طلال معلا تشكيلي يرسم العالم الذي هو الآن

التشكيلي السوري طلال معلا يقدّم أربعة أعمال تراجيدية جديدة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
الخميس 2020/04/23
تراجيديا من أربعة مشاهد

مع مرور الوقت، لم تلح في الأفق أي بوادر للنهاية، أسبوع أسبوعان، شهر شهران، لا أحد يعلم بالتحديد، الجميع ينتظر معجزة تنهي الكابوس، البعض منا بات يأمل أن يستفيق ليتأكّد من أن كل ما مررنا به لم يكن سوى حلم.

لم تعد المواقع الاجتماعية وسيلتنا للخروج من هذا الوضع، ولم تعد رسائل متبادلة بين الناس تُجدي لتخفيف ما نعانيه من حالة عدم يقين. لا بد من البحث عن وسيلة أخرى تُنقذنا من جحيم عالمنا الذي هو الآن، ونودّع عالمنا الذي كان.

فجأة، بدأ الجميع يُفتّش داخل أعماقه عن إجابات وأفكار تُسهّل عليه تقبّل حالة الحصار التي فرضها وباء كورونا. لن يُجدي الاستمرار في تتبّع الأرقام والإحصائيات، لم تعد أعداد الإصابات والوفيات تعني شيئا.

بدأنا نتحوّل إلى فلاسفة نلوذ بالحكمة، كل بطريقته، وبدأنا نكتشف جوانب في شخصياتنا لم نكن على علم بوجودها.

لم تعد الموسيقى مجرّد أصوات نتمايل على سماعها، ولم تعد كلمات الرواية وسيلة نقتل بها الوقت، كما لم تعد خطوط نرسمها على اللوحة، مجرّد تعبيرات عن قيم جمالية مجرّدة.

حتى متابعة الأفلام تحوّلت من مجرد وسيلة للتسلية، إلى مشاهد تتوالى فيها أحداث تروي المخفي في حياتنا. هل تحوّلنا جميعا إلى حكماء وأنصاف آلهة؟ يبدو ذلك.

لم يتوقّف الأمر على اكتشاف الحكمة داخل كل منا، اكتشفنا أيضا أن جميعنا يحمل داخله إنسانا قادرا على الإبداع والخلق.

القدرة على التركيز والتفكير العميق واكتشاف الذات، التي فقدها إنسان القرن الواحد والعشرين، ظهرت فجأة؛ ما علينا سوى مطاردتها والإمساك بها.

طوبى لمن استطاع العودة ثانية ليكون طفلا، يرى العالم بعيون جديدة، ويندهش لأدق التفاصيل التي طالما مرّ بالقرب منها دون أن تُثير فضوله.

فتحت الجائحة أمام الفنانين فرصة لإعادة صياغة العالم فلسفيا ووجوديا، أصبح للحياة في مُواجهة الموت طعم آخر.

تحوّل الموت إلى طقس مُحاط بالميثولوجيا، لم يعد الإنسان يموت لأنه تعرّض لحادث، أو بسبب مرض مزمن، أو لأنه تقدّم في السن، وأصبح أمرا طبيعيا أن يغيّبه.

الموت يوزّع، في العالم الذي هو الآن، من قبل رب الأقدار والموت كورونا؛ هو وحده من يقرّر متى يرحل البشر، دون أن يدري أحد لماذا اختاره دون الناس جميعا.

في العالم الذي كان، امتلكنا الوقت لنستعدّ لفراق أحبابنا، كنا نعلم مسبقا لماذا هم راحلون عنا، حتى هؤلاء الذين يخطفهم الموت في حادث مؤلم، هناك ما يبرّر رحيلهم.

مليون ونصف المليون تقريبا تخطفهم حوادث الطرقات سنويا، نشعر بالأسى لفقدانهم، إلاّ أن موتهم مُبرّر منطقيا.

أصبغت الجائحة بعدا ميتافيزيقيا على كل شيء في حياتنا، خاصة الموت، الذي اكتسى بطابع اللعنة، غير مسموح لنا بتوديع أشخاص عزيزين على قلوبنا، وكأنما هم رحلوا تكفيرا عن إساءة ارتكبوها في حق قوى غيبيّة غامضة.

هذا البعد التراجيدي، قدّمه الفنان السوري طلال معلا في أربعة أعمال نشرها على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.

المشهد الأول، لمدينة حديثة، وقد تحوّلت إلى مسرح تجري في فضائه أحداث المأساة – الملهاة.

المشهد الثاني الضحية، وقد اتخذ شكل الجسد فيها، بعدا تراجيديا، أوحى به التكوين القوي المدعم بخطوط تشير إلى أن الضحية ليس مجرّد كائن ضعيف، فارق الحياة بعد معاناة مع المرض، بل هو بطل أسطوري اختاره الموت، كما اختار من قبله بألفي عام البطل الإغريقي أخيل. ولم ينس الفنان أن يضيف بقعة بيضاء، تُبرز شكل الجسد وترسّخ القيمة التراجيدية للموت.

مشهد الضحية مكفنا، هو الثالث، وقد حشر بين طبقتين توحي كل منهما بثقل كبير، في إيحاء لن نخطئ إن نحن شعرنا معه أن الضحية سحب من الحياة بالإكراه، ليُرمى به في أعماق سحيقة مُحاطا بالحديد والإسمنت المسلّح، دون أن تترك له فسحة من الوقت ليستوعب ما حدث له؛ فقط اختارته آلهة الأقدار كورونا ليكون الضحية رقم 002218574963.

المشهد الرابع، أكثر من كفن، أربعة بالتحديد اصطفت وكأنما هي طرود تحمل بضاعة مُرسلة بالبريد، على كل كفن منها سجّلت علامات ورموز، توحي بأكثر من تساؤل.

هل ستخرج هذه الأجساد يوما من أكفانها، لتُحاكم العالم، وهي إن خرجت أي شهادة ينتظر أن نسمع منها عن العالم الذي كان والعالم الذي سيكون؟

14