ضحايا مدنيّون في الموصل: من يدفع ثمن الدم

المدنيون العراقيون ضحايا قصف التحالف الدولي وعائلاتهم يصطدمون بنظام معقّد وغامض للتعويضات يبدو وكأنه أعدّ لمنع وصولهم إليها.
الخميس 2021/07/08
وجع لا ينتهي

الموصل (العراق)- من سيدفع ثمن دم المدنيين الذين سقطوا في عمليات لقوات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في الموصل؟ سؤال لا يزال يبحث عن إجابة في تفاصيل أيام دامية مرّت على العراق أثناء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق واسعة في العراق وسوريا.

تجد عائلات عراقية في الموصل صعوبة كبيرة في الحصول على إجابات وتفسيرات واضحة عن عمليات وهجمات شنها التحالف الدولي لملاحقة تنظيم الدولة الإسلامية خلال العام 2017، حيث أدت تلك الهجمات إلى سقوط عدد كبير من أقربائهم، كما أنها تسبّبت في محو مناطق وأحياء واسعة من المدينة العراقية، التي اتخذها التنظيم مقرا لعملياته.

في مارس من العام 2017 كانت قوات مكافحة الإرهاب تتقدم في الموصل شمال العراق مزهوة بانتصاراتها ضد التنظيم المتطرف، لكن ملامح النصر ترافقت مع مقتل أكثر من مئة مدني في قصف جوي نفذته طائرات التحالف بقيادة الولايات المتحدة. حتى اليوم، لا يزال ذوو هؤلاء الضحايا يطالبون بتفسيرات وتعويضات.

باتريك ليهي: إذا لم يحقق الجيش الأميركي في الهجمات ينبغي إيجاد آخرين

ولا ينفي التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن قتل أكثر من ألف مدني في سوريا والعراق خلال حربه، التي دامت سبع سنوات، لكنه يشير إلى دفع تعويضات مالية لـ14 عائلة فقط من هؤلاء الضحايا.

ويصطدم ضحايا قصف التحالف الدولي وعائلاتهم بنظام معقّد وغامض للتعويضات يبدو وكأنه أعدّ لمنع وصولهم إليها، حيث يقول عبدالله خليل الذي نجا وابنه بأعجوبة من الموت على الرغم من أنه فقد ساقه ولا تزال آثار الحروق ظاهرة على جسده، إنه ينتظر تعويضا عن الأذى الذي تعرض له أو حتى مجرد تفسير لكيفية الحصول عليه.

صدمة كبيرة

تؤكد سارة هوليوينسكي من منظمة هيومن رايتس ووتش أنه “لا يمكن تخيّل كيف يكون الأمر على عراقية فقدت أمها أو زوجها، وهي تحاول أن تفهم كيف تحصل على تعويض”.

وتوضح الناشطة الحقوقية “على الرغم من خبراتنا، نكاد لا نفهم تماما كيفية” التقدم بطلب عبر آلية التعويض، عن هجمات وقعت بحق المدنيين. وتشير إلى صعوبة “العثور على مسؤول أميركي يقرّ بأن قصفا من طائراته هو المسؤول”. إذ خلافا للعمليات العسكرية الأخرى التي شارك فيها الغرب في العالم، لم يكن يوجد خلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والتي لعبت الضربات الجوية دورا حاسما فيها، قياديون على الأرض يهتمون بدفع “ثمن الدم” للعائلات المفجوعة.

ويروي المواطن العراقي عبدالله خليل، الذي غيّر القصف الذي طال الموصل الجديدة في 17 مارس 2017 حياته، أن القصف كان بشكل كثيف على المنطقة وأنه وجد نفسه تحت الأنقاض وابنه بجانبه.

وتسبّب قصف المبنى، الذي كان يحتمي فيه خليل إلى جانب العشرات من النساء والرجال والأطفال، بأكبر حصيلة بشرية للحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وبحسب منظمة “إيروورز” غير الحكومية التي تحصي أعداد الضحايا المدنيين في النزاعات حول العالم، “قتل بالحدّ الأدنى 105 أشخاص غير مقاتلين، و141 كحدّ أقصى”.

وشكّلت الحادثة صدمة كبيرة بالنسبة إلى العراقيين، لكنها سرعان ما تلاشت في الفوضى السائدة حينها. وخلال 72 ساعة فقط، قبل هذه الضربة وبعدها وبالتزامن معها، فقد المئات من المدنيين الآخرين حياتهم في الموصل.

من المسؤول؟

التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية لا ينفي مسؤوليته عن قتل أكثر من ألف مدني في سوريا والعراق خلال حربه، التي دامت سبع سنوات، لكنه يشير إلى دفع تعويضات مالية لـ14 عائلة فقط من هؤلاء الضحايا

في السابع عشر من مارس 2017، أي بعد خمسة أشهر من إطلاق معركة تحرير الموصل، كانت القوات العراقية تحاول التقدم في أزقة المدينة القديمة الضيقة، وكان أمامها غربا يقع حي الموصل الجديدة الذي يضمّ سكك حديد وصوامع نفط، وكان الرصاص ينهال على القوات العراقية على ما يبدو من قناصين متمركزين في مكان مرتفع.

وطلب حينها الجيش العراقي الذي كان غارقا في واحدة من أعقد حروب الشوارع في التاريخ الحديث، إسنادا جويا من التحالف الدولي الذي يضم 80 دولة وتقوده الولايات المتحدة، من أجل القضاء على الجهاديين في “عاصمتهم”. فأُرسلت طائرات أميركية أسقطت قنبلة موجهة.

لكن لعلّ معلومة هامة فاتت مهندسي العمليات، وهي وجود العشرات من المدنيين المختبئين في ملاجئ المبنى المستهدف، معوّلين على وجود مستشفى الرحمة وطريق مزدحم على مقربة من المكان، لمنع الطيران الدولي من قصف المنطقة. وبعد الاستنكار الدولي الكبير الذي أثارته الحادثة، أرسل الأميركيون، في سابقة، محققين على الأرض لمعرفة ما حصل.

وأقر الأميركيون في مايو 2017 بمقتل 105 مدنيين، فيما اعتبر 36 آخرون في عداد المفقودين، على أمل أنهم تمكنوا من الفرار. وفي المحصلة، استنتج التحقيق أن المبنى انهار نتيجة متفجرات وضعها تنظيم الدولة بين طوابقه، غير أن إفادات الناجين والشهود في الموصل تفيد بأن لا متفجرات كانت مخزنة في المبنى.
ويقول مدير شركة “إيروورز” في لندن كريس وودز “من أجل قناصين اثنين على سطح، أطلقوا قنبلة بوزن 220 كلغ، كان ذلك خطأ”.

ويوضح لوكالة الصحافة الفرنسية أنه “لا ينبغي استخدام متفجرات ذات مدى واسع النطاق في منطقة سكنية دون الأخذ بالاعتبار المخاطر الجمّة التي قد يتعرض لها المدنيون: هذا ما حصل في الموصل الجديدة”.

لكن ما حصل في الموصل الجديدة يصعب إنكاره. اعترف البنتاغون فورا بالمسؤولية. وفي خريف عام 2017، أفرح اتصال هاتفي خليل رغم آلامه.

ويروي الرجل الذي يواجه صعوبات بالسير بساقه الاصطناعية، “قال لي مترجم إن المتصل هو القائد العسكري للتحالف الدولي لشمال العراق”. ويضيف “اعتذر مني باسم التحالف، ووعد بالحضور لرؤيتي، لكن ذلك لم يحصل”.

وخسر وليد خالد شقيقه وزوجة شقيقه جراء القصف. ويروي الرجل البالغ من العمر 31 عاما والأب لطفلين أنه تلقى زيارة من محققي التحالف، وقال “قدموا إلى هنا والتقطوا صورا للمكان وسجلوا شهاداتنا، ولكن لا تعويض حتى الآن”، علما وأن مثل هذه التعويضات حيوية لإعادة بناء الموصل التي لا تزال حتى الآن شبه مدمّرة.

ويرجع مدير منظمة “مركز من أجل المدنين في النزاع” غير الحكومية الأميركية دانييل ماهانتي السبب إلى أن الجيش الأميركي و”رغم إقراره بالخطأ.. لم يضع قط أي نظام يسمح للعائلات بتقديم طلب تعويضات”.

ويضيف الخبير العسكري أن واشنطن “لا ترغب بوضع سياسة ستفتح الباب لاحقا لعدد هائل من الشكاوى التي لن تتمكن من التعامل معها لاحقا”.

ومن جهته عمل وليد خالد على مواصلة طرق كل الأبواب من أجل الحصول على تعويضات لمقتل شقيقه وزوجة شقيقه، وقدم شكوى إلى التحالف الدولي واللجنة الحكومية العراقية لحقوق الإنسان ودائرة التعويضات في محافظة نينوى، لكن بدا وكأن مسألة التعويضات كانت محسومة بالنسبة إلى التحالف الدولي والدول الـ75 المشاركة فيه، حتى قبل أن يبدأ حملته ضد تنظيم الدولة.

وتقول المتخصصة في الشأن العراقي في منظمة هيومن رايتس ووتش بلقيس ويلي إنه وعلى عكس مرحلة الغزو في العام 2003 والحرب في أفغانستان، “أُنشئ التحالف الدولي دون هيكلية تعويض”، مضيفة أن “على كل شخص يرغب بالحصول على تعويضات تحديد البلد المسؤول عن الضربة التي تضرر فيها وكيفية مطالبته بتعويضات”.

كان التحالف الدولي يعلن يوميا أسماء الدول التي تقوم بشن الغارات من 2014 إلى 15 فبراير 2017، إلا أنه بعد ذلك التاريخ لم يعد يعلن عن أي تفاصيل عن تلك الغارات، فيما سُجّل على الأرض ارتفاع كبير في عدد الضحايا المدنيين.

وأقر الأميركيون بمسؤوليتهم عن ضربات تمت في الموصل الجديدة، غير أن الناطق باسم التحالف الدولي الكولونيل الأميركي واين ماروتو أوضح لوكالة الصحافة الفرنسية أن “القانون الأميركي وقانون الحرب لا يلزمان الولايات المتحدة بتقديم تعويضات لجرحى أو عن أضرار تسببت بها عمليات قتالية قانونية”.

ويشدد السناتور الأميركي الديمقراطي باتريك ليهي، الذي يرأس لجنة الائتمان في مجلس الشيوخ، على الحرص على أن تصل تلك الأموال إلى الضحايا في العراق وأفغانستان أو في أي مكان آخر.

ويقول ليهي، الذي رفع مؤخرا رسالة إلى وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بشأن التعويضات في العراق ومناطق أخرى “ينبغي فعل المزيد لمساعدة العائلات في تقديم طلبات تعويضات ومن ثمّ دراستها”، مضيفا “إذا لم يكن الجيش الأميركي قادرا على التحقيق، ينبغي إيجاد لاعبين آخرين للقيام بذلك”..

6