طقوس عاشوراء عادات وتقاليد أقوى من العقيدة

احتفالات عاشوراء باتت مناسبات للتعبئة وتجييش الوعي الجمعي في مجتمعات تعيش أزمة كينونة.
السبت 2018/09/22
تلقين طقوس المذهب تبدأ من الصغر

المسلمون الشيعة في العراق وفي بلدان أخرى اعتادوا كل عام على إحياء طقوس عاشوراء، ذكرى مقتل الإمام الحسين بالقرب من كربلاء في القرن السابع للميلاد. وترسخت هذه الطقوس لتصبح بمثابة العقيدة التي يتداخل فيها الديني بالسياسي والاجتماعي.

لندن - أحيا الملايين من المسلمين حول العالم ذكرى يوم عاشوراء الذي قابل يوم العاشر من محرم.

ويصادف يوم عاشوراء أيضا اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي حفيد الرسول في معركة كربلاء، لذلك يعتبره الشيعة يوم عزاء وحزن. وهو يوم إجازة رسمية في بعض الدول العربية والإسلامية.

وتجمع الملايين من الشيعة حول العالم في المراقد والمساجد الخميس إحياء لذكرى يوم عاشوراء، وتوافدت حشود ضخمة من جميع أنحاء العالم على مدينة كربلاء العراقية في ذكرى مقتل الإمام الحسين.

وكان جيش يزيد بن معاوية قد حاصر الحسين بن علي وأنصاره في اليوم الأول من شهر محرم في صحراء قرب كربلاء. وفي العاشر من الشهر سقط الحسين قتيلا في معركة دارت بعد أن رفض إعلان البيعة ليزيد. وقُطع رأس الحسين وأُرسل إلى دمشق مقر الخلافة الأموية، وكان ذلك في عام 680 ميلادية.

رشيد الخيون: ظاهرة النواح على الإمام الحسين لم تتوسع إلا بعد استغلالها سياسيا
رشيد الخيون: ظاهرة النواح على الإمام الحسين لم تتوسع إلا بعد استغلالها سياسيا

وخلال الأيام العشرة الأولى من محرم تقام المجالس الحسينية وتسيّر المواكب لاستذكار الحدث والتعبير عن الحزن بالبكاء ولطم الصدور.

كما تمارس طقوس أخرى تتضمن مسرحة الحدث، حيث تقدم عروض في الهواء الطلق تسمى “التشابيه” تروي أحداث واقعة كربلاء وتجسد شخوصها الرئيسية وتحضرها أعداد غفيرة من الناس.

وتعد تلك المجالس والمواكب من أهم الطقوس لدى الشيعة، إذ يرون أن لمقتل الحسين دورا في ترسيخ الدين وديمومة المعتقد، لما يملكه من شاهد على الثبات على المبدأ والمطالبة بالحق.

كما تكثر مشاهد جلد النفس وشج الرأس ضمن مظاهر إحياء الشيعة لذكرى مقتل الإمام.

ورفعت حشود من الشيعة السيوف. وشجت رؤوس الشيوخ والأطفال بآلات حادة ، وتدفقت الدماء من الرؤوس على الثياب البيضاء.

وقال أحد المشاركين ويدعى حيدر صباح “الدم شيء قليل على الحسين. كل شيء قليل على الحسين. الحسين نقدم له أرواحنا. نقدم كل ما نملك”. وتابع “نقدم أرواحنا.. بيوتنا.. كل شيء نعطيه للحسين في سبيل الشفاعة يوم الورود”.

اغتيال العقل

بيّن عالم الاجتماع الكندي ايرفينغ غوفمان أنّ الناس كائنات طقوسية بكلّ امتياز ولا يمكنهم العيش معا إلاّ بواسطة طقوس تنظم مبادلاتهم الرمزية المختلفة. فالمجتمع مسرح يومي تُّؤدّى فيه الأدوار منتظمة وفق طقوس تفاعلية لا تستوي الحياة الجماعية دونها.

ويعني الطقس مجموعة من “القواعد” التي تنتظم بها ممارسات الجماعة، إمّا خلال أداء شعائرها التي تعدّها مقدّسة وإما من خلال تنظيم أنشطتها الاجتماعية والرمزيّة وضبطها وفق “شعائر” منتظمة في الزمان والمكان.

وتشير لفظة “طقس”  إلى الكيفية التي يتمّ بها أداء الأنشطة المقدّسة وتنظيمها.

وفي اللغة العربية يشمل مضمون “الطقس”  الدلالة على “الشعيرة”. واقترن مدلول الشعيرة في اللغة العربية بما يدلّ على الممارسات المقدّسة التي تدخل المؤمن في حالة القداسة وتجعله يؤتي مناسكه التعبدية، ويحيل أيضا على المراسيم التي تنجز ضمن التعاليم الدينية للدخول في تجربة القداسة.

التكرار المنتظم للطقوس أفرز مجتمعا شيعيا متعصبا ومنغلقا
التكرار المنتظم للطقوس أفرز مجتمعا شيعيا متعصبا ومنغلقا

فلا فرق مثلا بين اجتماع الآلاف من المسلمين في الحجّ أو اجتماعهم في عاشوراء أو التقاء جماعات من اليهود في الكنائس للاحتفال بذكرى “الخروج” أو اجتماع المسيحيين للاحتفال بأحداث عاشها المسيح.

وتقوّي جميع هذه الاحتفالات الطقوس التي تصاحبها المشاعر الجماعية وتتعهّد الوعي الجمعي بالتقوية، كما تدعم انتماء الأفراد إلى النظام الديني والاجتماعي والسياسي القائم. ولا تمثّل الطقوس في كلّ هذه الأمثلة هدفا في ذاتها، بل تدرك قيمتها- كل قيمتها- من وظيفة الشحن والتجييش التي تلازم الأنشطة الجماعية وخاصّة الاحتفالية والدينية منها.

ولقد سبق لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أن أكّد مثل هذه الحقيقة في مؤلفه “الأشكال الأولية للحياة الدينية” فقال “يتشكّل لدى الأفراد من خلال حضورهم الجماعي ضرب من الشعور الجمعي الجيّاش لا يدركونه وهم في حالتهم الفردية”.

وترتبط الطقوس غالبا بالعادات والتقاليد والقصص والأساطير، وتختلط بالشعائر الدينية، حيث ترتفع إلى مستوى العقيدة، كما أن من أهمِّ خصائصها أنها تميل إلى التكرار والاستمرارية، من أجل تكريس ديمومة الطقس وإعادته في كل مناسبة كما كان في الماضي.

وقد تطرق عالم النفس الاجتماعي إرك فروم إلى الجذور النفسية للطقس الذي هو في النهاية تعبير رمزي عن الأفكار والمشاعر التي تظهر في طريق السلوك، ومهما تكن الأسباب دينية أو اجتماعية فهناك أسباب أخرى لا واعية تتداخل معها.

ويؤكد بعض الباحثين أن الطقوس تمثل قناة مهمة يلجأ إليها الأفراد في ظروف الاستغلال والكبت الاجتماعي، كما هو الحال في أوساط جماعات الأقلية أو المنبوذة أو المهمشة: كحال الشيعة، ويتم ذلك- كما يرى هؤلاء الباحثون- بفضل دور هذه الطقوس في ترقية الوضع النفسي للأفراد إلى مستوى واقع مركزهم الاجتماعي المتدني في بعض الدول العربية من منظورهم الفكري والاجتماعي.

وتؤسس تلك الطقوس من خلال التكرار المنتظم لمجتمع يتميز بالخصوصية المطلقة والتي لا يمكن معه التناغم أو التآلف مع أي محيط لا يشركه الرأي في تلك الطقوس، وهذا التكرار لتلك الطقوس يؤسس ويرسخ المعتقد في الذهن والجسد، وذلك بحسب ما يسميه علماء الاجتماع؛ التطبع، خصوصا وأن تلك الطقوس ممتلئة بالشحنات الروحية والوجدانية، ومن خلال ذلك التكرار المنتظم تتم عمليات التنشئة وعمليات الاكتساب والتلقين الثقافي والعقائدي، الأمر الذي يسهم في ترسيخ القناعات والميول في الذات أو المجتمع.

ممارسة اللامعقول

باحثون: الطقوس تمثل قناة مهمة يلجأ إليها الأفراد في ظروف الاستغلال والكبت الاجتماعي
باحثون: الطقوس تمثل قناة مهمة يلجأ إليها الأفراد في ظروف الاستغلال والكبت الاجتماعي

يذهب خبراء إلى اعتبار تلك الطقوس “تخديرا للذهنية الشيعية، بل هي عملية اغتيال للعقل” لأن تلك الشعائر أو الطقوس أصبحت أقوى وأشد رسوخا من العقيدة نفسها ولأنها تعبر عن عيد حقيقي لتلك الطائفة تنتظره كل عام ليزيح همها ويزيل كربها، لذلك من الصعب إزالة تلك المظاهر، بل إنها أصعب من إزالة الاعتقاد نفسه.

لقد أصبحت عاشوراء و”مظلومية الحسين” لصيقة بكل الأفعال الاجتماعية وباتت احتفالات عاشوراء مناسبات للتعبئة وتجييش الوعي الجمعي في مجتمعات تعيش أزمة كينونة. لذلك تلجأ في ممارساتها إلى “اللامعقول” باعتباره مجالا لتفريغ المكبوتات

يقول الباحث العراقي رشيد الخيون إن النواح على الإمام الحسين لم يكن حديثا، إنما كان محبوه يتذكرون مأساته في العاشر من عاشوراء، وظلت جارية سرا وعلانية، بالحداء والمدائح والبكاء، ولم تتوسع إلا بعد استغلالها سياسيا، ورسميا بدأت مع البويهيين في بغداد، والفاطميين بتونس ومصر، والصفويين في إيران، وإن استحدث الصفويون قراءة “المجلس الحُسيني”، وما عُرف بـ”الروزخون”، إلا أن لطم الصدور والتسوط بالزناجيل والتطبير بالقامات قد جاءت بعد العهد الصفوي، وقيل أول ما دخلت النجف بعد منتصف القرن التاسع عشر، عن طريق جماعة أتراك، صادف وجودهم في اليوم العاشر، وتفاعلوا مع المشهد الحزين فأخذ أحدهم القامة وطبر رأسه، وقيل غير ذلك، لكنها قطعا لم تكن قديمة، بل التعبئة لعاشوراء لم تكن قديمة، أي لا وجود لها قبل الصفويين، الذين سموها بالتعبئة.

وأضاف الباحث في تصريحات لـ”العرب” “يقول أحد مؤرخي تلك الفترة، وهو الشيخ محمد بن سليمان التنكابني، المتوفى السنة 1873، في كتابه المعروف ‘قصص العلماء': التمثيل من مخترعات الصفوية، ولما ظهر مذهب التشيع في بلاد إيران، وحكم الصفويين أمروا الذاكرين بإنشاد مصيبة سيد الشهداء، لكن الناس لم تكن تبكي. لأن المذهب لم يترسخ بعد في نفوسهم فاخترعوا التمثيل لعلَّ النَّاس تتألم من مشاهدة مصائب سيد الشهداء وترق قلوبهم، وسمي هذا العمل بالتعبئة، وهي بمعنى الاختراع أيضا، وهذه التعبئة لم تكن موجودة في الأزمنة السابقة بالاتفاق. والعلماء مختلفون في جوازه، والأكثر على التحريم”.

وأكد “وقف أبرز الفقهاء ضد الممارسات التي كانت تحصل في زمانهم، ولو قيست بما يحصل الآن، بتشجيع المرجعية الشيرازية، التي بنت مجدها على المبالغة بطقوس عاشوراء، لاعتبر اللطم والتسوط ممارسات هينة جدا لما نرى ونسمع اليوم. فالجمهور انفلت بها وتطرف، وصار مشهد الدماء مشهدا مقدسا، ناهيك عن قلب المدارس، في هذه الأيام، إلى دروس في النواح واللطم، مشاهد ليست بمصلحة الطائفة الشيعية بشكل من الأشكال، إنما تُقدمها جماعة ثأرية مأزومة، وهذا ما حذر منه فقهاء شيعة كبار، من أبي الحسن الأصفهاني، إلى محسن الأمين وبعدهما محمد حسين فضل الله، وخطباء منابر بحت أصواتهم محذرين مما يحصل، لكن الجمهور الغالب مأسور لثقافة الجهل، وهذا ما تقف خلفه أحزاب وشلل من المعممين”.

إيران على الخط

استغلت إيران مناسبة عاشوراء لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية.

وعلى أراضيها، وفي العراق وسوريا ولبنان، شحنت أتباع المذهب الشيعي تارة للقتال من أجل المقامات المقدسة وتارة للسياحة والاستثمار.

وخلال عام 2015 هاجر أكثر من تسعة مليارات دولار من العراق إلى إيران

وتلجأ إيران إلى تفجير المزارات الشيعية في الدول الاسلامية لتشتيت الأنظار وتأجيج الفتن الطائفية.

وتحاول إيران التحكم في السياحة الدينية للمقامات في الدول العربية.

ويقول الخبير في الشؤون الإيرانية والجماعات الإسلامية أسامة شحادة إن “إيران تسعى من خلال السياحة الدينية إلى خلق ذريعة لوجود شيعي مكثف، يبدأ بالسياحة الدينية، ثم ينتقل إلى مرحلة شرعنة التواجد عبر بناء مؤسسات وحسينيات، واستقطاب سكان محللين بعد إغرائهم”.

20