صوماليون يبيعون الكتب على رصيف "الموت" في مقديشو

مقديشو- دون موعد مسبق.. على رصيف شارع مكة المكرمة وسط العاصمة الصومالية مقديشو، يلتقي باعة الكتب المستعملة وعشاقها أمام مبنى “تري بيانو” الشهير. زبون مولع بالقراءة يبحث عن كتاب شيق أو مرجع مفيد، وبائع كتب يفرش بضاعته على الرصيف، لعله يُحصّل رزقا، وربما يأتيه الموت قتلا قبل هذا الرزق.
فهذا الشارع لا تكاد تفارقه تفجيرات إرهابية، في كل شهر تسجل فيه أحداث دموية تصيب محلات تجارية ومقاه ومطاعم شعبية وباعة كتب. منذ سنوات تقاتل القوات الحكومية وقوات حفظ السلام مسلحي حركة الشباب المتمردة في بلد عربي فقير مزقته الحرب الأهلية.
عشرات من أكشاك بيع الكتب منتشرة على طول رصيف شارع مكة المكرمة، ولا سيما أمام “تري بيانو”، وهو من أقدم مباني الشارع، ويتألف من ثلاثة طوابق. باعة الكتب المستعملة يعرضون قصصا وروايات وقواميس وبحوثا، وغيرها، من شتى اللغات، إلى جانب مجلات نفيسة.
سعر الكتاب غالبا يتراوح بين دولارين وثلاثة دولارات أميركية، أي بين 40 ألفا و60 ألف شلن صومالي. مستظلا تحت مظلة بالية في الشارع، ينتظر محمد مري (66 عاما) صباح كل يوم زبونا. يقول “أرتزق من بيع هذه الكتب منذ نحو ثلاثة عقود، ونحن بمثابة درع واقية للعقل البشري، الذي ينمو وتنفتح آفاقه بالقراءة.
ويضيف، “العائد ليس كبيرا، مرة نسد رمق أطفالنا، وأحيانا نعود خاليي الوفاض، بسبب ركود سوق الكتب، جراء الظروف الاقتصادية الصعبة للبلد، وقلة الدخل لهواة الكتب المستعملة”. ويعرض الباعة شتى أنواع الكتب المستعملة، بينها كتب نادرة، بأسعار زهيدة قد لا تتجاوز دولارين أو ثلاثة، رغم أن سعرها في المكتبات يتجاوز عشرة دولارات.
المكتبات في البنايات الجديدة باتت تسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام أصحاب الكتب القديمة
في الجهة اليمنى من موضع الكتب المفروشة على الأرض يستند عمر محمد إلى حائط وهو يقرأ مقدمة وخاتمة قصة خيالية، لعله يستنبط جوهرها. يقول محمد،”إن الكتب المستعملة تمنح فرصة المطالعة لأصحاب الدخل المحدود العاجزين عن الذهاب إلى المكتبات ذات الأسعار الجنونية”.
ويتابع، أن باعة الكتب المستعملة لديهم كنوز، فهم يوفرون لنا كتبا نادرة قد لا تجدها في المكتبات، وكلها بسعر بخس، كالقصص والبحوث، التي تساعد طلبة الجامعات في كتابة بحوث التخرج. يتناوب رواد الكتب فرصة الجلوس والبحث عن الكتب المفيدة، في ظل صغر حجم الدكاكين وزحام المارة، إذ تشهد المنطقة ازدحاما شديدا خلال يومي السبت والأحد.
ويحصل الباعة على الكتب المستعملة من جامعيها، وهؤلاء يحصلون عليها من مصادر مختلفة. يشتغل في جمع الكتب رجال عاطلون عن العمل، معظمهم أساتذة سابقون، وهم يجمعون الكتب من مصادر خاصة، ثم يبيعونها لأصحاب الأكشاك. بعد طول نقاش ومساومة يسلّم عبدالقادر حسين، وهو جامع كتب مستعملة، سبعة كتب من تخصصات مختلفة إلى صاحب كشك، مقابل ثلاثة دولارات.
يقول عبدالقادر، وهو يعمل في هذه المهنة منذ سنوات، إن مصادر الكتب القديمة متنوعة، لكن أغلبها تأتي من مكتبات المتوفين، إذ ترغب الأسرة في التخلص منها لأسباب مختلفة، مضيفا بأنه يعتمد على شباب يزودونه بمعلومات عن مكتبات منزلية، كأن يرغب صاحب مكتبة مثلا في التخلص من بعض الكتب لكثرتها عنده أو لحاجته إلى مال.
ويوضح أن بعض مكتبات الموتى تضم كتبا نادرة من حقبة الاستعمار وعهد النظام العسكري للرئيس سياد بري (1961-1991)، وهو ما يجعل بائعي الكتب القديمة منافسا قويا للمكتبات. لكن عند الشراء من صاحب المكتبة أو أسرته لا قيمة لمحتوى الكتاب ولا تاريخه، فالمقياس هو الوزن بالكيلوغرام.
جامع الكتب يشتري الكيلوغرام من الكتب بأقل من نصف دولار، ويبيعه إلى بائع الكتب بسعر يتراوح بين دولارين وأربعة (من 40 ألفا إلى 80 ألف شلن صومالي). مقولة “خير جليس في الزمان كتاب” تنطبق على بائعي الكتب القديمة في مقديشو، فبعضهم تعلم منها القراءة والكتابة، وبات يشرح لزبائنه عناوين الكتب.
أمضى إدريس أحمد نحو عقدين في عالم بيع الكتب القديمة. مع كل صباح، ينهمك في نفض الغبار عن الكتب، ثم رصفها حسب أصنافها. يقول، “مكتبتي بالنسبة لي مدرسة ومقر عمل، تعلمت فيها القراءة والكتابة بعد أن كنت أميا يبيع الثمين بثمن بخس لكسب قوت يومه. يضع إدريس لوحا وسط كتب مفروشة، لمنع اختلاط بعضها ببعض، بعد تنظيمها حسب نوعية محتواها.
ويتابع إدريس، “مكتبتي منظمة تسهل للزائر التنقل بينها واختيار الكتب، بدلا من عناء البحث، وهذا سر جذبي لعشاق الكتب القديمة”. عناء البحث وعدم المساعدة من صاحب الكشك هو شعور ينتاب معظم رواد المكان، لذا بات الباعة يتنافسون في فرز الكتب وتصنيفها، لجذب الزبائن.
أويس محمد، من رواد المكان، يقول، “فكرة شراء الكتب المستعملة لازمتني منذ وقت طويل، فهي مصدر معرفة لنا”، مؤكدا أنه هو وبعض زملائه يفضلون مكتبة إدريس، لكونه يجيد مساعدة القراء، لذا أحيانا نكتفي بسؤاله عن عنوان الكتاب، بدلا من البحث عنه وسط الكتب.
ويوضح، أن البحث عن كتاب وسط المئات من الكتب مضيعة للوقت، وربما لا تجد في النهاية كتابك المفضل. رغم انتشار الملايين من الكتب الرقمية، إلا أن بائعي الكتب في الهواء الطلق لا يزالون يحتفظون بجمهور كبير مهتم بالكتب الورقية أكثر من الرقمية.
لم يعد شارع مكة المكرمة هو المكان الوحيد لبيع الكتب المستعملة، إذ باتت منتشرة في مناطق عديدة، أغلبها في سوق البكارة (أكبر الأسواق بالصومال)، وبعض أزقة أحياء مقديشو. صارت معارض الكتب المستعملة وجهة للراغبين في اقتناء الكتب، بعد انهيار المكتبة الوطنية، عقب عام من الإطاحة بالحكومة المركزية، في 1991.
ومع عودة الاستقرار بدأت المكتبات تعود بقوة، بفضل انتشار المبانٍ الحديثة، وباتت تلك المكتبات تسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام أصحاب الكتب القديمة الذين ينتشرون على أرصفة الشوارع الرئيسية.