صراع أميركي صيني نحو الزعامة في مجال التكنولوجيا الذكية

بينما تعمل الصين جاهدة على تحقيق حلمها لتزعّم العالم تقنيا بحلول عام 2025، تجنّد الولايات المتحدة إمكانياتها العلمية والاقتصادية والتجارية وحتى السياسية لعرقلة التقدم الصيني الذي يهدّد بحسب دراسات أوروبية وأميركية مستقبل الديمقراطية.
واشنطن – لم يعد الذكاء الاصطناعي قضية اقتصادية فقط، ولا هو مجرّد روبوت يخدمك في منزلك أو يراجع جدول الضرب مع أطفالك، إنه الآن أداة سيطرة. لذلك ليس صدفة أن يشهد العملاقان المتنافسان، الولايات المتحدة والصين، حالة من التدافع والصراع لتحقيق الهيمنة في هذا مجال لما له من انعكاسات وتداعيات كبيرة على المستقبل، خاصة في مجال الهندسة الحيوية وإدارة البيانات العملاقة وتطوير الصناعات الحربية.
وتتقدم الولايات المتحدة على الصين وسائر منافسيها في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخدامها، فيما تسجل الصين نموا متسارعا في مقابل تأخر واضح للاتحاد الأوروبي، على ما أظهرت دراسة نُشرت نتائجها مؤخرا.
وقيّمت الدراسة التي أجرتها مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، الذكاء الاصطناعي بالاعتماد على 30 مقياسا منفصلا، تشمل المواهب البشرية والنشاط البحثي والتطوير التجاري والاستثمار في الأجهزة والبرامج.
وأظهر التقرير الذي استند إلى بيانات عام 2020 أن الولايات المتحدة تتصدر القائمة، تليها الصين ثم الاتحاد الأوروبي.
وخلص الباحثون إلى أن الولايات المتحدة رائدة في مجالات رئيسية بينها الاستثمار في الشركات الناشئة وتمويل البحث والتطوير.
لكن الصين خطت خطوات كبيرة في مجالات عدّة. وفي العام الماضي كان البلد الآسيوي العملاق يضم 214 جهازا من أصل أقوى 500 كمبيوتر خارق في العالم، في مقابل 113 جهازا بالولايات المتحدة و91 في الاتحاد الأوروبي.
ويسجل التاريخ عودة الصين بعد قرون من الانطواء على نفسها. فهي ترغب اليوم في الهيمنة، وتهدف إلى إعادة إحياء طريق الحرير، الذي يعتبره مؤلفا كتاب “هل سيقتل الذكاء الاصطناعي الديمقراطية؟”، تهديدا للديمقراطية.
ويريان أن “استراتيجية الرئيس الصيني شي جين بينغ واضحة؛ هي استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مزدوج، من أجل ضبط المواطنين داخليا والتحوّل إلى القوة الأولى بالعالم في نفس الوقت”.
ويؤكد الكتاب أن “أجندة الصين للعام 2025 تهدف إلى إنتاج أبطال تقنيين في مجال الذكاء الاصطناع، وفي استخراج البيانات والمعالجات الدقيقة الجديدة”.
ويشير المؤلفان إلى أن الصين أصبحت رائدة في البحث والتطوير العلمي وتسجل حاليا براءات اختراع أكثر من الولايات المتحدة. وتعبّر فايننشال تايمز ونيويورك تايمز وفورينغ أفيرز، عن قلقها من التقدم الصيني في الذكاء الاصطناعي المطبّق في الميدان المالي والذي يهدد المؤسسات المالية الغربية، بحسب نفس الكتاب، لمؤلفيه، لورنت ألكسندر وجان فرنسوا.
ويقول المؤلفان إن أوروبا اتبعت الطريق المعاكس للصين. الحضارة المسيطرة لفترة طويلة والتي انفجرت هيمنتها في العصر الصناعي، تبدو الآن أكثر هشاشة لمقاربة القرن الجديد.
ومع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض يتطلع الجميع إلى الخطوات التي ستتبناها الإدارة الجديدة لمواجهة الطموح الصيني. في الوقت الحالي، تتمثل أكثر القضايا المطروحة إلحاحا على طاولة الرئيس الجديد في مكافحة جائحة فايروس كورونا، وتوفير الإعانة المالية للأميركيين، والتراجع عن سلسلة من القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب بشأن تغيّر المناخ والعلاقات الدولية والهجرة.
الذكاء الاصطناعي، كما تقول كارين هاو، من “أم.آي.تي تكنولوجي ريفيو”، لم يصل بعد إلى رأس قائمة الاهتمامات. إلا أن بايدن أعطى عدة إشارات بالفعل حول الكيفية التي قد تفكر بها إدارته في التكنولوجيا وكيف ستتعامل معها مستقبلا.
أولا، تقول هاو، قام بايدن بترقية مدير مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا (OSTP) إلى منصب وزاري، وعين عالِم الوراثة الأعلى إريك لاندر، المدير المؤسس لمعهد، “أم.أي.تي هارفارد برود”، لهذا المنصب.
إدارة بايدن تواصل النهج الذي ورثته عن ترامب في فرض حظر على عمالقة التكنولوجيا في الصين
ويقدم المكتب المشورة للرئيس بشأن قضايا العلوم والتكنولوجيا ويوجه سياسات الحكومة ويقترح الميزانية الضرورية لذلك.
وتؤكد هاو أن ترامب اكتفى بالتعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة جيوسياسية وعمل على الاستثمار في تطويرها للأغراض العسكرية وللتنافس مع الصين، بينما يرى فيها بايدن إضافة إلى ذلك أداة للتقدم العلمي.
وتوقعت كارين هاو توجيه المزيد من الأموال لإجراء أبحاث الذكاء الاصطناعي بعيدا عن تكنولوجيا الدفاع، فضلا عن المزيد من التنسيق بين الوكالات الحكومية لقياس ووضع المعايير الفنية لتقدم الذكاء الاصطناعي.
الأمر الثاني الذي أشارت إليه هو قيام بايدن بتعيين عالمة اجتماع بارزة في منصب نائب مدير مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا، هي ألوندرا نيلسون، الأستاذة في معهد الدراسات المتقدمة، للتأثيرات الاجتماعية للتكنولوجيا الجديدة، مثل التعديل الجيني والذكاء الاصطناعي.
ورأت هاو في تعيين نيلسون إشارة إلى أن “إدارة بايدن تدرك أن سياسة العلوم والتكنولوجيا الفعالة يجب أن تأخذ في الاعتبار تأثيرات التقدم العلمي الاجتماعية على مستقبل الحياة”.
وركزت على ما قالته نيلسون في ملاحظاتها عند استلام المنصب، “عندما نقدم مدخلات للخوارزمية، وعندما نبرمج الجهاز، وعندما نصمم ونختبر ونبحث؛ نحن نتخذ خيارات بشرية، وهي خيارات ستؤثر على مجتمعاتنا بطرق جديدة وعميقة”.
واعتبرت أن “تعيينها سيدفع مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا إلى التركيز على مسؤولية التكنولوجيا، وخاصة ما كان منها وثيق الصلة بقضايا الذكاء الاصطناعي، مثل التعرف على الوجه، والتحيز الخوارزمي، وخصوصية البيانات، وتأثير الشركات على البحث، وعدد لا يحصى من القضايا الأخرى”.
آخر الدلالات ما قاله وزير خارجية بايدن الجديد أن “التكنولوجيا ستظل قوة جيوسياسية مهمة”. وذلك خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ، حيث أشار أنتوني بلينكن إلى أن هناك “انقساما متزايدا بين الديمقراطيات التقنية والأنظمة الاستبدادية التقنية. فأيّ من الطريقين نختار هو ما سيؤثر مستقبلا على شكل المجتمعات لعقود قادمة”.
ويعتبر حديث بلينكن إشارة واضحة إلى الصين، وإلى السباق الذي نشهده بينها وبين الولايات المتحدة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس من الاتصالات.
ويذكّر حديث بلينكن بما قاله وزير دفاع ترامب، مارك إسبر، في مداخلته خلال مؤتمر للذكاء الاصطناعي في واشنطن، أن السباق التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين سيحدد لأيّ من الطرفين يكون المستقبل؛ “للاستبداد العالمي أم للديمقراطية العالمية”.
وتؤكد كارين هاو أن تعليقات بلينكن تشير إلى أن إدارة بايدن “قد تواصل النهج الذي ورثته عن إدارة ترامب”. وهذا يعني “أنها قد تستمر في وضع قيود على تصدير تقنيات الذكاء الاصطناعي الحساسة وفرض حظر على عمالقة التكنولوجيا الصينيين لمنعهم من إجراء صفقات تجارية مع مؤسسات وجِهات أميركية”.
وما يخيف الولايات المتحدة اليوم هو السبق الذي حققته الصين على حسابها لتصبح أكبر دولة تتلقى الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي ازدادت بنسبة 4 في المئة لتصل إلى 163 مليار دولار خلال عام 2020.
وعلى النقيض، انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتدفق على الولايات المتحدة بنسبة 49 في المئة على أساس سنوي، حسبما ذكره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في تقريره.
مثل هذه المستويات المنخفضة لم يتمّ تسجيلها منذ التسعينات، ومن المتوقع أن تستمر خلال العام الجاري في ظل الغموض حول تأثيرات جائحة كورونا.
واحتلت الصين المرتبة الأولى، التي شغلتها الولايات المتحدة لعقود، إلى جانب كونها الاقتصاد الكبير الوحيد الذي سجل نموا اقتصاديا عام 2020، ما يظهر الوضع القوي لثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ويقول دانيال كاسترو، مدير مركز تكنولوجيا المعلومات والابتكار، إن “الحكومة الصينية جعلت الذكاء الاصطناعي أولوية قصوى وهذا ما تظهره النتائج”.
ويضيف “على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الانتباه إلى ما تفعله الصين والتفاعل معه، لأن الدول التي تقود تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي ستصوغ المستقبل، في حين أن الدول التي تتخلف عن الركب تجازف بفقدان قدرتها التنافسية في الصناعات الرئيسية”.
وبيّن تقرير مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار أن الصين نشرت 24929 عملا بحثيا عن الذكاء الاصطناعي في 2018، وهو آخر عام توافرت فيه البيانات، في مقابل 20418 في الاتحاد الأوروبي و16233 في الولايات المتحدة.
وحسب التقرير، يتعين على أوروبا في حال أرادت الحفاظ على قدرتها التنافسية، أن تعزز الحوافز الضريبية للأبحاث، وتوسّع معاهد البحوث العامة التي تعمل على الذكاء الاصطناعي.
ولكي تحافظ الولايات المتحدة على ريادتها، يجب عليها، تعزيز دعم أبحاث الذكاء الاصطناعي ونشرها، وتكثيف الجهود لتطوير مواهب الذكاء الاصطناعي محليا مع جذب أفضل المواهب من سائر أنحاء العالم.