صراع الأجيال: بحث عن نقطة توازن في عالم متحول

مشكلة صراع الأجيال في المجتمعات العربية تتجلى في أوضح صورها في وجهات النظر السياسية، التي تعكس إلى حد بعيد أحد أبرز أسباب الفوضى في هذه المجتمعات.
الجمعة 2018/05/18
لغة تعبير مختلفة

القاهرة- كشفت الأحداث المتعاقبة التي عصفت بالعالم العربي في العقد الأخير عن فجوة لم تكن ملموسة بقوة بين جيلين: جيل مسيّس، يرى دائما الماضي جميلا، بانتشاراته ونكساته، وفنونه وقصصه؛ عاصر أهم الأحداث في المنطقة، حروب الاستقلال والنكبة والنكسة، وصعود القومية والتيارات اليسارية والإسلامية، وآخر شاب مفعم بالتمرد والرغبة في التغير، نشأ على مشهد سياسي عربي مثقل بالصراعات والهزائم والأزمات الاجتماعية، لا علاقة له بالسياسة بقدر ما يواكب أحدث التطورات التكنولوجية؛ يعيش في مجتمعات تحسب على العالم الثالث ويتابع آخر ما يصدر عن العالم المتقدم وما يحدث فيه. وفي خضم هذا الواقع المتغير، يحاول كل جيل فرض رؤيته على الآخر، دون محاولة البحث عن نقطة توازن والتقاء ما يخلق تناقضا يتحول إلى صراع.

ثورة رقمية

على مدى سنوات، ظلت الفجوة بين الأجيال تتسع في صمت، إلى أن ساهمت في انفجارها الثورة الرقمية وما تحقق من تقدم هائل في وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي. وساعدت الإنترنت على إيصال أصوات لم تكن تصل من قبل أو كان من السهل وأدها دون أن يثير الأمر ضجة، لكنها في نفس الوقت كرست لمشهد التصادم بين الحديث والتقليدي في طريقة تناول مختلف القضايا.

وتجلت مشكلة صراع الأجيال في المجتمعات العربية في أوضح صورها في وجهات النظر السياسية، التي تعكس إلى حد بعيد أحد أبرز أسباب الفوضى في هذه المجتمعات، من الوضع السياسي وصولا إلى التطرّف.

تبرز الهوة بين الأجيال من خلال التعامل مع العديد من الملفات، ولا فرق هنا بين شباب في مركز صنع القرار أو من بقية المجتمع، حيث يفكر كلاهما بذات التوجه تقريبا، وفي اتجاه قد يصطدم برؤى الجيل الأكبر سنا المختلفة.

فجوة زمنية

الأمير محمد بن سلمان: الرؤية الوطنية لن تتحقق سوى من خلال الشباب السعودي
الأمير محمد بن سلمان: الرؤية الوطنية لن تتحقق سوى من خلال الشباب السعودي

تربى جيل “الكبار” على إذاعة صوت العرب والشعارات القومية وكاريزما قادة الاستقلال ونشأ في دول خطوة كانت تخطوها في عملية بناء الدولة الحديثة بعيدا عن الاستعمار تعد إنجازا في ذلك الوقت. لذلك، يميل هذا الجيل إلى تأييد الاستقرار والأنظمة القائمة.

في المقابل، نشأ الجيل الشاب وسط بيئة صعبة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. وتفصل بينه وبين ذلك الزمن “الجميل” سنوات طويلة تغيرت فيها كثيرا معالم المنطقة وسياساتها وخبا صوت شعارات اليساريين والقوميين وشباب حركة الطليعة، وتداخلت الأجندات والسياسات.

وتتوضح تفاصيل هذا الخلاف في حوار دار بين أحد الشباب في الثامنة والعشرين من عمره، وجدته وهي في منتصف عقدها الثامن، دافع كل منهما عن وجهة نظره بأدلة منطقية. تلخصت وجهة نظر جيل كبار السن، في حديث الجدة، التي رأت أن أي رئيس دولة، مهما كانت توجهاته وخلفيته، لا بد أن يسعى إلى خير البلاد وصالحها، إن لم يكن بدافع الوطنية فبدافع من رغبته في ترك سيرة طيبة يذكرها له التاريخ.

وتقوم وجهة نظر جيل الكبار في الأساس على المقارنة بين الأوضاع في الوقت الحالي وأوضاع العقود الماضية، فالجدة تحكم الحاضر بمنطق ما عاشته وهي طفلة في إحدى قرى محافظة الغربية (شمال القاهرة)، قبل قيام ثورة 1952. كان أهل القرية من الفلاحين، كحال جميع قرى مصر في ذلك الوقت، يعانون ظلم الحكام، فالفلاح كان يزرع أرضه قمحا، ثم يجبر على توريد المحصول بالكامل إلى الحكومة دون أن يتبقى له ما يكفي طعامه.

عانى الفلاحون من نقص شديد في السيولة النقدية وضعف مقومات المعيشة من بنية تحتية، في حين أن عامة الشعب يضطرون إلى تعبئة احتياجاتهم من المياه في جرار من الفخار ويسيرون بها مسافات طويلة، فضلا عن أن مظاهر الحياة المتحضرة كمرافق الكهرباء والمواصلات كانت تعد من الأحلام بعيدة المنال بالنسبة لهم في ذلك الوقت.

وتذكر الجدة أول مرة شاهد أهل قريتها أحد الأشخاص يركب دراجة، وكيف أثارت انبهار الجميع الذين راحوا يصيحون أمامها ويدعون بعضهم البعض لمشاهدة هذه الأعجوبة التي أطلقوا عليها “الحمار الحديدي”، فحتى خيالهم لم يسعفهم لإدراك أن هناك ما يمكنه امتطاءه سوى الدواب المعروفة.

وكان من الطبيعي للجدة وغيرها من كبار السن، أن يدينوا بالولاء التام والعرفان بالفضل للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي شهدوا في عصره طفرة نوعية. هكذا رأت الجدة في كل خطوة تنمية يخطوها أي رئيس مصري على مدار السبعين عاما الماضية إنجازا عظيما يستحق العرفان، لا مهاجمته إن اتخذ قرارات قد يراها البعض غير صائبة.

وفي المقابل، تقوم وجهة نظر الشباب على مقارنة وضع بلاده الحالي بحال دول أخرى أصبحت في مقدمة دول العالم، رغم ضعف مواردها الطبيعية، مقارنة بما لدى مصر من إمكانات. مثال ذلك اليابان التي حققت إنجازا بكل المقاييس حين استطاعت تحقيق معدل نمو قياسي في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.

المفارقة التي دعمت رأي الشباب في هذا الصدد أن دولة مثل اليابان بدأت رحلتها نحو تحقيق التنمية الشاملة تقريبا في نفس الفترة التي بدأت مصر فيها التحرر من الاستعمار والتخلص من الآثار السلبية لنظام الملكية.

لا يستوعب الشباب كيف أن مصر التي تتفوق على اليابان في الموارد الطبيعية، وعاشت فترة من الضعف تخلص منها البلدان تقريبا في نفس التوقيت، مازالت تصارع أمواج الأزمات الاقتصادية، في حين أصبحت اليابان اليوم “معجزة” اقتصادية وتقنية ودولة متقدمة من أعلى طراز. ولا يجد الشباب هنا إجابة إلا إلقاء اللوم على الأنظمة الحاكمة.

الربيع العربي

وجود شخصية شابة في مركز صناعة القرار
وجود شخصية شابة في مركز صناعة القرار

يبرهن نموذج الربيع العربي على وجود هذا الخلاف بين وجهات نظر الأجيال، فقد كان لفئة الشباب، المرتبطة بشكل دائم بوسائل التواصل الاجتماعي، دور رئيسي في حالة الحراك الذي شهدته مجتمعات عربية، يعيش شبابها إحباطا نتيجة البطالة وضيق الأفق. في حين رأى جيل الآباء والأجداد الحل في الصبر ومنح الأنظمة فرصا أخرى.

وحتى بعد تغيير الأنظمة في دول الربيع العربي، بقيت الأحزاب السياسية، وما بها من نخب تقليدية في فكرها وسياسة وتواصلا، وتجاوز معظمها سن الشباب، عاجزة عن الوفاء بمتطلبات الفئات الشابة وتحقيق طموحاتها الكبيرة في مستقبل أفضل.

ولم يكن أمام قادة الأحزاب سوى الطرق التقليدية المتبعة للمطالبة بالحقوق والحريات، ولم يجد الشباب في تلك الأحزاب الوسيلة المثلى للتعبير عن رأيه، على الرغم من أنه كان يجدر بها أن تحتضنه وتعطيه الأمل في التغيير، فما يمكن للسياسيين فعله لم يكن بنفس سرعة قطار طموحات الشباب.

واستفادت بعض الجماعات الإرهابية من حماس الشباب العربي ويأسه من الثورات السلمية والحلول السياسية، لتحقيق مصالحها بدعم من بعض دول المنطقة، ساعد على ذلك قيام بعض الأنظمة بمواجهة الحراك السلمي للشباب بالعنف المسلح، ما أكد للشباب أن السلمية شأنها شأن الأحزاب لن تسعف الموقف، وهكذا وجد الشباب، في سوريا مثلا، نفسه بين شقي الرحى، أحزاب سياسية عاطلة من جهة ونظام يقمع سلميته من جهة أخرى.

الخلاف الظاهر حول الحريات والطموحات أدى أحيانا إلى انكماش فئة كبيرة من الشباب، وتفضيل الابتعاد عن السياسة، ولم يستجيبوا لكل محاولات التوظيف السياسي التي تبنتها بعض الحكومات، للإيحاء أنها ترعى الشباب.

مقتضيات العصر

شكلت مصر بعد ثورة 25 يناير عام 2011، مثالا للخلاف السياسي بين الشباب والأجيال الأكبر بوجه عام، وقد فشلت الحكومة في استقطاب الشباب. في المقابل، هناك تجارب أخرى مختلفة، الصدام فيها ليس بين الشباب والسياسيين، بل يقف الشباب في صف السياسي ويدعمه، وهنا يبرز المثال الأكبر في ما يحدث من تغييرات في المملكة العربية السعودية، بقيادة ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان.

جاء هذا التغيير كنتيجة طبيعية لوجود شخصية شابة في مركز صناعة القرار، تفكر بنفس طريقة تفكير فئة تمثل أكثر من نصف التركيبة السكانية وتتحدث بلغتها وتتواصل معها بشكل مباشر، ما جعلها حلقة الوصل بين تطلعات جيل الشباب وبين جيل الساسة من ذوي الخبرة.

من خلال النموذج السعودي، وأيضا نماذج أخرى على غرار دولة الإمارات العربية المتحدة، يمكن أن يتحول الخلاف بين الأجيال إلى داعم للتقدم والتنمية.  ومن خلال رفد الهوة بينهما يمكن أن يتحول ذلك التباين إلى نقطة توازن بين فريق قانع بما بين يديه ينظر إلى الحاضر بإيجابية، وفريق آخر ناقم على الحاضر يسعى إلى تطويره إلى الأفضل، ويتطلع إلى من سبقوه إلى الرقي الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.

ولا شك في أن هذا الخلاف سيكون في مصلحة المجتمعات العربية إذا أحسنت التعامل معه وإذا حاكى التباين الجيلي تقنية عمل المحرك الكهربي الذي يخلق من التنافر بين قطبيه الموجب والسالب حركة دائمة تدفع الأجسام للأمام وتدور ماكينات المصانع للخروج بالمنتج المطلوب.

6