صور تغير المواقف إلى نقيضها من إيلان إلى هجمات باريس

الثلاثاء 2015/12/01
أحداث باريس غيرت ردود أفعال الساسة الأوروبيين تجاه أزمة الهجرة

يروّج منذ أن أعلن الباحثان الكنديان في علوم الاتصال فيليب بروتون وسيرج برو عن “الانفجار الاتصالي الأعظم” الذي غير من طبيعة الرأي العام في كافة أرجاء المعمورة، لم تهنأ حركة القناعات والأراء بمختلف توجهاتها بلحظة توقف ثابتة، حتى أن الرأي العام أصبح يقاس باليوم الواحد، في الصباح يوجد توجه وفي المساء توجه آخر. ويعود هذا إلى المنظومة التواصلية الجديدة القائمة على الإعلام اللحظي للأحداث والأخبار والصور، حتى سميت هذه اللحظة الاتصالية بأنها “عجائبية”.

ومن خلال هذا التقديم يمكن لمس تناقض المواقف التي يتبناها الجمهور تجاه قضية بعينها: فاليوم يوجد تعاطف مع قضية ما مثلا وغدا يرتد ذلك التعاطف إلى نقمة حسب طريقة تصوير الحدث.

فقبل أحداث باريس التي وقعت في الـ13 من نوفمبر الماضي، كانت قضية اللاجئين القادمين من سوريا والعراق ومن مختلف مناطق التوتر في الشرق الأوسط وصولا إلى أفغانستان، محل اهتمام من قبل المتابعين نتيجة الكم الهائل من الشحنات العاطفية التي أرفقت بالصور والأخبار التي تبث في مجالات استقاء المعلومة، خاصة في شبكات التواصل الاجتماعي. ولعل صورة الطفل السوري الذي لم يتجاوز سن الثالثة المسجى فوق شاطئ جزيرة بوضروم التركية تعد مفتاح امتلاك التعاطف الواسع الذي شمل قضية اللاجئين إلى أوروبا والهاربين من نار الحرب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد تم رصد أكثر من 17 مليون “مشاركة” لصورة الطفل على فيسبوك وملايين التغريدات على تويتر، والشعار الأكثر رواجا المرفق بالصورة كان “إنسانيتنا تموت على الشاطئ”. لكن هذا التعاطف سوف يتحول سريعا إلى نقمة على اللاجئين أنفسهم فقط بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت باريس مؤخرا.

وقد أثبتت صورة ذلك الطفل أن الهيمنة على الرأي العام والتحكم فيه من قبل صناع الرأي العام أنفسهم من ساسة وخبراء وإعلاميين أصبحت تتم عبر وسائل “القرب” أكثر من وسائل الإعلام الجماهيرية المعهودة من راديو وتلفزيون وصحف، فالفضاء الافتراضي أصبح غرفة عمليات صناعة الرأي العام عبر تقنيات وتطبيقات تمكن من سرعة تناقل المعلومة وعرضها بالتفاصيل عبر تقنية التصوير السريع والصور التي يتم التقاطها في الأحداث بمختلف أنواعها خاصة الأحداث الخطيرة والمثيرة للجمهور مثل العمليات الإرهابية. وتسهل شبكات التواصل الاجتماعي من بث الخطاب العاطفي الذي يمكّن من التلاعب السهل بالمواقف والقناعات. ويعد هذا النوع من الخطاب الذي يخاطب المشاعر العامة مجالا محبذا للتوظيف السياسي، فهي طريقة تبتدعها دوائر التفكير والخطاب في الأحزاب والتيارات السياسية المرتبطة بمصالح اقتصادية وحكومية بعينها.

صورة الطفل إيلان أثبتت أن الهيمنة على الرأي العام والتحكم فيه من قبل صناع الرأي العام أنفسهم من ساسة وخبراء وإعلاميين أصبحت تتم عبر وسائل "القرب" أكثر من وسائل الإعلام الجماهيرية

وبعد أحداث باريس، أعادت الأصول المسلمة لمنفذي الهجمات (ليس فقط هذه الهجمات الأخيرة بل كل العمليات الإرهابية تقريبا كان أبطالها فرنسيين من أصول عربية أو مسلمة)، الحديث عن أزمة في تحديد الموقف من الوافدين الجدد على فرنسا خاصة وأوروبا عموما من مناطق التوتر في الشرق الأوسط، وقد نبهت العديد من الوجوه من تسرب الإرهاب داخل المئات من العائلات والأفراد القادمين من مناطق الحروب إلى أوروبا عبر البحر.

فقد رصدت شبكة بي بي سي الإخبارية البريطانية ردود أفعال رواد الفضاءات الافتراضية على الهجمات الأخيرة التي حدثت في باريس، وأكد تقريرها أن “آلاف التعليقات ذهبت مباشرة إلى تحميل المسلمين في فرنسا المسؤولية عن انتشار العنف والتطرف وبالتالي صناعة خلايا الإرهاب في البلاد، التي سهلت مرور الأسلحة والمتفجرات ونسقت للقيام بأعمال إرهابية”. وقد ركزت وسائل الإعلام على نشر صور المشتبه فيهم جميعا في الهجوم المسلح، وتحت كل صورة اسم الإرهابي وكلها أسماء عربية ووجوه توحي بالتطرف نتيجة لمظهرها المعهود عن المتطرفين الإسلاميين.

وقد وفقت أجهزة الاتصال الجماهيري في التقاط لحظة الصدمة في الشارع الأوروبي والعالمي لتحول تلك الشحنة إلى موقف سلبي من اللاجئين العرب والمسلمين في أوروبا، حتى تتسع الحركات الشعبوية اليمينية في أوروبا فتثير عاصفة حول وجود اللاجئين والذين يشكلون “تهديدا للأمن الثقافي والمدني لأوروبا” نتيجة أصولهم المسلمة واحتمال وجود إرهابيين من ضمنهم.

ومنذ أن كانت ملايين المشاركات والتغريدات، وحتى المقالات المكتوبة في الصحف المعروفة، تنادي بتحكيم ضمير الإنسانية في إنقاذ اللاجئين القادمين من البحر عبر اليونان ليمروا إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي، أصبحت تلك الملايين ذاتها تناقض دعواتها السابقة وتدعو إلى التخلص من عبء اللاجئين وخطرهم الأمني والأيديولوجي على أوروبا وخاصة فرنسا، وهذا لا يعود إلى رأي الجمهور فقط، فطبيعة هذا الرأي الجماهيري غير ثابتة وسريعة التحول، لكن الأمر يعود إلى صناع الرأي (أو قيادات الرأي) الذين يحولون الحدث (الصورة) إلى قوة خطابية الغرض منها توجيه الجمهور إلى نقاط الأجندة المرسومة من قبل تلك القيادات.

لقد تمكنت الآلة الإعلامية في اختبارها الأخير في التعاطي مع إشكالية الإرهاب وما يحيطها من ظروف، من صناعة صورتين مختلفتين عن قضية بعينها في مدة وجيزة لم تتجاوز الأشهر، ووضعت “الحشود” أمام تناقضها مع مواقفها نتيجة توظيف الصورة أو الحدث في سياق متناغم مع “الأقوى إعلاميا”. فقد كان اليسار في فرنسا مثلا أول من رفع شعارات إنسانية لإنقاذ اللاجئين، ولكن اليمين استطاع أن يعيد تشكيل تلك الشعارات وفق أهدافه الأيديولوجية ليؤكد أن المهاجرين خطر على أوروبا، والتقنية دائما هي ذاتها: الصورة وتعليقها.

عمليات باريس: عودة التفكير في الحدود الموصدة

بعد أحداث باريس أعادت الأصول المسلمة لمنفذي الهجمات الحديث عن أزمة في تحديد الموقف من الوافدين الجدد من مناطق التوتر

أوروبا تنتحر، شعار رفعه العديد من المتظاهرين في مسيرات التنديد بسياسة أوروبا تجاه اللاجئين السوريين والعراقيين القادمين من بؤر التوتر في دولهم، وقد سعى بعض السياسيين أنفسهم، الذين دافعوا عن توافد اللاجئين، إلى التنبيه من خطورة تسرب الإرهابيين في قوارب اللجوء إلى أوروبا، مثل تصريح وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فوندر لاين التي حثت الألمان على قبول اللاجئين وبعد هجمات باريس نبهت الأوربيين إلى خطر دخول الإرهاب مع اللاجئين.

الحدث الباريسي أعاد الموقف الأوروبي عموما إلى مربع البداية، بعد أن غيرت الحكومات مواقفها من مسألة استقبال اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط. إذ جاءت أحداث باريس لا لتضع مسألة اللجوء بمجملها أمام مفترق حاسم فحسب، بل لتضع الاتحاد الأوروبي بين موقفين متناقضين، إما الاستمرار باتباع السياسة الليبرالية تجاه اللاجئين، وإما اعتماد السياسة المحافظة وإغلاق الأبواب وبالتالي سحب القيم الأوروبية من التداول العالمي.

العديد من الساسة الأوروبيين تفطنوا إلى أن الهجمات الإرهابية في باريس لم تكن لتجد طريقا لها لو لم يتم التواطؤ مع أفراد قدموا من سوريا، سواء كانوا سوريين أو كانوا من إرهابيي داعش. وبذلك أعاد أصحاب القرار قراءة الموقف من المسألة السورية برمتها وليس فقط من اللاجئين، فقد دفعت الهجمات الإرهابية على باريس إلى تغيير تام في الموقف الفرنسي من التحالف الدولي ضد داعش وغيرت مجرى سياستها الخارجية تجاه التحالف الدولي بأن شاركت القوات الروسية في حملتها على هذا التنظيم، والمفاوضات لا تزال جارية حتى في مصير الأسد الذي لم تكن فرنسا تقبل نقاشا في أن تتم إزاحته من السلطة.

إذ لم تمض ساعات على أحداث باريس حتى انطلقت هجمات ضد اللاجئين (حرق مخيم كاليه للاجئين في فرنسا، والاعتداء على لاجئ في بلدة ترالسوند بولاية ميكلنبورغ فوربومرن بألمانيا، وانفجار في منشأة معدة لاستقبال اللاجئين، وحريق في مدرسة معدة لاستقبال لاجئين بالسويد) وقد يبدو هذا الأمر طبيعيا لأن الهجمات لم تستهدف الدولة بشكل مباشر، وإنما استهدفت المجتمع المدني ونمط الحياة الاجتماعي الأوروبي.

بالرغم من أن بعض داعمي ميركل يحاولون التأكيد على أن ما حدث في فرنسا يصعب تكراره في ألمانيا بسبب عملية الاندماج الأفضل للاجئين مقارنة بالدول الأخرى أولا، والعدد المنخفض نسبيا للمدرجين تحت قائمة الخطر ثانيا، والمشاركة الضعيفة والمحدودة لألمانيا في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة إلا أن الأمر لم يمنع من خروج العشرات من المظاهرات للرفض اللاجئين.

وترافقت هذه الهجمات بخطاب سياسي حاد تجاه اللاجئين، وكأن أحداث باريس شكلت قميص عثمان للدول المنددة أو المتحفظة أصلا على السياسات الليبرالية التي اتبعها الاتحاد الأوروبي بشكل عام وألمانيا والسويد بشكل خاص تجاه اللاجئين.

وقد أوقف فرنسا العمل باتفاقية شنغن وتطالب برقابة شديدة على حدود الاتحاد الأوروبي، وفنلندا تحمل اللاجئين مسؤولية أحداث باريس، وترفض إثر ذلك نحو 65 بالمئة من طلبات اللجوء التي قدمت خلال الأشهر القليلة الماضية، والنرويج تعلن أنها ستعيد اللاجئين الذين دخلوا أراضيها من روسيا، حتى إذا لم يكن بحوزتهم إقامة في روسيا، والنمسا تسير على خطى المجر ببناء سياج على حدودها مع سلوفينيا لتخفيف عبور اللاجئين إلى أراضيها، والحكومة البولندية الجديدة تعلن وقف استقبال اللاجئين بموجب البرنامج الأوروبي.

وبذلك فإن “انتحار أوروبا” جاء بسبب تسهيلات الحكومات الأوروبية لدخول اللاجئين إلى دولها (حسب ما يروجه أصحاب هذا الرأي). وقد ساهمت الأخبار والصور التي نشرت حول الحدث في إذكاء تغير المواقف.

إيلان: صورة دفعت أوروبا إلى فتح أبوابها

صورة الطفل إيلان الكردي دفعت العديد من السياسيين إلى تحميل أوروبا مسؤوليتها الإنسانية إزاء أزمة المهاجرين

إيلان كردي هو طفل سوري من عين العرب (كوباني) هربت عائلته من المنطقة نتيجة اشتداد المعارك بين الأكراد وتنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية، وقد مرت العائلة بدمشق وصولا إلى السواحل الغربية لتركيا تحضيرا للإبحار نحو اليونان، لكن المركب غرق وتم العثور على جثته فوق شاطئ شبه جزيرة بوضروم التركية. أججت صورة الطفل الميت على البحر شعور الملايين بالتعاطف مع قضية اللاجئين نحو أوروبا، وقد صرح العديد من السياسيين أنه على أوروبا تحمل مسؤوليتها الإنسانية إزاء هذه الأزمة وإدماجهم في الدورة الاقتصادية وتقديم تسهيلات لهم للعيش في دول الاتحاد الأوروبي. وقد تباين هذا الموقف مع الاتجاه العام للسياسة الأوروبية سابقا بأن كانت متشددة في مسألة التواجد داخل أراضيها بشكل غير قانوني، خاصة بعد التدفق غير المسبوق للمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا والقادمين من دول شمال أفريقيا.

وتمكنت صورة إيلان كردي من التأثير بعمق في القرارات التي تتعلق بمسألة اللجوء إلى أوروبا، وبالرغم من الإشكالات التي سببها التدفق العالي للاجئين على حدود دول الاتحاد الأوروبي من جهة الشرق، إلا أن القادمين عبر البحر تمكنوا من الولوج إلى دول الاتحاد القادرة على احتوائهم مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وحتى بريطانيا، بل وصل الأمر إلى فرض اتفاقيات تقاسم حصص اللاجئين بمشاركة الولايات المتحدة الأميركية وكندا. فصورة الطفل لم تعد محركا في ذاتها لمشاعر الجمهور بل إن توظيفها في سياق تعديل السياسات وتحضير الرأي العام لتلك التعديلات يعد الهدف الخفي في التركيز عليها إعلاميا. والغاية دائما هي التأثير في المواقف وتغييرها أو على الأقل تحييدها.

وشكلت صورة الطفل إيلان الذي ألقت به أمواج البحر على شواطئ تركيا صدمة للعالم، حيث كان الطفل من بين مجموعة من اللاجئين الذين يحاولون الوصول إلى جزيرة كوس اليونانية لطلب اللجوء والهروب من الحرب في سوريا.

وانشغلت العديد من المواقع الإلكترونية بنقل الصورة والتعليقات عليها، فيما تداولت مواقع عربية تسجيل فيديو تظهر فيه وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستورم وهي تبكي خلال برنامج تلفزيوني عندما تم ذكر الطفل إيلان خلال استعراض لقضية اللاجئين السوريين الذين يتدفقون على القارة الأوروبية.

وكتبت العديد من المواقع الإلكترونية تعليقا على تفاعلها، أن الوزيرة السويدية تبكي الطفل السوري، “بينما وزراء دول أخرى قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة”. ويجمع العشرات من الصحافيين والنشطاء على الإنترنت أن صورة الطفل الغريق أحدثت فرقاً ملموسا في الرأي العام الأوروبي بشكل خاص تجاه اللاجئين، وخاصة السوريين منهم الذين يركبون البحر من أجل الوصول إلى أوروبا.

يذكر أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وصلت في تعاطفها مع اللاجئين إلى حد إنهاء العمل باتفاقية دبلن التي تنظم اللجوء والإعلان عن استقبالها للاجئين دون شروط مسبقة أو أعداد معينة.

وبذلك تمكنت صورة الطفل إيلان من إحداث تغييرات جذرية في السياسات والمواقف إزاء مسألة اللجوء والهجرة إلى أوروبا، ومن وراء هذه التغيرات طرحت مرة أخرى مسائل التسامح والانفتاح الاجتماعي وقبول الآخرين من الثقافات والأديان المختلفة، وهذا ما ستغيره أحداث باريس بعد ذلك.

12