته الفكرية الحاسمة، مع وعود بتوفير دعم مفتوح من مؤسسات الدولة.
بعيدا عن المعاني والمضامين التي تنطوي عليها مداخلة السيسي الهاتفية وأهدافها، وهي متعددة، يمكن القول إن كمال منذ هذه اللحظة تم تدشينه رسميا بأنه أحد المبدعين الكبار المحظوظين، ولا يعني بالطبع التدشين الرسمي قبول الجمهور له أو الاعتراف به، فقد يكون المديح أحيانا خصما من رصيد المبدع ويأتي على حسابه معنويا، لأنه في هذه الحالة سيحسب على السلطة بكل ما تحمل من خصال إيجابية وسلبية، وهي السمة التي تلصق بأي كاتب يلتصق بها أو يقترب منها.
في حالة كمال يبدو الوضع مختلفا، فقد جاء التقدير الرئاسي منسجما مع الشعبي والثقافي النخبوي، وهي من المرات النادرة التي تتجمع فيها محددات إيجابية في شخص واحد، إذ استطاع عبر مسيرة مكثفة من العطاء اللافت أن يحفر لنفسه مكانة في الوجدان العام بما يملكه من تكوين ثقافي ثاقب وأعمال طرقت العديد من المناطق الساخنة والمسكوت عنها في المجتمع المصري، ومضى في مشروعه من دون أن ينظر خلفه، ولحسن حظه أنه وجد من يتفقون معه تمثيلا وإنتاجا وعرضا ومشاهدة.
شق المؤلف المصري المولود في أكتوبر 1971 بمحافظة سوهاج الواقعة في جنوب القاهرة بنحو 500 كيلومتر، مشواره نحو الأعمال الدرامية والسينمائية بعد أن درس في قسم السيناريو بالمعهد العالي للسينما في القاهرة، وذلك من خلال “سيت كوم” شهير بعنوان “شباب أون لاين” جذب الانتباه إليه سريعا، وكان أول أفلامه السينمائية فيلم “على جنب يا أسطى” بطولة الفنان المصري أشرف عبدالباقي.
الدراما الصعيدية

عرف اسمه من أول عمل درامي له، وهو مسلسل “الرحايا- حجر القلوب” بطولة الراحل نور الشريف، وأوحى هذا العمل بأن هناك مؤلفا واعدا وخبيرا بدروب ودهاليز سكان جنوب مصر المعروفين بـ”الصعيد”، إلى الدرجة التي أصبحت هناك “دراما صعيدية” تركز على عادات وتقاليد أهالي منطقة الصعيد التي تمتد جغرافيا من جنوب محافظة الجيزة وحتى محافظة أسوان جنوبا.
أسهمت نشأة كمال في محافظة سوهاج في معرفته بالكثير من الخصال وأنواع العادات والتقاليد والتباين في اللهجات والملابس والتفاصيل الدقيقة بين القرى المختلفة، فالصعيد ليس كتلة واحدة صماء كما صورته بعض الأعمال الدرامية تقوم على السخرية واللامنطق أحيانا، ربما يكون هناك سياق عام يجمع سكانه لكن من عاشوا في البيئة الصعيدية وكبروا بين أكنافها يعلمون خبايا لا يعلمها غيرهم ممن كتبوا عنها من وحي خيالهم.
أوجدت هذه المسألة نوعين من الدراما، إحداها تنطوي على مقاربات حقيقية ومتسقة مع الواقع، ويمثلها كمال الذي يكمل مسيرة المؤلف محمد صفاء عامر، وأخرى تعكس فقرا معرفيا كبيرا لا علاقة له بما يدور في مجتمع الصعيد الذي أصبح محصورا في عملية الثأر في الكثير من الأعمال الدرامية.
عندما يذكر اسم كمال يلصق به مرداف كاتب الملاحم الصعيدية، وهي ميزة لأنه أجاد في توصيفها بصورة دقيقة وقدمها بشكل بعيد تماما عن التقليد الأعمى والطريقة النمطية التي تظهر في بعض الأعمال والتي تصور سكان الصعيد فقط كأهل غلظة وقسوة وسلاح وحرص على الثأر والانتقام.
الجمع بين الماضي والحاضر بشكل غير مباشر يمكّنه من تمرير الكثير من الرسائل التي تدعم معركة التنوير دون خطاب زاعق أو محاولة لاستجلاب مواجهة مع قوى إسلامية عنيفة، فالتشخيص الذي ظهر في عدد من أعماله كان كفيلا لتأكيد أن كمال كاتب مميز
وهذه واحدة من العيوب الفادحة التي شاعت مؤخرا عن كمال لأنها تحصر إبداعاته في هذا المجال مع أن مواهبه متعددة ومكنته من طرق الكثير من المناطق المهة دراميا التي تستفز العقل، فاختيار قصص وحكايات من التاريخ القديم والربط بينها وبين ما يجري حاليا تعكس ثقافة واسعة كونها كمال في مرحلة مبكرة، نهل خلالها من ثقافات مختلفة جعلته أقرب إلى الصوفي الزاهد الحريص على تنوير المجتمع وتثويره بطريقة ناعمة، لأن الكثير من الأعمال تستفز المشاهدين حتى ولو كانت مليئة بالألغاز الاجتماعية والسياسية، ولعل اختياره الجمع بين الماضي والحاضر بشكل غير مباشر مكنه من تمرير الكثير من الرسائل التي تدعم معركة التنوير دون خطاب زاعق أو محاولة لاستجلاب مواجهة مع قوى إسلامية عنيفة، فالتشخيص الذي ظهر في عدد من أعماله كان كفيلا لتأكيد أن كمال كاتبا مميزا.
ألف كمال أعمالا عدة لعب بطولتها الفنان القدير يحيى الفخراني، مثل “شيخ العرب همام”، و”الخواجة عبدالقادر”، و”دهشة” و”ونوس” وأخيرا “نجيب زاهي زركش” الذي عرض في موسم رمضان الماضي.
ولا أحد يعلم السر الذي يربط بين كمال والفخراني، ربما هي الكيمياء الشخصية الممتدة، وربما تكون القواسم المشتركة في معركة الوعي الطويلة سببا لهذا التقارب، وربما التفاهم الضمني بينهما في رفض التفاهة والبحث عن كل ما يعكس الجدية والقيمة الفكرية، وربما تكون كل هذه العوامل مجتمعة أسهمت في التقارب بينهما.
قُدمت أعماله بطريقة إبداعية جذابة، أكدت أن هناك جهدا في القصة والحبكة الدرامية والسيناريو وفرها المؤلف، تغوص في الجذور والتفاصيل وتقدم مشاهد بانورامية لكثير من القيم الأخلاقية التي تعكس الواقع المجتمعي بملامحه الحقيقية وتركز على طرح الأفكار بين السطور وفي ثنايا الحوارات بين البطل والمحيطين به في كل عمل درامي، ناهيك عن التفاني في البحث عن الوسائل المناسبة لرصد الظواهر الغائبة عن كثيرين وعرضها بما يؤدي إلى ترويجها بين الناس دون حاجة إلى دعاية باهظة.
يحسب لكمال أنه راهن على القيمة ولو لم تحقق بعض أعماله انتشارا واسعا في حينه، وجاء الوقت لإعادة الاعتبار للرجل وأن ما يقدمه هناك مسؤولون كبار في الدولة المصرية يتابعونه عن كثب وعلى استعداد لدعمه، الأمر الذي ظهرت معالمه في تثمين الرئيس السيسي لمجمل إبداعاته، والنظر إليه بحسبانه ممن يحرصون على تصحيح الصورة السلبية عن المجتمع ويبذلون جهدا لتغيير الواقع السلبي، ولذلك بات كمال ممن يسهمون بدور فعّال في معركة توسيع نطاق التنوير في المجتمع.
بدا المؤلف المصري وكأنه يجدف ضد التيار عندما منح وقتا كبيرا للوقوف ضد تزييف الوعي بأعمال تهتم بالبلطجة والتركيز على الجوانب السلبية في المجتمع المصري وتقديمها كأنها ظاهرة سلبية تنتشر في عمومه، فقد أصبحت أعمال عبدالرحيم كمال الجادة المقابل الموضوعي للأعمال السطحية التي ذاع صيتها في الآونة الأخيرة.
تغييب الوعي
كسب كمال وأمثاله الرهان على الجدية في التعامل مع الفن من منطلق المسؤولية المجتمعية عندما يجد الكثير من أعماله يتم استرجاعها حاليا والتعامل معها بصورة تعكس قدرا عاليا من التقدير والاحترام، فقد أدى تراكم الأعمال الساذجة والتي تعمل لصالح تغييب الوعي وطمس الهوية الحضارية للدولة إلى لفت الانتباه إلى مجمل أعماله التي ربما لم يتذكرها البعض في زحمة ما يقدم من أعمال قاتمة.
يبدو أن هناك إعادة لاكتشاف فن وأدب كمال، مع أن الرجل يعمل منذ حوالي 15 عاما وقدم أعمالا أضحت من العلامات البارزة في الدراما المصرية، بعد أن خط لنفسه مشروعا محكما قوامه الرئيسي يدور حول رفع قيمة الإبداع بكل أنواعه، ولم يرضخ لكل الإغراءات التي حاولت جذبه بعيدا عن مشروعه التنويري الذي لم يقتصر على الفن، ففي مجال الأدب كتب روايات “رحلة للدانمارك وبلاد أخرى” و”بواب الحانة” و”أبناء حورة”، ومجموعة قصصية بعنوان “أنا وأنت وجنة وشهد” وأخرى بعنوان “ظل ممدود”.
قد تكون الدفعة المعنوية التي حصل عليها مثلا صارخا على أن العملة الرديئة لن تطرد العملة السليمة مهما طال الزمن، الأمر الذي يفتح المجال أمام انتظار المزيد من الأعمال الدرامية النوعية، لكن الخوف يأتي من استهلاك الرجل بحكم الدعم الرئاسي الذي حصل عليه مؤخرا، فيتم الزج به في أعمال متنوعة لمجرد أن اسمه أصبح يكفي لتمرير أي عمل يتوقف عنده.
نعتقد أن ذكاءه لن يوقعه في هذا المطب، وسيمكنه من الفرز بين المهمة التي يقوم بها لخدمة مشروعه الفكري الطويل وبين ما طلبه منه الرئيس المصري ومحاولات البعض ركوب هذا الدعم لقطف ثمار تخدم مصالحهم، فالرجل قادر على أن يخلق ثيمة تخدم التنوير واستخلاص أجمل ما في الوعي الحضاري الكامن لدى المصريين.