صناعة الحياة وتكريس الموت
غالبا ما يعمل الفن في الجهة المضادة لصناعة التاريخ، فيعمد الفنان إلى اختراق تحصينات التاريخ ويفضح هشاشته ينضو عنه أردية القداسة الزائفة، يفكك مادته ويسمو عليه بابتداع الجمال وتعزيز الحياة بمتع من موسيقى وألوان ومنحوتات ورؤى، فيبقى التاريخ جثة عفنة مبهرجة ببريق الذهب والأكاذيب ومبالغات الرواة والمدونين الرسميين، بينما يختص جسد الفن بشهوة الحياة والرغبات، وينجز تمرده على قداسة التاريخ الفائضة عن حاجة الحياة، هذا ما تفصح عنه فنون دلمون وسومر وأثينا وروما وبابل والمكسيك والهند والصين وهي تبوح بما يحجبه التاريخ من خلجات الإنسان وتوهجاته ورؤاه.
الفن ريح شغف تضيء عتمات الزمن، تنبثق من الجهة الأخرى للحلم، وتفتح للبشر أبواب الدهشة والمتع السامية والمرح البنّاء الذي ينعش ويحفز ويدفع المرء للتنافس والتقدم والإنجاز، ويبقى التاريخ ركاما من أحداث وأسماء غزاة وبرك دم وصرخات، بينما يتجاوز الفن التاريخ لينعش الأمل ويثري المخيلة بالأزاهير والجمال والوعود، محتفيا بالروح والجسد، وهو يقيم مآدب للجمال المهدد ويحفظ ذاكرة الناس..وتجسدات أحلامهم وشطحات أخيلتهم الساحرة.
ولكن بمَ يحتفي التاريخ؟ وماذا يروي لنا في مدوناته وأسفاره؟
إنه يحتفي بالموتى والفاتكين وجغرافيا الألم البشري، يحتفي بالجماجم والسيوف والسم والمكيدة والمسدسات والدبابات والطائرات المقاتلة، يمجد لنا الغزاة المولعين بالدم.. مجانين العظمة والحالمين بإمبراطوريات الظلام.. بينما يقدم لنا الفن الجميل -سواء كان أدبا أو نحتا أو رسما أو موسيقى- قصص أولئك الذين يغيرون حياة البشر ويجملون الأمكنة وينسجون الحلم الإنساني من المفردات والأنغام والألوان فتغتني بإبداعاتهم أزمنة الناس وتتعزز قيم الجموع وتجد في الفن الجميل متنفسا وملاذا وبوابة للأحلام.
ويأتي صنّاع تاريخ الموت من الدكتاتوريين والمتشددين ليدمّروا ما أبدعه عباقرة الفن والأدب بحشد من الجنود المبرمجين للفتك والاغتصاب والنهب، جعلوهم حشودا من آلات صماء موجّهة للتدمير وتحويل الحياة والفن والسلام إلى ألم وحزن وثكل ورماد..
التاريخ ينجب خطاب القوة والغطرسة والقتل، وبالتالي يعلي من شأن ذكورة القاتلين فيعدّهم أبطالا ويمجد أعمالهم ويهمل ما يقاسيه البشر من عنفهم وجبروتهم، بينما يدوّن الفن ما يهمله المؤرخون من فواجع تسبب فيها صناع الألم لجموع النساء على مر العصور..
الفن صنو الحياة وتوأمها الفاتن ورديف الأنوثة الجميل، وبالفن تتقدم الخطى نحو أرض الحلم الإنساني، وبالفن تنسى آلام التاريخ وفواجعه، وعبر مرايا الفن نجد أنفسنا وقد تخففت من الأحزان واليأس ونسيت أو تناست ما سببه صناع التاريخ من جراح وندوب في أرواح البشر..
“الفن يشتهي الحياة” هذا ما قاله نيتشه، الذي اعترف في لحظة التباس “الحياة امرأة”، لم يقلها في سياق تمجيد الأنوثة بل في باب ذم النساء، لكننا لو ربطنا بين المقولتين نجد أن الفن كثير الاعتداد بالأنوثة لأنها التجلي الفعلي لجمال الحياة وديمومتها، المرأة مجاز نيتشوي للفن والحياة، ومن يكره الفن فسيكره النساء واهبات الحياة، وعابدو التاريخ المتلبثون في رداء الأسلاف لا متسع في عقولهم لحب الفن وعشق الجمال واحترام الأنوثة.. فتترافق عندهم كراهية الفن والإبداع مع ذكورية عنيفة متشددة تجهر باحتقار النساء..
أما المجتمعات التي تتذوق الموسيقى وتنصت وتتأمل، والشعوب التي تتمتع بالفنون الجميلة وتتلقى نتاج الإبداع كجزء من تفاصيل الحياة اليومية وأساسياتها، وتتربّى على أهمية الفن في صقل الشخصية وتنمية ذائقتها الجمالية، فإنها تميل إلى السلام وتحتفي بالجمال وتعاف العنف وتحترم الأنوثة، وكلما حرم الناس من التمتع بالفنون، قست قلوبهم وضمرت أرواحهم وخشنت طباعهم وصاروا أكثر ميلا إلى العنف وإشعال الحروب واضطهاد النساء.
كاتبة من العراق تقيم في عمان