صورة نتنياهو عملاق الدبلوماسية بعيدة عن الحقيقة

القدس - كان "مستوى مختلف" شعار حملة بنيامين نتنياهو الانتخابية في 2019. وانتشرت في جميع أنحاء إسرائيل لوحات إعلانية تحمل هذا الشعار مع صور ضخمة له وهو يصافح زعماء العالم.
ودأب نتنياهو في سنواته الأولى كرئيس لوزراء إسرائيل على وصف نفسه بأنه "سيد الأمن"، متظاهرا بأنه الشخص الذي سيمنع إيران من التحول إلى قوة نووية. ثم عمل على ترسيخ صورته كدبلوماسي كبير، وشخص يسعى أصحاب النفوذ في جميع أنحاء العالم لقضاء بعض الوقت معه، ويمكنه دائما توقع دعوات مفتوحة للعديد من العواصم الأجنبية، وقادر على تقديم صفقات ثنائية ومتعددة الأطراف رغم الظروف غير المواتية، سواء ما تعلق منها بلقاحات كورونا أو ما اتصل بالتطبيع مع الدول العربية.
وكانت زيارات نتنياهو السنوية في سبتمبر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في العادة ذروة هذه الجهود الدبلوماسية الرفيعة، حيث يلقي خطابات مصقولة، وينظم اجتماعات جانبية مع القادة، ولقاءات مع مسؤولين من الولايات المتحدة. وتحظى كل هذه التحركات بتغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية ويشيد بها ناخبوه في الوطن. ولكن من المفارقات أنه أضعف الجهاز الحكومي الذي من المفترض أن يحقق النجاح الدبلوماسي بينما كان يعمل على تعزيز موقفه العالمي. وتضاءلت الخدمة الخارجية الإسرائيلية تحت قيادته، ولا تزال ضعيفة.
وينظر نتنياهو إلى وزارة الخارجية على أنها معقل للنخب المتنافسة أو حتى اليساريين، وجرّدها من العديد من مسؤولياتها الأساسية كالدبلوماسية العامة والشؤون الإستراتيجية ومكافحة معاداة السامية في جميع أنحاء العالم وحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. وقرر إعادة توزيع المهام على وزارات أخرى (بما في ذلك الوزارات المؤسسة حديثا). كما خفض ميزانية وزارة الخارجية على مر السنين، مما أدى إلى انخفاض عدد العاملين فيها، وتقلص تأثيرها على عملية صنع القرار في السياسة الخارجية بشكل متعمّد.
لكن الجهود التي بذلها نتنياهو ومساعدوه لتسويق مبادراته الدبلوماسية كانت مثمرة على المدى القصير على الأقل. ويسأل معهد ميتفيم (مركز أبحاث إسرائيلي أسسه الدكتور نمرود غورين وهو أيضا زميل أقدم في معهد الشرق الأوسط) سنويا الإسرائيليين عن رأيهم في سياسة بلادهم الخارجية ويقوم بعملية مسح لأولوياتهم الدبلوماسية. ويتضمن مؤشر السياسة الخارجية الإسرائيلية السنوي، الذي انطلق في 2013، أسئلة حول قضايا دبلوماسية متعددة ويقدم لمحة سريعة عن النظرة الإسرائيلية إلى السياسة الخارجية.
وعلى الرغم من تراجع مستوى الرأي العام في 2015، بعد أن شكل نتنياهو ائتلافا يمينيا ضيقا لم يعين فيه وزيرا للخارجية "بدوام كامل"، شهد مستوى الرضى العام فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية المختلفة زيادة معتدلة خلال فترة وجوده في السلطة. وعرفت هذه التصنيفات انخفاضا في 2021، ولكن مؤشر معهد ميتفيم سجّل زيادة متجددة في 2022، حين اتبعت الحكومة القادمة، برئاسة نفتالي بينيت ويائير لابيد، نهجا مختلفا في السياسة الخارجية بدا أكثر احترافية وفاعلية.
ورأى الإسرائيليون أن السلوك الدبلوماسي المختلف ممكن، وشهدوا قدرته على تحقيق إنجازات أعظم. ونُشر مؤشر السياسة الخارجية الإسرائيلية لسنة 2023 خلال الشهر الحالي، بينما كان نتنياهو يستعد لزيارة أخرى إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكانت النتائج مذهلة، وأكدت أن صورة نتنياهو بصفته "الدبلوماسي الكبير" لم تعد تلقى صدى. وعكست السياسات الداخلية والخارجية التي تبنتها حكومته الحالية منذ وصوله إلى السلطة في أواخر ديسمبر 2022 كيفية تقييم الإسرائيليين لدبلوماسية بلادهم وسياستها الخارجية مرة أخرى.
وفي أقل من سنة تحولت الأحكام إلى أحكام سلبية، وكادت تصل إلى أدنى مستوياتها في 2015. ومُحي تأثير الإنجازات الدبلوماسية التي حققتها البلاد خلال السنوات الأخيرة. ويصنف الإسرائيليون مكانة بلادهم في العالم هذه السنة بـ5.03 من 10 (مقارنة بـ5.85 في 2022)، وأداء حكومتهم في مجال السياسة الخارجية بـ4.82 (5.53 في 2022)، ومكانة وزارة الخارجية بـ5.00 (5.40 في عام 2022).
وسُجّل الانخفاض الأكثر إثارة للدهشة في تقييم جودة العلاقات الإسرائيلية - الأميركية. وبلغت 6.85 من أصل 10 في 2022، لكن التصنيف انخفض هذا العام إلى 5.30، ولم يمنح سوى 19 في المئة هذه العلاقة مرتبة عالية، بين 8 و10. وبلغت هذه النسبة في العام الماضي 44 في المئة. وتكتسب هذه النتيجة أهمية خاصة بالنظر إلى أن 73 في المئة من المستطلعة آراؤهم يوافقون إلى حد معين أو كبير على أن “الولايات المتحدة هي حليف إسرائيل الرئيسي ويجب أن تبقى كذلك في المستقبل".
كما يشير الاستطلاع إلى أن عددا كبيرا من المشاركين يشعرون بالقلق من تأثير تدهور علاقات إسرائيل مع شركائها الغربيين بشكل كبير على المواقف تجاه الإصلاح القضائي الذي يجريه نتنياهو في نفس الوقت. ولطالما أراد الإسرائيليون أن يكون رئيس وزرائهم حذرا في تعامله مع التحالف المهم مع الولايات المتحدة ومع العلاقات بين إسرائيل ودول مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة التي تصنف في الاستطلاع على أنها من بين الدول الأكثر أهمية بالنسبة إلى إسرائيل. لكن لا يُنظر إلى نتنياهو في الوقت الحالي على أنه يتبع هذا الأمر.
وجاءت النتائج من عينة تمثيلية، عرّف 69 في المئة منها أنفسهم على أنهم من يمين الوسط أو من اليمين أو اليمين المتطرف (مقارنة بـ17 في المئة من الوسط، و14 في المئة من يسار الوسط أو اليسار). ويعكس تكوين العينة هذا الاتجاه الذي تتجه إليه السياسة الإسرائيلية، ومن المرجح أنها كانت تدعم نتنياهو بقوة أكبر وتشيد بجهوده على المسرح العالمي في الأوقات العادية.
وتعدّ القضية الفلسطينية من المجالات التي لا يدفع فيها نتنياهو ثمن سياسات حكومته التي لا تحظى بشعبية. فمن جهة تظهر النتائج التي توصل إليها معهد ميتفيم أن الجمهور الإسرائيلي يرى وجود صلة بين التراجع الديمقراطي داخل إسرائيل والتقدم في الضم الفعلي للأراضي الفلسطينية. ويعتقد الإسرائيليون أن على بلادهم أن تطلب المساعدة من الدول العربية التي قبلت تطبيع العلاقات معها لتعزيز السلام مع الفلسطينيين.
◙ نتنياهو ينظر إلى وزارة الخارجية على أنها معقل للنخب المتنافسة وجرّدها من مسؤولياتها الأساسية كالدبلوماسية العامة والشؤون الإستراتيجية ومكافحة معاداة السامية
ولكن من جهة أخرى يولي الإسرائيليون أهمية ثانوية نسبيا لتعزيز السلام الإسرائيلي - الفلسطيني مع بلوغ الذكرى الثلاثين لاتفاقيات أوسلو، خاصة عند مقارنته بقضايا السياسة الخارجية الأخرى التي يمكن للحكومة التركيز عليها.
وصنف 37 في المئة فقط من المشاركين هذه القضية على أنها مهمة (أي أعطوها تصنيفات بين 8 و10)، مقارنة بأكثر من 50 في المئة لكل من قضايا السياسة الأخرى التي شملها الاستطلاع. ولذلك ينبغي لأولئك في المجتمع الدولي الذين يسعون إلى إيجاد سبل لتعزيز السلام الإسرائيلي – الفلسطيني أن يحاولوا أيضا الاستثمار بشكل أكبر في تعبئة الإسرائيليين التقليديين المؤيدين للسلام، الذين يبدون اليوم أقل حماسا بشأن هذه القضية ولم يعد دعمهم لمبادرات السلام أمرا مفروغا منه.
وتواجه علاقات إسرائيل الخارجية عدة أزمات متوازية مع بداية العام اليهودي الجديد، بما في ذلك ما يتعلق بالعلاقات مع الحلفاء الديمقراطيين الليبراليين في الغرب، والعلاقات مع الجيران العرب، وتدهور مكانة وزارة الخارجية الإسرائيلية وسلوكها.
وعندما اعتلى نتنياهو المنصة في الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام اعتبرته قلة قليلة من الإسرائيليين المنقذ الدبلوماسي لبلادها. وقوبل بمظاهرات غير مسبوقة في شوارع نيويورك، على غرار الاحتجاجات الأسبوعية ضد سياسات حكومته التي تشهدها إسرائيل منذ بداية العام. ويظهر المشهد مرة أخرى مدى قلق الإسرائيليين بشأن الضرر الذي تسببه حكومة اليمين المتطرف الحالية لديمقراطية بلادهم ومكانتها في العالم.