صناعة المخارق تراث أصيل لباجة التونسية

تونس ـ عند دخولك إلى أسواق مدينة باجة العتيقة شمال غرب تونس يشد انتباهك الزحام أمام دكاكين صنع حلوى المخارق، التي يزداد الطلب عليها في شهر رمضان.
إذ يمكن لأيّ زائر أن يشاهد الحلوانيين وهم يصنعون بمهارة توارثوها أبا عن جد حلوى المخارق من خلال خلط مكوناتها الأساسية، المتمثلة في السميد والدقيق والبيض والزيت والسكر والعسل.
وبينما يُثير أصل هذه الحلوى الكثير من الجدل، يتمسك عبدالرزاق المرساوي، صاحب أشهر دكاكين صنع المخارق في باجة، برواية تشير إلى أن أصلها باجي.
يقول المرساوي “إذا قلنا المخارق قلنا باجة، فهذه الحلوى بشكلها ومذاقها لا مثيل لها في العالم سوى في مدينتنا”.
ويُضيف الحلواني الذي استقبل مراسل الأناضول في دكانه، وأنغام المدائح والأذكار الدينية تنبعث من السوق النشط بحركته التجارية “نشأت قطعة المخارق الأولى في باجة؛ لأن هذه المدينة تنتج السمن والعسل والسميد”، وهذه المواد تمثل أهم مكوناتها.
ويتابع “محمد التعبوري هو أول من صنع المخارق عام 1860، ثم انتقلت المهنة إلى جدي، ثم عمي وأبي، ولاحقًا أخذها عنا آخرون”.
ويوضح “المخارق تراث أصيل لباجة، وامتدت صناعتها إلى عائلات أخرى مثل عائلة بن زلاوية والحداد والسويسي والشلبي وعائلة بالشريفة.. والآن بقيت عائلتا بالشريفة والمرساوي محافظتين على صنعة الجدود”.
صناعة المخارق ظلت تقليدا عائليا، حيث يشارك فيها الأب والأخ وابن الأخ والعم، بينما تتولى النساء تحضير العجين
وعن أصل تسميتها، يروي المرساوي قصة طريفة، قائلا “عندما صنع التعبوري أول طبق مخارق في باجة، المعروفة بكثرة علماء الدين، خرج فوجد شيخًا فأذاقه قطعة منها. فقال الشيخ: هذه مخروقة، أي اخترق العسل العجين”.
ويُضيف “ظلت صناعة المخارق تقليدًا عائليًا، حيث يشارك فيها الأب والأخ وابن الأخ والعم، بينما تتولى النساء تحضير العجين في جو من الفرح والبهجة. وخلال شهر رمضان، تفتح البيوت أبوابها لاستقبال الضيوف وتقديم المخارق لهم”.
وعن زبائنه، يقول المرساوي “بفضل الله، يأتينا زبائن من جميع أنحاء تونس، فباجة لا تبعد سوى 100 كيلومتر عن العاصمة تونس و100 كيلومتر عن مدينة سليانة و50 كيلومترا عن مدينة جندوبة، والناس يأتون إلى هنا ليعيشوا الأجواء الرمضانية والحنين إلى الماضي”.
ويُضيف “المخارق من ألذّ ما تأكل، خاصة بالنسبة إلى الذين يحافظون على الصنعة مثلنا. فالبدن يعمل في النهار ويضعف السكر فيه، فتأتي المخارق لتُعيد له النشاط، فهي متكاملة غذائيًا، حيث تحتوي على السمن والعسل والسميد”.
وحول أسعارها، يُقرّ المرساوي بضغوط أصحاب الصنعة لرفع الأسعار، لكنه يُصرّ على عدم إثقال كاهل المواطن، ويقول “المخارق العادية تباع بسعر 10 دنانير للكيلوغرام (3.3 دولارات) والممتازة المعدة بمكونات أفخر بـ12 دينارًا (4 دولارات)”.
ويُضيف “نضع مصلحة المواطن في مقدمة أولوياتنا، لكن ارتفاع أسعار المواد الأولية يُشكل تحديًا كبيرًا لنا”.
المخارق تُعرف بشكل أكبر في بلاد الغرب الإسلامي مثل تونس وليبيا والجزائر، مع اختلاف التسمية
ويُتابع “هدفنا هو تغطية أجور عمالنا والحصول على دخل شهري معقول، فصناعة المخارق بالنسبة إلينا فن قبل أن تكون مصدر رزق”.
ويُظهر المرساوي تمسكًا كبيرًا بصنعة الجدود، ويقول “قد نفكر في التخلي عن العمل أحيانًا، لكن الحنين إلى الصنعة يُعيدنا إليها في رمضان، وسأحرص على نقلها إلى أبنائي من بعدي”.
ويقول موجها حديثه إلى السلطات لِطلب الدعم منها “نأمل من الدولة مساندتنا هذا العام من خلال تزويدنا بالمواد الأولية، ونُقدّر جهودها في هذا المجال”.
من جانبه، يقول الأكاديمي زهير بن يوسف أصيل مدينة باجة إن حلوى المخارق تُعرف في جميع أنحاء تونس، وخاصة في باجة.
ويضيف بن يوسف الحاصل على دكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربية، لمراسل الأناضول، إن شهرة المخارق لا تقتصر على شهر رمضان فقط، بل تُقدم أيضًا في المناسبات العائلية المختلفة، ومنها المآتم، حيث تُوزّع كنوع من الصدقة على الميت في الذكرى الأربعين من وفاته.
ويُشير إلى أن المخارق تُعرف بشكل أكبر في بلاد الغرب الإسلامي مثل تونس وليبيا والجزائر، مع اختلاف التسمية، ففي تونس تُسمى “مخارق”، بينما تُعرف في الجزائر وليبيا باسم “مخيْرقات”.
ورغم تقارب لون المخارق والمخيْرقات، إلا أن هناك اختلافًا في الشكل والمذاق، وفق بن يوسف؛ فالمخيْرقات تشبه نوعًا من الحلويات يسمّى “قرن الغزال” الذي يُصنع في الجنوب الشرقي التونسي، وخاصة في مدينة تطاوين.
ويشير بن يوسف إلى أن أصل حلوى المخارق يُثير الكثير من الجدل ولا يوجد إجماع حول ذلك.

ويضيف أنه لا يمكن المجازفة بنسبها للمطبخ الباجي لاختلاف الروايات، معتبرا أن الروايات الشفوية تمثل ثقافة الذاكرة التي تقول غير ما تقوله ثقافة الأرشيف.
ويذكر أن من بين الروايات الشفوية تلك المنسوبة إلى محمد التعبوري، كما يلفت إلى رواية أخرى تقول إن المخارق وصلت باجة بواسطة جندي تركي استضافته عائلة من المدينة فصنعها لهم.
إلا أن ما يُضعف هذه الرواية، وفق بن يوسف، هو عدم وجود تسمية “مخارق” في اللغة التركية، وغياب هذه الحلوى في تركيا اليوم.
ويضيف بن يوسف أن هذه الرواية كذلك ترجع الواقعة إلى عام 1860 و”لا يمكن وقتها الحديث عن وجود جنود عثمانيين” في تونس؛ كونها كانت آنذاك تحت كنف البايات الحسينيين.
وتُشير رواية أخرى إلى أصل أندلسي للمخارق؛ حيث جلبها الأندلسيون إلى باجة، وهناك تطورت طريقة صنعها.
لكن بن يوسف يُضعف جميع الروايات الشفوية مستندًا إلى مصادر أرشيفية تونسية، خاصة دفاتر مصروفات قصور حكام البايات، التي تُؤكد وجود حلوى المخارق والزلابية والمدموجة منذ القرن 18، في كل من الأوساط الشعبية والملكية.
ويُشير بن يوسف بصفة خاصة إلى مراسلة من المشير أحمد باشا باي (حكم تونس في الفترة بين 1837 و1855 أثناء حكم البايات) عام 1849، يطلب فيها من أحد وزرائه إحضار الزلابية والمخارق والمدموجة، ما يُعدّ أول أثر مكتوب حول هذه الحلوى.
ويضيف بن يوسف أن المخارق حلوى تونسية بامتياز، لا أصل عثمانيا أو أندلسيا محددا لها، مع التأكيد على تأثير المطبخين التركي والأندلسي على المطبخ الباجي.
ويقول “هذه الحلويات هي اختراع حصري مرتبطة بحرفيي الصنعة في باجة، لكنه أصبح رائجا بحيث اكتسح الأوساط الشعبية وأوساط النخبة الاجتماعية على حد سواء إلى أن اكتسب هذه الشهرة”.