ضغائن داخل الأسرة الواحدة.. مخلفات داعش في الموصل

الموصل (العراق) – نجح العراق في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في أهم معاقله بمحافظة الموصل، لكن عائلات كثيرة مازالت تعاني إلى اليوم من الألغام التي تركها التنظيم المتشدد وراءه، وخاصة تلك المخلفات داخل الأسرة الواحدة بحيث تغلغل الحقد بين من هو جهادي وبين من هو مناهض للتنظيم المتطرف.
وتترجم رواية هيثم سالم الذي فرّ من المدينة قبل خمسة أعوام من اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية للعراق وسيطرته على الموصل، هذه المخلفات، حيث هرب الأخير، فيما انضم ابن اخته إلى صفوف الجهاديين. ومنذ ذلك الحين، بدأت القطيعة في قلب العائلة الواحدة.
لم تنج أي عائلة في المدينة الشمالية من جراح النزاع التي لا تزال عميقة، فهناك من أصبح منبوذا لأن قريبا له أو أكثر انضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ونازحون همّشوا لأنهم تمكنوا من الفرار تاركين وراءهم عائلة وأصدقاء، يضاف إلى ذلك انقطاع التواصل لسنوات بفعل المعارك التي عزلت الأحياء عن بعضها.
ويشير ناشطون وخبراء إلى ضرورة إعادة الروابط الاجتماعية في المدينة التجارية التي يبلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة، وشهدت سنوات من العنف والتوترات الطائفية واستياء وانعدام ثقة انتقل من جيل إلى آخر، محذرين من عودة صفحة الماضي الأسود.
ولا يزال الخلاف على أشده بين هيثم سالم، الموظف الحكومي البالغ من العمر 34 عاما، وشقيقته أم محمود. ويقول هيثم مدافعا عن نفسه “تعتب علينا لعدم الاتصال والاطمئنان عليها وهي محاصرة في الموصل، عندما كنا نازحين في إقليم كردستان. داعش منع الهواتف والإنترنت. لم أكن أعرف حتى محل إقامتها”.
دعوات إلى إنتاج برامج ودورات توعوية وخاصة لطلبة المدارس والجامعات لإشاعة روح المواطنة ونبذ الأفكار المتطرفة والهدامة
لكنه يوضح في ما بعد أن “سبب القطيعة الحقيقي بين الطرفين هو انتماء أحد أولادها لداعش، ولا يُعرف مصيره إذا ما قتل أو هرب خارج العراق، وفقدت بيتها لأن القوات الأمنية لا تسمح لها بالعودة إليه”، وهو أسلوب متبع مع العائلات المشتبه بصلاتها مع الجهاديين.وفي ظل تلك الظروف، كثيرون هم الذين جاهروا على غرار هيثم بأنهم نأوا بأنفسهم عن قريب مرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية الذي دحر من الموصل صيف العام 2017.
ولم يتردد أيضا رغيد علي بالتبرؤ من ابن عمه الذي التحق بالجهاديين. ويقول الثلاثيني العاطل عن العمل إن “علاقتي ساءت جدا مع بيت عمي لأنني أخبرت القوات الأمنية عن مكان ابنهم الداعشي بعد التحرير مباشرة، وكان مختبئا في أحد البيوت”.
كما ترغب أم علي أيضا في إعادة الصلات مع شقيقتها، لكنها غير قادرة على فعل ذلك، حيث تشير ربة المنزل البالغة من العمر 45 عاما إلى أنها لم تتمكن من زيارة أختها لتقديم واجب العزاء بعدما أعدم تنظيم الدولة الإسلامية ابنها، لكنها أقسمت أنها حاولت زيارتها بعد التحرير مباشرة.
لكن أم علي تقول إن الوقت كان قد فات، وتروي “حاولت شرح الموقف لها لكنها عنيدة، لا تستجيب، وطردتني من منزلها”. وتضيف، وهي أم لثلاثة أطفال، “أستغرب مشاعر الكراهية عند بعض الناس في الموصل، كان عليهم بدلا من ذلك زيادة التقارب بعد المحنة التي عشناها سويا”.
أما بالنسبة إلى محسن صابر الذي يمتلك متجرا لبيع المواد الغذائية في سوق النبي يونس التاريخي، فإن الطريقة الوحيدة لإعادة العلاقات الاجتماعية إلى سابق عهدها، هي اتخاذ “إجراءات حكومية حقيقية”.
ويضيف العراقي أن تلك الإجراءات يجب أن “تستهدف عوائل الدواعش وحل مشكلتهم، سواء بإعادة دمجهم بالمجتمع أو إنزال القصاص بالمتورط منهم أو غير ذلك”. ولفت إلى أن بعض العائلات لا ذنب لها في ما حصل وكانت تقف ضد إرادة أبنائها الذين انضموا للتنظيم.
لكن، وفق الشيخ علي التميمي شيخ عشيرة بني تميم في الموصل، إلى جانب دور الدولة والمحاكم، فإن للعشائر وأحكامها التقليدية دورا في المجتمع العراقي العشائري بأساسه، والمكون من مذاهب وإثنيات عدة.
ويقول التميمي “نحن مع إبعاد العائلات التي كانت تشجع أبناءها على الانضمام للتنظيم، ووضعها في مناطق معزولة، وتطبيق القانون بحقها”.

لكن الرجل الذي يرتدي الزي التقليدي بكوفية يستشهد بالقرآن قائلا “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.. فالعوائل التي كانت مرغمة، سواء الأب أو الأم الداعشي أو زوجته أو أطفاله، فإنه لا ذنب لها”.
وفي غرب البلاد حيث الغالبية السنية، أعلن أفراد عشائر عدة قبولهم بعودة نساء وأطفال الجهاديين، ضامنين لهم أمنهم إذا ما عادوا بينهم. وهم بذلك يخففون العبء على مخيمات النازحين التي أصبحت مراكز اعتقال مفتوحة، حيث يتم احتجاز المئات من العائلات المتهمة بصلات مع داعش، وتمنع من الخروج منها بأمر من السلطات خوفا من قيام خلايا جهادية جديدة، والمتخوفة من عمليات ثأر محتملة تنتظر هؤلاء في قراهم.
وأصبح هؤلاء فريسة سهلة للتطرف بسبب الشعور الواسع بالمظلومية بين الأقلية السنية في العراق. ومنذ استعادة السيطرة على المدينة، لا تخلو دائرة الطلاق في محكمة الموصل من المراجعين، وأجبرت عائلات كثيرة على تغيير منازلها أو أحيائها، وتوقف أصدقاء عن الالتقاء بعد عقود من الذكريات المشتركة.
وتعتبر رئيسة منظمة “بنت العراق” الحقوقية في الموصل أمل محمد أنه يجب “إنتاج برامج ودورات توعوية وخاصة لطلبة المدارس والجامعات لإشاعة روح المواطنة ونبذ الأفكار المتطرفة والهدامة”.
وتحذر من أنه “إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه الآن، من فساد إداري ومالي وعدم امتلاك مصدر رزق للبعض، فمن المرجح أن يتجهوا إلى الإرهاب”.