صراع داخلي وتنافس إقليمي يبقيان الباب مفتوحا أمام صراعات جديدة في كركوك

هشاشة مستقبل المحافظة العراقية ترجع إلى غياب أيّ مشاريع سياسية توافقية بين القوى الفاعلة.
الأربعاء 2024/09/04
كل يغني على ليلاه

سياسة فرض الأمر الواقع التي اتبعتها الحكومة المركزية في العراق دفعت الفرقاء السياسيين ذوي المصالح المتضاربة إلى توافق قسري لانتخاب الحكومة المحلية في محافظة كركوك، لكن بذور الصراعات لا تزال قائمة.

كركوك ( العراق) - يرى محللون أن هشاشة مستقبل محافظة كركوك العراقية ترجع إلى غياب أيّ مشاريع سياسية توافقية بين القوى الفاعلة فيها، وهي قوى قادرة على إنتاج أزمات داخلية جديدة. ورغم مشاركة تلك القوى في الحكومة، إلا أن الخلافات بينها لا تزال قائمة، مما يبقي الباب مفتوحًا على احتمالية اندلاع صراعات جديدة.

ولطالما كانت محافظة كركوك مركزاً لأبرز الصراعات السياسية العراقية منذ عام 2003، ويشكل تنوعها الثقافي والديني والعرقي أساساً لهذا الصراع غالباً، حيث يشعر الفاعلون من مختلف الأطياف السياسية العراقية بأن لهم حصة في هذه الأرض المرغوبة.

وبعد أزمة انسداد سياسي استمرت لأكثر من ثمانية أشهر، بعد الانتخابات البلدية العراقية، اتفق اللاعبون الرئيسيون في المجلس البلدي الجديد أخيرًا على انتخاب محافظ جديد.

ويقول مهند فارس الكاتب والصحافي العراقي في تقرير نشره منتدى فكرة التابع لمعهد واشنطن إنه مع ذلك، وفي حين كان البعض يأمل أن يساهم هذا التعيين في تهدئة التوترات، صعّدت الجماعات الطائفية والعرقية داخل كركوك وحول المنطقة وعملت على تكثيف محاولاتها لفرض نفوذها.

سياق الصراع

الحكومة التركية تطمح بالسيطرة على الحقول، أو الاستفادة من عائدات تصديرها عبر الخط الرابط بين كركوك وميناء جيهان التركي

تقع محافظة كركوك في شمال شرق البلاد، على بعد 298 كيلومترا من العاصمة بغداد، وتتكون من مزيج سكاني متنوع، يضم مختلف أطياف وأقليات الشعب العراقي، إضافة الى وفرة ثرواتها المحلية.

وتعتبر محافظة كركوك من المناطق المتنازع عليها بين حكومتي بغداد وإقليم كردستان، فوفقاً للبند الثاني من المادة رقم 140 في الدستور العراقي، “تنتقل مسؤولية إدارة المحافظة إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بعد إنجاز تطبيع سياسي وإحصائي ينتهي بإجراء استفتاء فيها إضافة إلى بقية المناطق الأخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها”.

وتلجأ حكومة إقليم كردستان إلى هذه المادة لتأكيد مطالبتها بكركوك وحقول النفط الغنية في المحافظة. ومثالاً على ذلك، أجرت حكومة إقليم كردستان استفتاءً على الاستقلال في جميع أنحاء إقليم كردستان العراق وشملت كركوك، رغم اعتراض حكومة بغداد.

وكانت تلك الخطوة الجريئة من جانب حكومة كردستان بمثابة سوء تقدير، حيث أمر رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي القوات العراقية بالاستيلاء على كركوك من سيطرة حكومة إقليم كردستان كإجراء انتقامي، وانسحبت قوات البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان دون إطلاق طلقة واحدة، ومنذ ذلك الحين تولت بغداد الإشراف على شؤون المحافظة ومن ثم، دفعت حكومة إقليم كردستان ثمنًا باهظًا لمحاولة الاستقلال الفاشلة، حيث فقدت أحد أهم مصادر عائدات النفط ومساحة كبيرة من أراضيها.

وفي السنوات التالية، حاولت حكومة إقليم كردستان استعادة كركوك بطرق مختلفة، فوفقًا لمصادر متعددة، عمد مسعود بارزاني – الرئيس السابق لحكومة أربيل – إلى تشكيل تحالف مع مقتدى الصدر بعد الانتخابات البرلمانية في عام 2021 مقابل السيطرة على كركوك. وبعد انسحاب الصدر من العملية السياسية، جرت مفاوضات مماثلة مع الإطار التنسيقي الجديد مقابل دعم محمد شياع السوداني لتولى منصب رئيس الوزراء.

الصراعات الداخلية

هناك قضايا أخرى تثير اهتمام تركيا بكركوك بخلاف التركمان، حيث يلعب النفط دوره في هذه الأزمة

تعد كركوك نموذجاً مصغراً للمجتمع والسياسة العراقية، حيث تضم السنة والشيعة والأكراد والعرب والأقليات مثل التركمان والمسيحيين.

ونتيجة لذلك، فإن جميع الفاعلين السياسيين الرئيسيين في العراق مهتمون بمحافظة كركوك، ولكل منهم آماله وتطلعاته المتضاربة، كما يتمركز كلا الحزبين الكرديين، الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني في المحافظة.

وبشكل عام، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني يرتبط بعلاقات مع الحكومة التركية، بينما يرتبط الاتحاد الوطني الكردستاني ارتباطًا وثيقًا بالإطار التنسيقي الشيعي وإيران.

وأما القوى السُنية، فهي موجودة بمختلف صنوفها، ولكن القاعدة الشعبية تتمحور غالباً بين كيانين رئيسيين متعارضين، وهما حزب تقدم بقيادة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، وحزب السيادة بزعامة خميس الخنجر. كما أسست القوى السياسية الشيعية مكاتب في مختلف مناطق المحافظة، ولها جمهور تشكله غالباً تلك القاعدة المنضوية في الحشد الشعبي أو التركمان الشيعة.

وفي خضم الصراعات، شاركت كركوك في انتخابات مجالس المحافظات أواخر العام الماضي، وهي الانتخابات الثانية فيها منذ عام 2005، فرغم أن العراق شهد ثلاث انتخابات محلية منذ عام 2003، إلا أن الخلافات السياسية العاصفة بين المكونات الرئيسية في كركوك، أعاقت تنظيم أيّ استفتاء أو انتخاب فيها منذ الأيام الأولى لعراق ما بعد صدام. وخلال هذه الفترة، أقرت السلطات المحلية قانون “المداورة السياسية” الذي يسمح بتناوب السلطة السياسية بين مختلف المجموعات العرقية والدينية، ممّا وفّر حلاً مؤقتًا ومتوترًا للأزمة.

وفي 28 ديسمبر 2023، أعلنت المفوضية العليا للانتخابات عن نتائجها النهائية، وقسمت مقاعد المحافظة الـ16 بين الكتل السياسية.

وعلى الرغم من حصول الحزب المرتبط بالاتحاد الوطني الكردستاني على أكبر حصة (5 مقاعد)، إلا أن النتائج لم تكن حاسمة، حيث لم يحصل أيّ حزب حتى على ثلث إجمالي المقاعد. وقد دعا محافظ كركوك بالوكالة، راكان الجبوري، إلى عقد أول جلسات مجلس المحافظة، في 1 فبراير، من أجل اختيار رئيس المجلس والمحافظ وتشكيل الحكومة المحلية. ومع ذلك، فإن الخلافات بين الكُتل الفائزة، حالت دون حسم عملية الانتخاب، وفشلت جميع المساعي من أجل تشكيل حكومة محلية توافقية، إذ يطالب بمنصب المحافظ كل من الكرد والعرب في ما يطمح له التركمان أيضاً.

جميع الفاعليين السياسيين الرئيسيين في العراق مهتمون بمحافظة كركوك، ولكل منهم آماله وتطلعاته المتضاربة

وعلى أمل كسر حالة الجمود، دعا رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى عقد جلسة لمجلس المحافظة في 11 يوليو الماضي، وقال “نهيب بالقوى السياسية المعنية بالتعاون في إتمام تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في الحوارات السياسية واستكمال هذه الحوارات خلال الأيام المقبلة“. ومع ذلك، لم تُسفر الجلسة المنعقدة عن أيّ حلول، وهدد رئيس الوزراء تالياً، بتكليف محافظ من خارج المجلس المنتخب اعتمادا على سلطته وسيطرة تحالفه على الحكومة.

وهذا التهديد دفع الكُتل الفائزة الى التحالف في ما بينها، وتشكيل تحالفات عابرة للعرقية والطائفية. وقسمت أطراف الخلاف إلى محورين، ضم الأول، الحزب الديمقراطي الكردي، برئاسة مسعود بارزاني، والجبهة التركمانية وقوى مدعومة من تحالف السيادة بزعامة خميس الخنجر ومحافظ كركوك بالوكالة، راكان الجبوري. المحور الثاني، حزب الاتحاد الوطني الكردي، برئاسة بافل طالباني، وحركة بابليون المسيحية المنضوية ضمن قوات الحشد الشعبي، وثلاثة أعضاء عرب تابعين لحزب تقدم، الذي يترأسه رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، إضافة إلى قوى في الإطار التنسيقي الشيعي.

وفي 10 أغسطس الحالي تمكنت قوى المحور الثاني، من تشكيل حكومة محلية، معتمد على قاعدة الأغلبية، ورغم انتفاء صفة العدل عن هذه القاعدة نسبة إلى قاعدة التوافق السياسي، ولكنها الإجراء الأكثر شيوعًا في توافقات الائتلافات السياسية العراقية.

وشهدت جلسة الانتخاب حضور رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بافل طالباني، وزعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، ورئيس حزب تقدم محمد الحلبوسي. وصوتت الكتل على تولي عضو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ريبوار طه، منصب المحافظ. وكان طه قد انتخب في جلسة مثيرة للجدل، غاب عنها ممثلو المكون التركماني ونصف القوى العربية إضافة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني.

ولعب الحلبوسي دوراً بارزاً في منح منصب المحافظ لحزب الاتحاد الكردستاني، بعد أن منح أصوات ثلاثة مقاعد يمتلكها حزبه لصالح هذا الترشيح، وهو ما يندرج ضمن رده على مساعي خصمه خميس الخنجر للتواصل مع الحزب الديمقراطي في أربيل.

ويتهمه خصومه بالإخلال بتوازن العملية السياسية في كركوك بسبب حركته السياسية الأخيرة، ولكن مساعيه للعودة إلى رئاسة البرلمان تسيطر على جميع مفاوضاته الحالية. وكان الحلبوسي قد أقصي من رئاسة البرلمان في 14 نوفمبر عام 2023 بعد قرار من المحكمة العليا واتهامه بالتزوير، ويُصر منذ ذلك الحين على أحقية حزبه بمنصب رئاسة البرلمان. وبذلك فقد اشترط الحلبوسى تقديم دعمه لفوز ريبوار طه، مقابل الحصول على دعم حلفائه الجديد لعودة حزبه إلى رئاسة البرلمان.

وردا على ذلك، رفعت المجموعات التي لم تحضر دعوى قضائية ضد العملية الانتخابية التي جرت في فندق الرشيد، بسبب كسر قاعدة التوافق وعدم حضورهم للجلسة، ولكن المحكمة الاتحادية ردت الدعوى المرفوعة بسبب عدم مخالفة التصويت للضوابط القانونية، وتالياً انتفاء الحاجة لإصدار أمر ولائي من المحكمة الاتحادية ضد إجراءات تشكيل الحكومة الجديدة. وجدير بالذكر أن قاعدة التوافق، هي سلوك سياسي تلجأ له القوى السياسية عند الاستعصاء السياسي وعجزها عن حل أزماتها أو حصولها على غالبية الأصوات في حالات الترشيح.

وفي يومه الأول كمحافظ لكركوك دعا ريبوار طه القوى السياسية المعارضة للنتائج إلى الحوار، وقال في مؤتمر صحفي، “أدعو القوى السياسية المعترضة إلى الحوار لنجعل من كركوك نموذجاً للإعمار والتعايش السلمي”.

وعلاوة على ذلك، عبرت القوى السياسية خارج ائتلاف الاتحاد الوطني الكردستاني والحلبوسي والشيعة عن رفضها لعملية انتخاب المحافظ الجديد، واعتصمت عن المشاركة في جلسات المجلس، رغم محاولات التوفيق بينهما، وتقديم وعود بالعمل وفق مبدأ تدوير المناصب بين مكونات المحافظة لمدة سنتين، كأن يتسلم الكرد منصب المحافظ لسنتين ويليهم العرب ثم التركمان وهكذا، إلا أن جميع هذه المعطيات فشلت.

الصراع الإقليمي

الحزب الديمقراطي الكردستاني يرتبط بعلاقات مع الحكومة التركية، بينما يرتبط الاتحاد الوطني الكردستاني ارتباطًا وثيقًا بالإطار التنسيقي الشيعي وإيران

رغم أن الخلاف السياسي في كركوك يبدو محلياً بطبيعته، إلا أن القوى الإقليمية قد أبدت اهتماماً أيضاً بمجلس المحافظة. الأزمة التي تشهدها محافظة كركوك هي امتدادٌ للتنافس الإقليمي بين تركيا وإيران على المنطقة، وتحاول كلاهما الوصول إلى وضع سياسي يخدم طموحاتهما فيها.

وتصور تركيا نفسها على أنها راعية وحامية للتركمان العراقيين، وهم مجتمع عرقي ولغوي تركي ويشغل هذا الخطاب حيزا كبيرا في خطابها السياسي الموجه إلى العراق. وبخلاف طهران، تركز جهود أنقرة بشكل رئيسي على شمال العراق، الذي تراه امتدادًا للدولة التركية، وتحديدًا لأنها ترى كركوك مدينة تركمانية.

وعقب استفتاء انفصال إقليم كردستان عن العراق صرح زعيم الحركة القومية التركية دولت بهجلي أن الموصل وكركوك لنا، وسبق أن صرح بذلك، رئيس تركيا الأسبق، تورغوت أوزال في عام 1993، كما حذر الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان من التدخل في تغيير التركيبة الديمغرافية للمدينة، مشيراً إلى كونها مدينة التركمان.

وهناك قضايا أخرى تثير اهتمام تركيا بكركوك بخلاف التركمان، حيث يلعب النفط دوره في هذه الأزمة، إذ تضم كركوك، حقل بابا كركر، وهو أول حقل مكتشف في العراق منذ عام 1927، وثاني أكبر حقول العالم، إضافة إلى 5 حقول عملاقة أخرى، يقدر احتياطيّها بحوالي 13 مليار برميل، ينتج منه 400 ألف برميل يومياً.

وتطمح الحكومة التركية بالسيطرة على هذه الحقول، أو الاستفادة من عائدات تصديرها عبر الخط الرابط بين كركوك وميناء جيهان التركي. وكانت الحكومة المركزية قد خولت حكومة الإقليم باستخراج النفط من هذه الحقول وتصديره، مقابل دفع العائدات المترتبة عن بيعه إلى بغداد، ولم تلتزم أربيل بذلك بحسب المزاعم.

وتوجهت بغداد بعد ذلك إلى أنقرة من أجل وقف تصدير الخام العراقي عبر ميناء جيهان، ولكن الأخيرة تجاهلت هذه الطلبات أيضاً. ونتيجة لذلك رفع العراق دعوى قضائية في محكمة باريس التجارية في مارس عام 2014، ضد الحكومة التركية بسبب تصديرها لنفط العراق بناءً على تفاهمات أحادية الجانب مع حكومة الإقليم، وخسرت تركيا هذه القضية وألزمت بدفع تعويضات إلى العراق، تقدر بحوالي 1.4 مليار دولار إلى حكومة بغداد.

وكانت حقول النفط التي تضمّها كركوك محل أطماع الجانب الإيراني أيضاً، وعبّرت عن ذلك بوضوح، بعد استهدافها لأربيل وقصفها لمنزل الرئيس التنفيذي لمجموعة كار للطاقة، باز كريم البرزنجي، بعد شهر واحد من مشاركته في اجتماعات رئيس إقليم كردستان مع الرئيس التركي في أنقرة. إضافة الى رغبتها في استثمار خط أنابيب كركوك المتجهة إلى ميناء بانياس السوري.

ويوضح موقع كركوك الاستراتيجي، ودخوله ضمن مشروع خط الغاز الإيراني السوري، جانب آخر من رغبة طهران في السيطرة على المنطقة، ودفعها ذلك إلى ترسيخ سيطرة الفصائل المسلحة عليها، خاصة في أعقاب العملية العسكرية التي شهدتها المدينة بعد طرد قوات البيشمركة منها في عام 2017، ودعمت نحو تشكيل فصائل مسلحة متنوعة الأطياف موالية لسياستها، وآخرها تشكيل حشد كردي داخل المحافظة، إضافة إلى الحشد التركماني الذي كسبته ضد خصمها تركيا.

وكجزء من تنافسها اتهمت أنقرة طهران بدعم حزب العمال الكردستاني، كما تعتقد أن الصعود الأخير لحلفاء إيران مثل الاتحاد الوطني الكردستاني وعصائب أهل الحق في حكومة كركوك المحلية ما هو إلا بداية لتحويل هذه المنطقة إلى معقل محتمل لحزب العمال الكردستاني الذي يعارض الحكومة التركية. كما أن تدخل إيران في كركوك يرجع أيضاً إلى رغبتها في تأمين الطريق البري الممتد من إيران إلى سوريا عبر كركوك وكذلك مناطق تلعفر وسنجار في محافظة نينوى.

6