صناعة الأحذية في مصر القديمة اكتسبت أبعادا رمزية وطبقية

القاهرة – اكتسبت الأحذية بعدا رمزيا في الحياة اليومية للمجتمعات العربية، فهي من بين الأشياء التي يمكن أن تحيلنا على مكانة الشخص الاجتماعية ووضعيته المادية وذوقه ومواكبته للموضة ومستجداتها من عدمها.
فصناعة الأحذية اليوم وصلت إلى درجة متقدمة من حيث التنوع والتجدد وارتباطها بالفصول وبالمناسبات وغيرها من المعايير. إلا أن الأبعاد الرمزية للحذاء ليست وليدة اليوم بل تعود لقرون، ففي الحضارات القديمة كانت لكل فئة من المجتمع نوعية خاصة بها من الأحذية، بدءا من الخف والصنادل الخشبية والصنادل الفرعونية وصولا إلى الأحذية المصنوعة من جلود الحيوانات.
محطات تاريخية كثيرة مرت بها صناعة الأحذية أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم من تطور وتنوع لا حصر له، ولكن هذا التطور لا يمكن أن يحجب القيمة التاريخية والثقافية لهذه الصناعة، وإلى اليوم مازال المواطن العربي يقبل على اقتناء وارتداء الأحذية التي تصنع بالطرق التقليدية وبمواد طبيعية مثل الأحذية الجلدية.
كما يحتفي المصريون اليوم بإبداع أجدادهم الفراعنة في صنع الأحذية من خلال تنظيم معرض بالمتحف المصري وسط القاهرة، حيث تقدم الأحذية بتنوعها وتطور صناعتها جانبا من الحياة الاجتماعية “الطبقية” والدينية في مصر الفرعونية.
وحمل المعرض الذي يتواصل حتى موفى الشهر الجاري اسم “خطوات عبر الزمن.. الأحذية في مصر القديمة”، حيث يمكن للزائر أن يكتشف تاريخ الأحذية عند قدماء المصريين عبر الاطلاع على ما دُوّن من معلومات على البطاقات التعريفية المرافقة لكل حذاء. ليكتشف أن التصور بأن أسلافنا في القرون الماضية كانوا حفاة ولم يعرفوا انتعال الأحذية هو تصور خاطئ، حيث ضم المعرض أحذية يعود تاريخها لأكثر من 5000 سنة. ويعرض تشكيلة من 47 قطعة تتنوع بين مختلف أشكال الصنادل والأحذية المصرية القديمة.
وكانت الأحذية في تلك الفترات المبكرة ذات طبيعة وظيفية وطبقية. فهناك اختلاف بين أحذية العامة وأحذية الجنود وأحذية الأطفال التي “كانت نسخا مصغرة لأحذية الكبار” وأحذية الملوك. وكان ارتداء الحذاء أو الصنادل منتشرا بين كافة طبقات المصريين في مصر القديمة وبين الفلاحين خلال عملهم في الزراعة، لكنها كانت تختلف عن تلك التي يلبسها علية القوم والملوك.
صناعة الأحذية شهدت تطورا في العصر الفرعوني أكسبها بعدا تاريخيا أثر في دراسات العلاقات الاجتماعية في ذلك العصر
أما الآلهة، من خلال بعض الرسوم والتماثيل، فلا ترتدي الأحذية أبدا وعندما يقف الملك أمام الآلهة يكون مرتديا الصندل في الكثير من الأحيان خلافا لغيره من بقية أفراد المجتمع، الأمر الذي يوضح مكانته أمام الآلهة. وهي المكانة التي جعلت أحذية الملوك تختلف عن أحذية الحاشية، فأحذية الملك توت عنخ آمون مثلا تشمل صنادل ذهبية عثر عليها في مقبرته التي اكتشفت في جنوب مصر عام 1922 وصنادل أخرى استخدمت فيها الألياف النباتية.
كما تكشف العديد من الرسوم والتماثيل القديمة هذا الاختلاف في شكل وتصميم الأحذية، حيث حمّل الفراعنة الأحذية دلالات اجتماعية تفرق بين صنادل الملوك وبقية الفئات الاجتماعية ليعلم الناظر لها مكانة الشخص سواء كان من الخدم أو الجنود أو من عامة الناس، وهو ما يظهره تمثال من الحجر الجيري الملون لخادم يحمل حقيبة على كتفه اليسرى وفي يده اليمنى صندل. وهو تمثال اكتشف في منطقة سقارة الأثرية جنوبي القاهرة يرجع إلى الأسرة الخامسة (2494-2345 قبل الميلاد).
وكان أندريه فلاديمير الباحث الزائر بالجامعة الأميركية بالقاهرة أعد مشروعا بحثيا لدراسة الأحذية في مصر القديمة قبل عشر سنوات وجاء هذا المعرض ثمرة له، نظرا لما قدمه البحث من معلومات تاريخية هامة قدمت إضافات نوعية في التعرف على طبيعة العلاقات الاجتماعية في حياة الفراعنة. وزودت القطع المعروضة بلوحات إرشادية عن تاريخها وبدء استخدامها والسياق الاجتماعي أو الديني الخاص بها.
ويقدم المعرض تفاصيل عن وجود أحذية مصنوعة من المعدن والجلود وأخرى مزينة بالخرز أو مغطاة بالذهب وبعضها صنع من الخشب والجلود معا أو من عناصر نباتية أو كرتونية يتم ضغطها لتمنح الصندل نوعا من المتانة وربما يستخدم الكتان في بعض منها، كما وجدت أيضا صنادل خشبية “تم صنعها خصيصا ليستخدمها المتوفى في العالم الآخر”، وفقا لعقيدة المصريين القدماء.
الفراعنة حملوا الأحذية دلالات اجتماعية تفرق بين صنادل الملوك وبقية الفئات الاجتماعية وتشير إلى مكانة الشخص في مجتمعه
ولأن حرفة صناعة الأحذية تعود لأقدم العصور، فقد عرضت نماذج من الأحذية المختلفة بدءا من عصور ما قبل الأسرات أي ما قبل 300 قبل الميلاد وصولا للعصر العثماني (خصوصا خلال القرن 19 ميلادي الذي عرف ازدهار هذا القطاع)، وهو ما يقدم صورة عن تطور هذه الحرفة من خلال اختلاف تصاميم الأحذية والصنادل وتغير المواد الخام المستعملة فيها بين الصنادل الخفيفة التي صنعت من ورق البردي والكتان والنخيل والخوص والقش والتي كانت غالباً ما يرتديها عامة الشعب وبين صنادل الملوك من الجلود الملونة التي ترسم عليها مشاهد من معاركهم وبطولاتهم.
هذا التنوع تم بالتوازي مع تطور التقنيات المستخدمة في صناعة هذه الأحذية وتطور الرمزية المرتبطة بها، والمكانة الاجتماعية التي تقلدها كل واحد ممن كان يلبس هذا الحذاء دون غيره، حيث توجد نماذج للأحذية الخاصة بكل الطبقات الاجتماعية من الملوك والأفراد والجنود والكهنة، وكذلك العديد من القطع الأثرية من مجموعات المتحف المصري المتضمنة لأحذية وصنادل من مقبرة توت عنخ آمون.
وشهدت صناعة الأحذية تطورا في العصر الفرعوني أكسبها بعدا تاريخيا أثر في دراسات العلاقات الاجتماعية في ذلك العصر وكشف تطور استخدام الفراعنة لمواد مختلفة يطوعونها ليفرقوا بين الفئات والطبقات الاجتماعية.
وتواصل تعاطي هذه الحرفة بالطرق التقليدية في مصر كما في بقية الأقطار العربية حتى الوصول إلى صنع الأحذية المغلقة بمواد مختلفة تضمن راحة مرتديها وتحميه من الطبيعة، وهو ما استمر عبر العصر العثماني وصولا إلى تاريخنا المعاصر، حيث مازالت صناعة الأحذية التقليدية تعتمد على مواد طبيعية أهمها الجلد، ومازال المواطن العربي يقبل عليها خاصة في المناسبات والاحتفالات الدينية والاجتماعية.