طالبان.. مِن النشأة إلى انهيار الإمارة

حركة طالبان تكشف عن غباء سياسي من خلال سلطتها، كما أنها تكشف أن لا علاقة لها بالوضع السياسي الدولي أو الإقليمي.
السبت 2019/03/09
حركة طالبان تبحث عن فرصة لتقترب من دول العالم

 لفتت حركة طالبان أنظار العالم بتأسيسها المفاجئ وبسيطرتها على السلطة المفاجئة أيضا، في بلد تتصارع عليه حيتان الإسلام السياسي الأفغاني والقبائل والدول الكبرى. بدأ المشهد من قندهار، تلك المدينة التي يعود تاريخها إلى خمسمئة عام، لكن المؤسسين ربطوا قدسيتها عندهم بقدسية النبي، حيث أشاعوا أن مسجدها يحتوي على عمامة النبي السوداء، وقد اعتمرها الملا عمر زعيم طالبان ومؤسسها يوم الإعلان عن حركته، لذا نرى أغلب عمائم أعضاء طالبان سودا، ولا ينافس على هذا اللون إلاّ رجال الدين الشيعة من المنتسبين إلى سلالة النبي.

إمارة بلا هزيمة

في كتابه “العاصفة والعمامة: أفغانستان جمهورية بلا نصر وإمارة بلا هزيمة”، سجل الصحافي التونسي محمد الهادي الحناشي يوميات الحركة، التي ظل لسنوات يتابع شأنها من بداية تأسيسها سلطتها وحتى سقوطها على يد القوات الأميركية والإسلاميين الأفغان المعادين لها.

لم تظهر طالبان على الأرض الباكستانية، مثلما شاع ذلك، بل ظهرت في العمق الأفغاني، من جماعة ينتمون إلى الفقه الحنفي الديوبندي، وهو فقه ظهر في الهند، يتصل بالصوفية والماتريدية، نسبة إلى المذهب الماتريدي، الذي يأخذ الوسط بين المعتزلة والأشاعرة. وإذا كانت الأشعرية تبنت الفقه الشافعي فإن الماتريدية، والمؤسس كان معاصرا لأبي الحسن الأشعري (324هـ)، اتخذت الفقه الحنفي في المعاملات والعبادات.

جمهورية بلا نصر وإمارة بلا هزيمة
جمهورية بلا نصر وإمارة بلا هزيمة

لم يكن إعلان تأسيس حركة طالبان في قندهار بمعزل عن تأييد دولي، مباشر أو غير مباشر، والسبب أن الجماعات الإسلامية، بعد خروج الاتحاد السوفييتي، وسقوط السلطة المتحالفة معه، ظلت تحارب بعضها بعضا، ففقد الأمن والاستقرار، وليست هناك نية في تطبيع الأوضاع، نزاع مستمر على السلطة والنفوذ والمال والسلاح. لذا حصلت طالبان كحركة جديدة على تأييد باكستان وغض النظر عنها من قبل الأوروبيين والأميركيين، فأخذت تتقدم بسرعة مذهلة، باحتلال المدن الأفغانية مدينة إثر أخرى. وحمّلت الأحزاب الدينية الأخرى خسارة فادحة، فتراجعت تلك الأحزاب كلاّ إلى الأطراف، وفسح المجال لطالبان بدخول كابول، وعندها انتهى الأمر، وأخذت تطارد فلول تلك القوى.

كان الرئيس الأفغاني المتحالف مع السوفييت نجيب الله قد اعتقل عند خروج الاتحاد السوفييتي، وسقوط العاصمة بيد الإسلاميين، وظل معتقلا لسنوات أي من 1996 إلى 1991. ولما أصبحت العاصمة تحت هيمنة طالبان أُخرج وأعدم هو وشقيقه رئيس جهاز المخابرات، وعلقت جثتيهما على الأعمدة، وسط التكبير بالنصر، وكانت تلك الحادثة البيان الأول لحكومة طالبان.

هناك مجلس علماء أو فقهاء شكله الملا عمر، وأخذ شرعيته وشرعية حركته منه. وهذا المجلس يشكل السلطة الدينية لطالبان، سواء كان في التأسيس وزعامة الملا عمر أو استلام السلطة وتشكيل الوزارات. ويضم المجلس الفقهاء المتشددين الذين يرون بقية الأحزاب الدينية غير إسلامية.

أعطى ذلك المجلس قدسية للملا عمر، لا يراه ولا يلتقي به أي أحد، سوى المقربين جدا منه، حتى صار اسمه مخيفا بأفغانستان. ومن أول يوم أعلنت الحركة عن تطبيق الشريعة الإسلامية. والمشهد الأول بدأ بإعدام نجيب الله وشقيقه، ولم تسمع الحركة نداءات الأمم المتحدة، حيث كانا معتقلين في بنايتها، وما سعت إليه زوجته وهي خارج أفغانستان.

كان وزراء طالبان من البساطة، لا مكاتب فخمة ولا مراسلين، وربما اشتبه الناس بينهم وبين بقية الموظفين، فالوزير يقوم بضيافة ضيوفه بيده، لذا يمكن من هذه الناحية اعتبارهم صادقين مع عقيدتهم (الترابية)، فلا مواكب للسيارات ولا أبهة في الدوائر. لكن عقولهم لا تناسب الزمن، لذا كان من الصعب أن تتفاهم الحركة مع العالم الخارجي بهذه الروحية، أي بطباع ما قبل قرون من الزمن.

كانت أهم وزارة في سلطة الحركة هي وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأمر هذه الوزارة لا اعتراض عليه. وعن طريق هذه الوزارة أعلنت حومة الحركة توجيهات دينية للمجتمع الأفغاني، وفي مقدمتها ما يخص النساء، يمنع خروجهن لأي سبب من دون محارم، ويمنع تعليم البنات والنساء عموما، ويمنع غسلهن الثياب على شواطئ الأنهر، ويمنع سواق التاكسي من نقل النساء من دون محارم، أو كاشفات الوجوه. فقد قررت الحركة فرض النقاب على النساء كافة ومنعت الموسيقى والغناء في أي مكان كان، سواء كان ذلك في حفلات الأعراس أو المطاعم أو أي ناد من النوادي، والتي أُغلقت بعد هيمنة الإسلاميين على السلطة.

وحرّمت اللعب بالطيور وتربيتها، واعتبرت اللعب بالطائرات الورقية من أدوات الشيطان، وتم وضع مقاس محدد للحية الشرعية، وتحريم فن النحت. وعلى كل هذه النواهي عقوبات صارمة. بمعنى أن الحركة أسست لإرهاب المجتمع عن طريق وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعطائها سلطة لا يعلوها إلا سلطة أمير الحركة.

غباء سياسي

سلطة طالبان تكشف عن غباء سياسي
طالبان ظهرت في العمق الأفغاني

كشفت الحركة، خلال سلطتها عن غباء سياسي، وأنها لا علاقة لها بالوضع السياسي الدولي أو الإقليمي، وذلك عندما تعاملت مع تمثالي بميان البوذيين، وهما تمثالان قديمان جدا، جاء ذكرهما في كتب مثل “معجم البلدان” لياقوت الحموي، وهو من أعلام القرن السادس والسابع الهجريين.

بعد أن تقرر إعلان أفغانستان إمارة إسلامية، صدر أمر هدم التماثيل، وأشهرها تمثالا بيمان، على أنهما صنمان. وهذان التمثالان يوفران موارد سياحية سنوية لأفغانستان، باعتبارهما قبلة للزائرين البوذيين من الصين واليابان والكوريتين، وكل العالم البوذي. وأجمع مجلس فقهاء أو علماء الحركة وقرر صحة هدمهما، أسوة بما فعله النبي عند فتح مكة.

حسب ما ورد في كتاب “العاصفة والعِمامة”، كانت فرصة لحركة طالبان أن تقترب من دول العالم، الشرقي والغربي، وتُبدي تفاهما يمكن لها أن تنال به الاعتراف الذي ظل محصورا بدولتين أو ثلاث، ثم سُحب هذا الاعتراف. حينها وصل وفد من فقهاء المسلمين من الأزهر وغيره من المؤسسات بمهمة إقناع طالبان بالعدول عن قرارها الصادم للعالم.

لم يلتق الوفد بالملا عمر، فاللقاء به ليس بالسهولة، إنما استقبلتهم مجموعة من فقهاء الحركة، وأصرت على هدمهما، وكان السؤال للفقهاء القادمين من الخارج: هل هذه أصنام أم لا؟ ولكي تلين طالبان اعترفوا لهم بما قالوا.

أما الأمر الثاني الذي أسرع بسقوط الحركة، وإبعادها عن العالم، فهو إيواء تنظيم القاعدة وأميره أسامة بن لادن، واتخاذ أفغانستان قاعدة لحركة التنظيم المذكور، فكانت الفاجعة بـ11 سبتمبر 2001، ورفض الملا عمر تسليم بن لادن، فكانت الحرب وانتهاء سلطة طالبان، ومثلما وصفها مؤلف كتاب “العاصفة والعمامة” “إمارة بلا هزيمة”، أي أن طالبان ظلت بين جبال ووديان أفغانستان تكر وتفر.

غير أن هذا الوجود فرض إمكانية التفاوض مع حكومة كابول، وبعد وفاة الملا عمر لم تضعف الحركة، إنما مازالت قائمة في خاصرة كابول. لكن في كل الأحوال لا تبشر عقيدة طالبان بمستقبل للحركة على الأمد البعيد، لأنها، وإن كانت في أفغانستان متردية الأحوال، تبدو قد خرجت من القرون الخوالي، ليس لها مكان في القرن الواحد والعشرين. حتى جعلت الحركة مدينة قندهار نموذجا لصلافة التخلف والتشدد، وليس أشهر من تورا بوارا في نموذج التطرف الديني.

على العموم، لا يعني أن تطرف طالبان كان إسلاميا بحتا، بل إن القبلية المتمثلة بالبشتون، وهي الجماعة التي انطلقت منها الحركة، فرضت تقاليدها وأعرافها، وعلى وجه الخصوص في معاملة النساء، فلما دخل المذهب الحنفي على حاملة العقيدة اليوبندية الهندية، حيث المدرسة الفقهية في قندهار، وجد طبيعة الأفغاني الجبلية والقبلية فتشكل بقالبها، فكانت طالبان.

7