صيد اللؤلؤ في الكويت رحلة الغوص في تراث الأجداد

يحيي الشباب الكويتيون مهنة اندثرت منذ سنوات، لأنهم لا يريدون أن تطويها صفحات التاريخ، إنها مهنة الغوص بحثا عن اللؤلؤ التي يجسدونها في مغامرة يستمتعون بخوضها، بعد أن كانت رحلة شقاء وكد الأجداد لكسب مورد رزقهم
الكويت- تتواصل رحلة إحياء ذكرى الغوص الـ31 التي انطلقت الخميس في النادي البحري الرياضي الكويتي على الساحل الكويتي بمشاركة 195 شابا، تحملهم 13 سفينة إلى البحر حتى اليوم الأول من شهر أغسطس.
وتعد رحلة الغوص التي ينظمها النادي البحري الرياضي الكويتي سنويا علامة متميزة، تمثل أبرز الفعاليات الكويتية في مجال إحياء التراث البحري على المستوى المحلي والخليجي والعالمي، وفرصة لتذكير الشباب بما كان يقدمه الآباء والأجداد من تضحيات في سبيل توفير حياة كريمة لأهاليهم.
وبدأت رحلة إحياء تراث الأجداد التي ينظمها النادي منذ سنة 1986، بإقامة مراسم الدشة، واشتملت فعالياتها على وقوف الشبان أمام منصة الشرف وعزف النشيد الوطني، ثم توجه بعد ذلك النواخذة إلى الساحل حيث تم توديعهم من قبل أهاليهم قبل أن يتوجهوا إلى سفن الغوص حسب يزواتهم (مجموعاتهم البحرية) في رحلة المغادرة إلى بندر الخيران، وهو المكان المخصص لتجمع وتواجد السفن المخصصة طوال فترة الرحلة التي ستمتد أسبوعا كاملا، حيث سيمارس الشباب الغوص الفعلي في هيرات الخيران، وهي المناطق البحرية التي يوجد فيها المحار. يذكر أن هؤلاء الشباب لا يستعملون معدات الغوص العصرية، بل يقومون بالرحلة على الطريقة التقليدية التي كان يقوم بها أجدادهم.
مهنة المشاق
تحتل مهنة الغوص للبحث عن اللؤلؤ مكانتها اللائقة في التراث الشعبي للكويت، لأنها إحدى أكثر المهن التي برزت في المجتمع الكويتي رغم ما تتصف به من مشاق ومخاطرة، فهي مهنة تعتمد أساسا على الكفاءة الجسدية والنفسية، فالقادر جسديا ونفسيا على هذه المغامرة يمكن له أن يصبح غواصا، وهي المهنة المرغوب فيها أكثر آنذاك لأن الغواص يحصل على حصة أكثر من غيره عند توزيع الأرباح من محصول اللؤلؤ.
رحلة الغوص رحلة التحديات، مليئة بالمخاطر حيث يجوب الغواصون البحر أشهرا طويلة متحلين بإرادة صلبة وعزيمة لا تلين بحثا عن الكنز الثمين الذي سيتحول بعد بيعه إما إلى قلائد تزين الأعناق أو إلى أساور تحلي المعاصم. وتبدأ رحلة الغواصة مع الفجر، بعد أن يتناولوا الشاي والقهوة، ويأكلوا قليلا من التمر، حريصين على ألا تمتلئ بطونهم لئلا يؤثر ذلك في قدرتهم على الغوص.
ومع بزوغ الشمس يلج الغواصون في مياه البحر ويبدأون رحلة البحث عن المحار طوال يومهم وهم يتنقلون في “الهير” من مكان إلى آخر بحثا عن المحار، ويكون حبل المرساة طويلا.
وبعد الغروب مباشرة يقول قائد السفينة “النوخذة” أو من ينوب عنه “اطووا حبالكم” أو يقول “هلل عليهم”، فيقول الغواصون “لا إله إلا الله” ويخرجون إلى ظهر السفينة قائلين “الغوص عادة والصلاة عبادة”.
ومن العبارات التي يرددها الغواصون أيضا لدى خروجهم من الماء، “مول مول خير يا الله على التالي والأول”، و”لا إله إلا الله رزق اليوم أخذناه ورزق بأجر على الله”، وعند المغرب يتناول الغواصون طعام العشاء الذي يتكون عادة من الرز والسمك ثم ينامون بعد أن أنهكهم التعب من عناء يوم طويل.
وينام الغواصون أحيانا على المحار الذي جمعوه إذا كان كثيرا لأنه رطب مع أن فراش الغواص التقليدي كان “الجدري” الذي يتكون من قطعة مستطيلة من الحبال على شكل سجادة عرضها نحو ثلاثة أشبار وطولها يقارب طول الشخص، وعادة ما ينام الغواصون متلاصقين، لأن سطح السفينة محدود ويغطون في سبات عميق بسبب مكابدتهم طوال النهار.
لكل مهامه
رحلة الغوص لها مجموعة من القواعد، حيث تحدد وظيفة كل فرد من أفراد الطاقم الذي يخرج إلى الرحلة التي تمتد نحو شهر قبل الرجوع إلى الديار. وأهم الوظائف كانت “النوخذة” أي ربان السفينة وهو المسؤول الأول ويكون عارفا بالاتجاهات واستعمال أدوات القياس ومتمرسا في شؤون البحر، ويأتي بعده، “المقدمي”، وهو رئيس البحارة والمسؤول عن سير العمل على ظهر السفينة، و”الغيص”، هو الشخص الذي يغوص في البحر لجمع المحار، وكان ينزل إلى الماء دون آلات الغوص المعروفة في العصر الراهن، معتمدين على شجاعتهم وخبرتهم في مواجهة الأخطار المحدقة بهم.
وحظي الغواص في المجتمع الكويتي قديما بمكانة عالية بين الناس وكان ينظر إليه بإعجاب واحترام ولا يزال يشار إليه بالبنان. ولا تختلف مهمة “السيب” عن البقية فهو الشخص الذي يسحب “الغيص” من قاع البحر، بل يمكن أن تعتبر مهمته أكثر أهمية لما تطلبه من تركيز، لأنه عادة ما تكون حياة الغواصون مرهونة بـ”السيب” فلو يغفل هذا الأخير عن الإشارة التي يرسلها “الغيص”، ولم يسحبه في الوقت المناسب، فإنه قد يفارق الحياة تحت الماء.
ويأتي مع هؤلاء “الرضيف”، وهم الصبيان الذين يقومون بالأعمال الخفيفة والتدرّب على العمل للمستقبل. ويرافق هؤلاء على متن القوارب أثناء رحلاتهم الشاقة، من يطلق عليه “النهام” (المغني)، وكان يتميز بصوته الجميل فيحفز البحارة حتى يستمروا في العمل والتجديف دون أن يشعروا بالتعب أو الملل.
ولأن رحلة الغوص بحثا عن اللؤلؤ طويلة وشاقة، يحتاج الغواصون من يشحذ هممهم ويروح عنهم العناء ويطرد عنهم الخوف من أهوال البحر، وهي مهمة يتكفل بها “النهام” الذي يقدم فنونه بالاشتراك مع جماعة من البحارة، ويتبادل الغناء مع غيره من رفاق الرحلة، ودوره في الإبداع لا يقتصر على إضفاء البهجة على الحياة والترويح في العمل فحسب، بل يشارك أيضا في العمل بنفسه. ويخرج الكويتيون للغوص في مواسم محددة وبأعداد مختلفة على ظهر سفن خشبية شراعية تتعدد مسمياتها بحسب أشكالها وأحجامها.
وكانت تلك السفن تنتقل بين أماكن الغوص المختلفة والمنتشرة في الخليج العربي والمسماة باللهجة العامية “المغاص” أو “الهير”، فمنها ما هو عميق جدا، ومنها ما هو متوسط العمق وضحل وتتباين تربته بين طينية ورملية ويابسة.
ويبدأ موسم الغوص الرئيسي في شهر مايو من كل عام وينتهي في أواخر شهر سبتمبر، حيث يتساوى الليل والنهار ويكون البحر باردا. هذه الرحلة تتبعها مواسم أخرى تكون قصيرة، ومنها “الخانجة” أو “الباكورة”، لأنها تسبق الموسم الرئيسي وتكون في شهر أبريل، حيث تبدأ السفن الصغيرة في الخروج والغوص بالقرب من السواحل.
إقفال نهاية الغوص يسبقه تقليد شعبي تخرج فيه النسوة وهن يغنين أغاني تدعو كلماتها إلى عودة أبنائهن وأزواجهن
وهناك موسم آخر يسمى، “الردة”، أي العودة مرة أخرى، ويكون في شهر أكتوبر، عندما تنخفض درجات الحرارة وتميل إلى البرودة، ويكون عدد السفن التي تذهب إلى “الردة” قليلا وعادة ما تكون من السفن الصغيرة.
أما آخر هذه المواسم فهو “الرديدة”، ويكون في شهر نوفمبر، حيث تشتد برودة البحر، ويكون عدد السفن قليل جدا وصغيرة، حيث إنها تبحث عن المحار بالقرب من السواحل ولمدة قصيرة.
وتسمى نهاية الغوص “القفال”، وكان هناك تقليد شعبي قبل “القفال” تخرج فيه النسوة برفقة أطفالهن الذين بقوا في البلاد إلى شاطئ البحر ليلا، وهن يغنين أغاني لا تزال ذكراها تتردد وتدعو كلماتها إلى عودة أبنائهن وأزواجهن وأقاربهن المسافرين في رحلة الغوص. وأظهر الكويتيون قوة عزيمة وشدة بأس وتحمّل مشاق مهنة الغوص بما فيها من تعب ومجاهدة ومخاطر مستخدمين في ذلك أبسط الأدوات والمعدات.
ولم يكونوا يحملون معهم من أدوات الغوص شيئا، فلا يرتدي الغواص آنذاك سوى سروال قصير أسود اللون يسمى “الشمشول” بدل الإزار ليساعده على السباحة والحركة في قاع البحر، ولحماية نفسه من الحيوانات البحرية الهلامية. وقد يرتدي لباسا آخر مصنوعا من قماش خفيف أسود أيضا يشبه البنطلون، والقميص بأكمام طويلة وقد اختير أسود لإبعاد أسماك البحر الخطرة.
ويضع الغواص على أنفه أثناء الغوص ما يعرف بـ”الفطام”، وهو قطعة صغيرة مصنوعة من عظام السلاحف طولها نحو أصبع وذلك لمنع تسرب الهواء أو دخول الماء ويمسك أثناء نزوله إلى القاع بحبل يجره جرا خفيفا كإشارة إلى الشخص الآخر الموجود على ظهر السفينة كي يسحبه إلى السطح بعد انتهاء عمله.
يرتدي الغواص أيضا “الحاجر” (الحجارة التي يربطها الغواص في إحـدى رجليه لتعينه على الهبوط إلى أعماق البحر). وحرصا على سلامة الغواص، يتم ربط حبل حول الخصر يعقد في سور السفينة أثناء رحلة الغوص في أعماق البحر.
واعتمد الغواصون على النجوم لمعرفة الطرق إضافة إلى البوصلة وكانوا يقيسون عمق البحر ويتعرفون على نوع تربته باستخدام قطعة مستطيلة من الرصاص تسمى “البلد” تربط بحبل به علامات وتنزل في البحر قبل نزول الغواصين للاستكشاف.
مخاطر الغوص
كان الغواصون يعملون طوال النهار بجد وتعاون وتكاتف بمعدل بين 12 و16 ساعة يوميا، ينزل خلالها الغواص إلى القاع مرات عدة دون أجهزة تنفس أو أوكسجين معتمدا فقط على طول نفسه وقوة عزيمته ومن دون نظارات تحمي عينيه من ملوحة البحر أثناء عمله.
وفى القاع كان الغواص يتحرك سريعا لالتقاط المحار وجمعه في وعاء يعلقه برقبته وهو مصنوع من الحبال الرفيعة، ويسمى “الديين”، وذلك على مدى نحو دقيقتين، كل حسب طول نفسه ثم يشد الحبل الذي يربطه بـ”السيب”.
وقد ينتهي نفس الغواص في قاع البحر أو بين القاع والسطح، فيخرج في الرمق الأخير وفي حالة غيبوبة تسمى بالعامية “السنا”، مما يدفع بزملائه إلى النزول إليه ليحملوه على ظهر السفينة كي يرتاح، وقد يموت بسبب ذلك، ولاسيما عندما يكون القاع عميقا جدا، ولا ينتبه الغواص لذلك.
وقد تنفجر طبلة أذن الغواص بسبب الضغط القوي في القاع، ويخرج الدم منها مما يسبب له ألما شديدا يمنعه من مواصلة عمله، خصوصا مع عدم توفر العلاجات اللازمة واعتماده على الكي بالنار أو بعض الأعشاب للاستشفاء.
وقد تصيب الغواصين بسبب طول مكوثهم في البحر أمراض جلدية كالتسلخات وكمرض السمط الذي يؤدي إلى تعفن الجلد وظهور الطفح والقروح عليه وقد يصاب بعضهم في قاع البحر بتشنجات مؤثرة.
ومن أخطار البحر الأخرى التي يتعرض لها الغواصون، الأسماك الخطرة، ولاسيما سمك القرش الذي التهم الكثير منهم وتسبب في إصابة آخرين بجروح وعاهات أقعدتهم عن كسب العيش وتركت في نفوسهم اشد الذكريات حزنا وألما.
ويعتبر انتهاء موسم الغوص أو ما يعرف بـ”القفال” بمثابة العيد في الكويت وفي دول الخليج، إذ تعود الحركة والنشاط إلى الأسواق ولدى الناس الذين طال انتظارهم لأهلهم وأحبابهم المسافرين للغوص إلا أنه يكون حزنا وتعاسة لدى البعض ممن يتلقون نبأ موت أو إصابة أحد أقربائهم بجروح.