ضغط الدم يغلي في عروق الشباب العربي

الجزائريون يعجزون عن كبح السيل الهائل للقلق الذي يغمرهم ويتسبب في ارتفاع ضغطهم.
الأحد 2022/01/23
الشباب مستهدفون

مرض ارتفاع ضغط الدَّم الشرياني من الأمراض التي شهدت ارتفاعا رهيبا في المجتمع الجزائري وخاصة لدى الشباب الذين لا تتعدى أعمار بعضهم الثماني عشرة سنة وبنسب إصابة وصلت إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بالنسب المتعارف عليها عالميا، وهذا بخلاف المعتقدات الطبية السَّائدة لدى الكثيرين بأن هذا المرض لا يصيب إلا كبار السِّن.

الجزائر - قال أخصائيون إن ”مرض ارتفاع ضغط الدم الشرياني يسجل انتشارا بوتيرة متسارعة بالجزائر ويسجل منحى تصاعديا كبيرا”. وحذّر الطبيب المختص في أمراض القلب منصف بلمولود من انتشار مشاكل ارتفاع ضغط الدم وسط شباب الجزائر، وخاصة أولئك الذين لا تتعدى أعمارهم 18 سنة، وهي نسبة تصل إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بالنسبة المتعارف عليها عالميا، مشيرا إلى أن ارتفاع الضغط الدموي هو أكثر أمراض القلب والأوعية الدموية شيوعا في الجزائر، وبلغت نسبته بين الشباب 25 في المئة.

وقال المدير العام لـ“سانوفي الجزائر” رأفت حنين إن ارتفاع الضغط الدموي يختلف انتشاره وفقا للدراسات التي أجريت على السكان البالغين، حيث تبين الدراسات أن نسبة الانتشار بين البالغين الجزائريين وصلت إلى 23.6 في المئة، وبلغت 62 في المئة في الفئة العمرية بين 60 و69 عاما.

وأضاف المدير العام لسانوفي الجزائر أن “هذا المرض المنتشر بشكل كبير في العالم يعتبر من أهم مشاكل الصحة العمومية في الجزائر”.

وذكر البروفيسور سليم بن خدة الأخصائي في أمراض القلب وعضو  المؤسسة الجزائرية للضغط الشرياني (صحة)  أن دراسة بينت أن 35 في المئة من الجزائريين (أكثر من 18 سنة) مصابون بمرض ضغط الدم الشرياني، مضيفا أن هذا الداء قد انتشر بفعل تغير العادات الغذائية ومشاكل التلوث وقلة الأنشطة البدنية لدى السكان الجزائريين والقلق.  ويقوم هذا المرض الذي لا توجد له أعراض بتدمير أجهزة الجسد الحساسة على غرار القلب والكلى والكبد.

ويؤكد مختصون أن هذا الداء مرتبط بالضغوط النفسية وأن الجزائريين وخاصة الشباب يعيشون حالة من القلق والتوتر والضغوط الناجمة على يبدو من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلد.

ويعد القلق في الوقت الراهن مشكلة واضطرابا ذائع الانتشار ومتغلغلا في المجتمعات، فيما يعتقد كثير من علماء النفس المعاصرين أن عصرنا الحالي هو “عصر القلق”، حيث تمثل الأمراض والاضطرابات النفسية التي يتعرض لها الإنسان ظاهرة جديرة بالاهتمام والتساؤل.

الجزائري "المتنرفز"

القلق يجمعنا
القلق يجمعنا

قلق، توتر، فغضب و”نرفزة” واضطراب تتبعه أزمة قلبية أو سكتة دماغية.. هي حالة طالما تكررت عند الجزائريين، لاسيما في المدن الكبرى حتى أن الجزائريين باتوا يُعرفون بالشعب القلق و”المتنرفز”، وتُسبّب هذه الحالة المضطربة العديد من الأمراض المستعصية المزمنة والقاتلة، كما يتدخل القلق في التركيبة الجوهرية لنحو 90 في المئة من الأمراض التي يصاب بها الجزائريون، وفق ما أعلنه مختصّون نفسانيون وأطباء في ملتقيات علمية عديدة.

ويعجز الجزائريون عن كبح السيل الهائل للقلق الذي يغمرهم ويجرفهم في أحيان كثيرة إلى حالات يرفضونها رغم محاولاتهم العديدة لتغيير نمط حياتهم والتهوين مما يتعرضون له من مشاكل، إذ يرغب أغلب من تشجّعوا لزيارة طبيب نفسي لعرض حالاتهم عليه، في تلقينهم طرقا وحلولا للتخلص من عصبيتهم وقلقهم الزائد، لاسيما وأنهم قد يصلون إلى مرحلة اللاوعي بما يقولونه أو يقترفونه لحظة قلقهم وغضبهم.

وقسّم علماء نفس بجامعة الجزائر القلق إلى 3 أقسام العادي والمرضي واللصيق بالنفس البشرية وهذا الأخير يعد شفرة نفسية في كل البشر ويشعر صاحبه بالبحث عن النجاحات الدنيوية والأخروية لتحريك النفس نحو تحقيق أهداف إنسانية.

أما القلق العادي الذي يلازم صاحبه لأكثر من 3 أيام فيدخل إلى مرحلة انتقالية لأمراض نفسية منها التوترات والانفعالات المرضية والهيجان وربما قد يقود إلى الاكتئاب والعزلة وقد يصل إلى درجة الانتحار.

وعرّف القلق المرضي بأنه التطوّر النفسي والمرضي لمحيط الإنسان المعيشي من الضغوط النفسية السلبية التي تولد إرهاصات مرضية إذا لم تعالج مما يجعل الإنسان قلقا جدا لأتفه الأسباب، وقد تكون لها إسقاطات على الجانب العضوي في شكل أمراض عضوية نتيجة الضغط النفسي السلبي ومنها ضغط الدم ومختلف الأمراض القلبية.

ويأسف علماء نفس جزائريون لانتشار القلق النفسي المرضي بدرجة كبيرة لدى الرجال في الجزائر، وخاصة عند الشباب بنسبة 85 في المئة، بسبب الضغوط التي يعيشونها، وهي نسبة مرشحة للارتفاع إذا لم تعالج نتيجة المحيط الاجتماعي السلبي، كما أن النساء أيضا يعانين من المشكلة بدرجة أقل، تناهز نسبتها 43 في المئة وهي نسب في مجملها مرتفعة مقارنة بالمجتمع الغربي.

القلق النفسي المرضي منتشر بدرجة كبيرة لدى الرجال في الجزائر، وخاصة عند الشباب بنسبة تتجاوز 85 في المئة

ويؤكد البروفسور احسن شيبان أنه لا بديل عن التوعية لإيقاف زحف ”القاتل الصامت”، كما يسمى، إضافة إلى التأسيس لثقافة صحية حول هذا المرض وسط تلاميذ المدارس عن طريق إدراج مقررات حول حفظ الصحة العمومية ضمن المناهج الدراسية.

وقال شيبان إن عاملَي التحسيس والوقاية يمثلان أحسن حل لإيقاف الانتشار الواسع لمرض ارتفاع الضغط الذي يوصف بالقاتل الصامت؛ لأنه ليست له أعراض واضحة، في الوقت الذي تكون تعقيداته ثقيلة على الصحة؛ لأنه يسبب الشلل الدماغي، القصور القلبي وحتى القصور الكلوي، وكلها أمراض تؤدي إلى الوفاة.

ويؤكد مختصون أن سبب تفشي القلق لدى الشباب هو البطالة، وحسب أحدث بيانات حكومية جزائرية صدرت في مارس 2021، فإن نسبة البطالة بلغت نحو 12 في المئة، بينما تتعدى 20 في المئة لدى الشباب.

وصدر لمجموعة من الباحثين الجامعيين عن دار الخلدونية كتاب “الشباب الجزائري البطال: دراسة نفسية اجتماعية”. وقال المؤلفون إن ما أثار الانتباه لموضوع البطالة في الجزائر هو تأزم الوضعية النفسية والاجتماعية للشباب. وأضافوا أنّ الجزائري يعيش حالة قلق دائم يتطلب منه ذلك السعي للتقليل منه والتحكم في نفسه قدر الإمكان، ناصحا بضرورة ممارسة الرياضة حيث تعد أحسن وسيلة للتخلص من كل الاضطرابات وذلك بمعدّل 30 دقيقة يوميا على الأقل وفق ما أجمع عليه المختصون.

عواقب ارتفاع ضغط الدم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خطيرة ومثيرة للقلق والجزع

شيشة ودهون

ضغط الدم آخذ في الانتشار في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وليس ثمة ما يشير إلى أنه سينخفض، فهو يغلي مع فقاعات الشيشة (النرجيلة) بمقاهي ميدان التحرير في مصر، ويصعد على وجبات “الملصوقة” المقلية في شارع الحبيب بورقيبة في تونس. فالناس من كل المشارب والطبقات يتأثرون بقدر واحد. ودون تغيير جذري، سيتكبدون ثمنا بشريا واقتصاديا باهظا.

ويقول البنك الدولي في تقرير نشر على إحدى مدوناته إن التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست فقط مرادفا للتغيرات السياسية في المنطقة، بل إنها توترات جسمانية أيضا بالمعنى الحرفي للكلمة. فارتفاع ضغط الدم الناجم عن أنظمة غذائية مترعة بالدهون وغنية بالصوديوم (الموجود في الحلوى المحلية مثل الكنافة وفي المخللات “الطرشي”)، وفي التبغ (الشيشة والسجائر)، وحياة الاسترخاء، يسهم في وفاة ما يقرب من نصف مليون شخص في المنطقة سنويا.

وعلى مستوى العالم، يؤثر ارتفاع ضغط الدم على أربعة من بين كل عشرة أشخاص بالغين، ولا تستثنى من ذلك بلدان المنطقة. ففي عام 2010 أصاب ضغط الدم شخصا واحدا من بين كل شخصين في بعض بلدان المنطقة مثل ليبيا. وترتفع معدلات ضغط الدم بين الرجال بنفس المستوى عند النساء باعتباره أول المخاطر المسببة للوفاة بين النساء وثانيها بين الرجال. وما يثيرالمزيد من القلق، أن تفشي هذا الداء لم يتوار مع مرور الوقت. وخلال العشرين عاما الماضية ظل ارتفاع ضغط الدم ثابتا عند مستواه باعتباره ثاني أكبر الأسباب المؤدية إلى الوفاة والإعاقة في المنطقة (نتيجة أساسا للمخاطر الناجمة عن التغذية). وإذا لم يتم الإسراع بفعل شيء، فلا يتوقع أن يبرح المرض ترتيبه الثاني قريبا.

ضغط الدم يواصل ارتفاعه

حياة غير صحية تقصر العمر
حياة غير صحية تقصر العمر

وعواقب ارتفاع ضغط الدم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خطيرة ومثيرة للقلق والجزع. وإذا لم يتم علاجه، فإنه يؤدي إلى انسداد في الأوعية الدموية والسكتة الدماغية، وهما من الأسباب الرئيسية للوفاة والإعاقة في المنطقة. كما أن التكلفة الاقتصادية لارتفاع ضغط الدم هائلة. وقدرت دراسة أجريت عام 2007 ما يتكبده إجمالي الناتج المحلي من خسائر نتيجة الإصابة بأمراض القلب والشرايين والسكري في مصر بحوالي 100 مليون دولار. وهذا الرقم زاد بنسبة 125 في المئة بحلول عام 2015. ونظرا للوضع المالي المتأزم في مصر، فإن هذا ببساطة شيء لا يُحتمل.

إلا أن هذا الأمر يمكن تفاديه. فارتفاع ضغط الدم ليس قابلا للمنع والعلاج فقط، بل إن منح الأولوية للتدخلات ينطوي أيضا على خفض للتكلفة. ويمكن الحد من الإصابة بضغط الدم من خلال تخفيض جرعات الملح (الاستغناء عن الطرشي)، واتباع نظام غذائي متوازن (تجنب الإفراط في تناول الحلوى)، والإقلاع عن التدخين (التوقف عن تدخين الشيشة والسجائر)، وممارسة الرياضة بانتظام (الاستعاضة بالمشي عن ركوب السيارة). ومن شأن الرصد المبكر والفحص المنتظم، رغم ندرتهما في أغلب بلدان المنطقة، أن يحد من الأعراض والمضاعفات بشكل فعال. وثمة خيارات كثيرة للعلاج من بينها توفير الأدوية بأسعار معقولة.

على مستوى العالم، يؤثر ارتفاع ضغط الدم على أربعة من بين كل عشرة أشخاص بالغين، ولا تستثنى من ذلك بلدان المنطقة

وتظهر الأبحاث أنه من الأوفر لحكومات بلدان المنطقة أن تقدم هذه الأدوية مقدما، حتى للفئات التي تواجه مخاطر متوسطة وعالية، من أن تتحمل في ما بعد تكاليف العناية المركزة.

ويتساءل مراقبون عن سبب تواصل ارتفاع ضغط الدم في بلدان المنطقة؟ ربما هناك أسباب منهجية تتعلق بالنظم الصحية. فنظرا لمستويات الدخل لديها، فإن حكومات المنطقة لا تنفق سوى النزر اليسير على الرعاية الصحية مما يؤدي إلى تحمل المرضى لأغلب التكاليف. في حين تتحمل الأسر في بلدان المغرب والمشرق حوالي 40 في المئة من تكاليف الرعاية الصحية، مما يضطرها إلى التغاضي عن هذه الرعاية أو مواجهة الفقر بسبب التكاليف الطبية. ويزداد ذلك تعقيدا بعدم استجابة الأنظمة الصحية لاحتياجات المرضى فضلا عن ابتلائها بارتفاع مستوى الفساد وانخفاض مستوى الثقة.

وفي ما يتعلق بأمراض ضغط الدم خاصة، فإن المنطقة لم تستثمر في الحد من مسببات المرض. ورغم أنها من الموقعين على الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ، فإنها لم تتخذ الإجراءات الفعالة لمكافحة التبغ، فالضرائب على التبغ منخفضة، والقليل من البلدان لديها تشريعات تمنع التدخين، وليس هناك سوى بلدين اثنين هما اللذان أطلقا تحذيرات قوية على علب السجائر (وهي التي وجد أنها فعالة للغاية في تقليص المدخنين للتدخين). وتحد التقاليد الاجتماعية والثقافية وعدم توفر الساحات العامة من ممارسة الرياضة بانتظام، وهو ما انعكس بشكل واضح على معاناة السيدات في المنطقة من أعلى معدلات للسمنة في العالم. وعلاوة على ذلك، يجعل ضعف المتابعة ونقص البيانات الموثوقة من الصعوبة بمكان على الأجهزة الصحية تتبع معدلات تفشي المرض والتعامل معه بالشكل اللائق.

وتشكل رداءة الوقاية والرصد لارتفاع ضغط الدم وإدارته مؤشرا على العديد من الفجوات في أنظمة الرعاية الصحية في المنطقة. ويقول البنك الدولي ينبغي أن تؤدي إقامة أنظمة عادلة وقابلة للمساءلة إلى المساعدة في تخفيض ضغط الدم المتصاعد، ليس مجازيا فقط، بل فعليا أيضا.

☚ التوترات المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست فقط مرادفا للتغيرات السياسية، بل إنها توترات جسمانية أيضا
التوترات المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست فقط مرادفا للتغيرات السياسية، بل إنها توترات جسمانية أيضا

17