صناعة الغربال شاهدة على تاريخ الموريسكيين في تونس

الغرابيل كانت توزع في أسواق مخصصة لها بالعاصمة تونس وتضم 60 متجرا إلا أنها تلاشت مع مرور الزمن.
السبت 2023/07/29
شاهد تاريخي يندثر

تونس - في ركن منعزل بمنزله يضع التونسي الخمسيني ياسين إدريس أدوات الحياكة في نظام يعهده منذ الطفولة، يشرع في حياكة خيوط مستخرجة من جلود الغنم، تشكل فيما بعد "غربالا" تقليديا. والغربال، أداة (آنية) تستخدم لتصفية الحبوب من قمح وشعير، وصناعة بعض المعجنات التونسية كـ"المحمصة". وينتمي إدريس إلى مدينة "رأس الجبل" الواقعة بمحافظة بنزرت شمالي تونس، ورث هذه المهنة عن والده ليمثل "الجيل السابع" من عائلة مارست هذه الحرفة وأتقنتها لعقود.

ويروي ياسين قصته مع صناعة الغربال قائلا “بدأت علاقتي مع هذه المهنة منذ بلوغي 12 عاما، حينها علمني والدي كيفية حياكة أطر وأحرف الغربال، وكنت أنجز غربالا أو اثنين في العام". وأضاف "لم يرد والدي في البداية تعطيلي عن الدراسة بل أراد أن نتعلم وندرس، إلا أن مهنة صناعة الغربال ظلت مغروسة في قلوبنا، وأصولها متجذرة فينا".

في البداية، اعتقد إدريس أن هذه المهنة قد تندثر بوفاة والده، إلا أن واحدة من زبائن والده، والتي قدمت بعد سنوات طويلة لشراء غرابيل، مثّلت نقطة فاصلة في حياة الابن. لم يرد إدريس أن يضع نهاية لهذه الصناعة التقليدية، وأبى إلا أن يحييها ويصنع بنفسه طلبيات تلك الزبونة.واستحضر ما تعلمه من والده في زمن الطفولة وجمع عصارة ما حفظه لتبدأ رحلته الجديدة مع هذه المهنة، التي تأبى الاندثار أو أن تطويها صفحات النسيان.

وفي معرض حديثه عن هذه الحرفة، وصف إدريس صناعة الغرابيل بأنها "متعبة وشاقة وتتطلب الكثير من الصبر، وإتقانا عاليا واكتساب مهارات دقيقة، خاصة مع طول مراحلها".  وأوضح أن أهم مراحل صناعة الغربال التقليدي تتمثل في “اقتناء جلود الغنم أو الماعز وتجفيفها، ومن ثمة تقسيمها إلى شرائط وتنظيفها جيدا من بقايا الشحم الزائد، ثم تقطيعها إلى خيوط وغزلها لتصبح رقيقة". ويتنقل إدريس، فيما بعد، من غزل الخيوط إلى مرحلة تثبيتها في شكل متقاطع، لتبدأ ملامح الغربال النهائية بالظهور شيئا فشيئا.

◙ صناعة الغرابيل متعبة وشاقة وتتطلب الكثير من الصبر وإتقانا عاليا واكتساب مهارات دقيقة
◙ صناعة الغرابيل متعبة وشاقة وتتطلب الكثير من الصبر وإتقانا عاليا واكتساب مهارات دقيقة

وتوجد أنواع عديدة من هذه الآنية المنزلية، على غرار غربال "السقاط" الذي يستعمل في تحضير المحمصة، وهي أكلة تونسية تقليدية تتمثل في حبات من المعجنات دائرية الشكل. وهناك غربال "الشّعر" الذي يتكون من خيوط رفيعة جدا، وغربال "الشعير أو القمح".

وشدد إدريس على رغبته الفعلية في تعليم أبنائه والجيل الأحدث من عائلته الكبيرة هذه المهنة، حفاظا عليها من الاندثار، وحتى تبقى “قائمة جيلا بعد جيل”، لاسيما مع وجود ابن له مولع بهذه الحرفة. وتكون هذه المهنة في أوجها في الفترة الممتدة بين مايو وأكتوبر من كل عام، فيما يخف وهجها مع قدوم فصل الشتاء بسبب طقسه البارد وأمطاره التي لا تساعد في تجفيف الجلود، وهي المادة الأساسية "للغرابيل".

وتتركز هذه الصناعة في 4 مدن تونسية رئيسية وهي مدية رأس الجبل  وصفاقس وسوسة والقيروان. وكانت الغرابيل سابقا توزع في أسواق مخصصة لها بالعاصمة تونس، تضم 60 متجرا، إلا أنها تلاشت مع مرور الزمن. وتتراوح أسعار الغرابيل التي يعدها إدريس بين 25 و35 دينارا (بين 8 و11.4 دولارا أميركيا)، وتصل أحيانا إلى 50 دينارا (16.2 دولارا).

ورغم تطور الأدوات المنزلية، إلا أن عددا كبيرا من العائلات التونسية لا تستغني عن "الغربال". وتعود أصول عائلة إدريس إلى الموريسكيين الذين قدموا إلى تونس وجلبوا معهم عادات وتقاليد وحرفا لا تزال موجودة في تونس إلى يومنا هذا، كصناعة الغربال، وتوزعوا على عدة مدن بينها "رأس الجبل" الساحلية.

ويستخدم مصطلح الموريسكيين للدلالة على المسلمين الذين اختاروا البقاء في الأندلس تحت الحكم المسيحي، بعد سقوط الحكم الإسلامي. وقال إدريس "توزعت عائلتي منذ قدومها من الأندلس في القرن الـ17 على 3 مدن هي رأس الجبل وتونس وصفاقس، لذلك نجد مهنة صناعة الغربال مزدهرة في هذه المناطق".

ووفقا للمراجع التاريخية، تمت هجرة الموريسكيين (الأندلسيين) إلى المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس) على ثلاث مراحل: في القرن الـ13 والقرن الـ15 والقرن الـ17 الميلادي. وبلغ عدد الوافدين منهم على تونس فقط في القرن الـ17 أكثر من 80 ألف مهاجر.

وأغلب الموريسكيين هم من مسلمي شمال أفريقيا، الذين صاحب بعضهم طارق بن زياد عند فتحه لإسبانيا. وعام 1609، أمر فيليب الثالث ملك إسبانيا بعد إعادة سيطرة الإسبان على السلطة، بتهجير كل الموريسكيين الذين لم يعتنقوا المسيحية، فسكنوا شمال أفريقيا.

◙ الغربال التقليدي مهنة الأجداد
◙ الغربال التقليدي حرفة الأجداد 

16