صندوق النقد الدولي أزعج المواطنين وأراح الحكومة المصرية

الحكومة المصرية تشعر بالرضاء التام لحصولها على ثقة صندوق النقد لأنه يحمل لها قشة الإنقاذ، لكن ذكر اسم الصندوق صار يخيف المصريين، وهو يعني في أذهانهم التقشف وزيادة الأسعار وزيادة الضرائب.
تابع المصريون بقلق ما أسفر عنه اجتماع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي الجمعة، ووجدوا فيه الكثير من الألغام الاقتصادية التي يمكن أن تنفجر في وجوههم الفترة المقبلة مع توصيته بسعر مرن للصرف، أو ما يسمى بالتعويم الكامل، وهي عبارة عندما يسمعها الكثير من الناس في مصر يضعون أياديهم على صدورهم لأنها تعني المزيد من الزيادة في الأسعار.
قد تكون الحكومة المصرية ارتاحت نسبيا لأن الاجتماع أقر الموافقة على قرض قيمته ثلاثة مليارات دولار على مدار 46 شهرا، والتشجيع على تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار من إقليميين ودوليين، لكن الدفعة الفورية لن تتجاوز 347 مليون دولار بعد أن كانت الحكومة تنتظر 750 مليون دولار دفعة أولى.
وأصبح قطاع كبير من المواطنين على نقيض من الحكومة، حيث تتزايد هواجسه مع كل حديث يأتي على ذكر صندوق النقد، بالسلب أو الإيجاب، في حين تراه الحكومة وسيلة إنقاذ من الأزمة الاقتصادية تتجاوز عملية القروض التي يمكن الحصول عليها، حيث بات هو شهادة الضمان الرئيسية التي تساعد القاهرة في الحصول على المزيد من الاستثمارات من جهات أجنبية مختلفة، فشهادته أشبه بصك للثقة بالحكومة.
تعاملت الحكومة مع نصف الكوب المملوء في اجتماع الصندوق الأخير، إذ اعتبرت إدراجه للملف المصري إنجازا اقتصاديا كبيرا في هذه المرحلة الصعبة بعد أن راجت روايات متضاربة حول إدراج مصر على الاجتماع وسريته وعلانيته، والشروط التعجيزية التي سوف يضعها كسيف حاد على رقبة الحكومة.
رأت القاهرة في العبارات التي استخدمها وسيلة لتفسيرها بالطريقة التي تناسبها لمخاطبة الرأي العام، فالبيان الذي أصدره مجلس الوزراء المصري السبت قال إن الصندوق لم يطالب الحكومة بخفض الإنفاق على الدعم، وإن البرنامج الجديد يهدف لتعزيز شبكة الحماية الاجتماعية للمواطنين، في إشارة تؤكد أن الدعم الحالي على الخبز والمحروقات والبرامج التي دشنتها الحكومة مؤخرا مستمران.
تركت الحكومة النصف الفارغ بالنسبة إليها الخاص بالقيام بإصلاحات واسعة تستوجب التخلي عن بعض الأنماط التي تتشبث بها، والمتعلقة بفتح أفق كبير أمام الاستثمارات لتعظيم العوائد منها، ما يعني تغيرا في الأنماط التي تتشبث بها وحالت دون تدفق الأموال الأجنبية وتهيئة البيئة للتخلص من تشوهات حجّمت تعافي السوق.
يعيش المصريون حاليا على وقع أزمة اقتصادية مزمنة ويتابعون تطوراتها، تارة بتلقي تطمينات وأخرى إحباطات، فالحكومة تتحدث بلغة تحوي نبرة تفاؤلية للدرجة التي أصدرت تقريرا منذ نحو أسبوع ردا على ما أسمته مزاعم وشائعات، أوحى أنها تقود اقتصادا يوفر الرفاهية للمواطنين، ما جعلهم يتخوفون من الإجراءات التي تقوم بها، حيث تتلوها أنواع جديدة من الضرائب وزيادة في الأسعار.
تتعلق قلوب وعقول فئة عريضة من المصريين بالحالة التي وصل إليها سعر الدولار، وبدأ هؤلاء يتابعون ارتفاعاته المستمرة بعد أن عادت الحياة إلى السوق الموازية، أو ما يسمّى بالسوق السوداء، ويتزايد فيها سعر الدولار عن المعلن من قبل البنك المركزي، وبات الأول يتحكم في أسعار السلع التي يتم استيرادها أو تنتج بالداخل.
عندما يقدم مصري على شراء حزمة من الخضراوات والفواكه المحلية ويجد سعرها مرتفعا عن اليوم السابق يسأل البائع عن سبب الزيادة فيرد على الفور أن الدولار ارتفع عن الأمس، وهو يدرك أن هذه النوعية من السلع منتجة في مصر، فقد صار الهوس بالدولار حالة مرضية تؤرق غالبية المواطنين الذين لا تزال رواتبهم لم تتغير بما يتناسب مع الزيادة المطردة في أسعار السلع والخدمات.
تعلم الحكومة هذه الأوضاع جيدا وتحاول علاجها، لكنها لا تملك الآليات اللازمة للسيطرة على الأسواق، الأمر الذي شجع التجار على إخفاء الكثير من السلع وتغيير أسعارها وفقا للمؤشر الصاعد لسعر الدولار، والذي سوف يظل في ارتفاع لأن المضاربين عليه ومن يستحوذون على هذه العملة عيونهم مصوبة على إجبار صندوق النقد الحكومة على التحرير الكامل لسعر الصرف، أو ما يسميه “السعر المرن”.
أصبحت هذه الخطوة ضرورية ولا بد منها، ليس استجابة فقط لتوصية الصندوق، بل لأن من يدّخرون العملات الأجنبية، وفي مقدمتها الدولار، لن يقدموا على التفريط في أموالهم بالبيع للبنوك وهم يعلمون أن هناك سعرا موازيا يزيد بنحو 30 في المئة عن السعر الرسمي المعلن، وهو أكبر من سعره الحقيقي في أكثر التقديرات تشاؤما.
قد تكون الحكومة سعدت بموافقة الصندوق على القرض الجديد، لكن عليها أن تثبت للمواطنين أنها قادرة أولا على ضبط الأسواق التي دخلت مرحلة متأخرة من الفوضى، تجعل عملية وقفها غاية في الصعوبة بعد أن خاضت الحكومة جملة من الاختبارات أثنتها عن المضي قدما في بعض القرارات والإجراءات التي اتخذتها مؤخرا.
ترتهن الراحة التي تشعر بها الحكومة بعد موافقة الصندوق على القرض بمدى تمكنها من تمرير الإصلاحات المطلوبة منه بأقل خسائر اجتماعية، وفي ظل اتساع نطاق الغليان في الشارع بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار الكثير من السلع يصعب أن تستخدم القوة الأمنية كأداة رئيسية لفرض السيطرة، كما أن الليونة غير مجدية، فقد يفهمها التجار والمضاربون على أنها إشارة لعدم التوقف عن ممارساتهم السلبية.
لذلك فموافقة الصندوق في ظاهرها تنطوي على رحمة للحكومة لكونها تشير إلى أنها تحمل مكونات بحسن السير والسلوك الاقتصادي، غير أن تبعاتها “نار” على المواطنين وتستوجب اللجوء إلى المزيد من الحنكة لإطفائها.
قطاع كبير من المواطنين أصبح على نقيض من الحكومة، حيث تتزايد هواجسه مع كل حديث عن صندوق النقد
مع تراكم الديون وارتفاع فوائد القروض وعدم القدرة على الحد سريعا من الأزمة الاقتصادية سوف يتكبد المواطنون خسائر أشد وطأة، ما يجعل معادلة التوازن التي تحرص الحكومة عليها يمكن أن تختل أو ينفرط عقدها، ومن ثم تواجه الحكومة مشاكل سياسية ربما لا تستطيع وقف تداعياتها على مجتمع يئن من تراكم الأزمات. ما يزيد الموقف حرجا أن بعض وسائل الإعلام المصرية تعمل على تهيئة الأجواء لما هو أصعب وتبشر بارتفاع جديد في الأسعار الفترة المقبلة، كأن أصحاب هذه الرسالة يريدون تخفيف الأعباء عن الحكومة ورفع الحرج عنها من خلال تحجيم سقف التوقعات الإيجابية والرهان على التوسع في الاستثمارات الأجنبية، لأن مردود هذه العملية يحتاج إلى وقت كي تنمو الثمار في السوق وبالتالي المجتمع.
إذا كانت الراحة التي شعرت بها القاهرة محكومة بضوابط صارمة، فإن الانزعاج الذي يشعر به المواطنون لا تحده معايير خاصة عندما يفتقد قطاع عريض منهم توفير الحد الأدنى الذي يمكنهم من مواصلة رحلتهم في الحياة بصورة طبيعية، وما لم تنجح الحكومة في تقديم بشائر ملموسة للأمل عليها الاستعداد لمواجهة حركة تململ غير معتادة والعمل على تطويقها مبكرا بالمزيد من المساعدات.