صدى السنين الحاكي

لن يتمكن المرء من الصعود إلى الطائرة من غير تذكرة سفر. والماضي لن يكون موجودا من غير ذكريات فهي أشبه بالتذاكر التي تتيح لنا اختراق الزمن وصولا إلى النقطة التي كنا نردد فيها يوم كنا أطفالا "الذكرى جرس يقرع في وادي النسيان". جملة هي عنوان موضوع في درس الإنشاء. ولم نكن نهتدي على الخرائط المدرسية إلى المكان الذي يقع فيه وادي النسيان ولم يكن في إمكاننا أيضا أن نعرف المادة التي صنع منها ذلك الجرس. حتى إذا سمعنا عنترة بن شداد وهو يقول "ولقد ذكرتك والرماح نواهل/ مني وبيض الهند تقطر من دمي" فعرفنا أن الذكرى ترافقنا ولا تتخلى عنا في أصعب المواقف.
غير أن هناك مَن يلجأ إلى حيلة، يحلم من خلالها أن يتخلص من ذكرياته منحازا إلى رغبته في الاستمرار في العيش. وهو ما يحدث للعشاق المهجورين. ذلك ما عبّرت عنه أم كلثوم بقولها “وقلت أعيش من غير ذكرى تخلي قلبي يحن إليك/ ما فضلش عندي ولا فكرة غير أني أنسى أفكر فيك”، غير أن الهروب من الذكريات قد يؤدي إلى نتائج عكسية. وهو ما تؤكده أم كلثوم نفسها حين تقول “كيف أنسى ذكرياتي وهي في قلبي حنين/ كيف أنسى ذكرياتي وهي في سمعي رنين”، غير أن أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الإنسان أن يتحول إلى جوقة ذكريات تمشي على قدمين.
ولأن “الذكريات صدى السنين الحاكي” فإن أحمد شوقي يصوغ منها أحلى قلائده حين يقول “وتعطلت لغة الكلام وخاطبت/ قلبي بأحلى قبلة شفتاك” ولكن ما الذي نطلبه أو نحتاجه من الذكريات التي نغمض عيوننا عنها؟
يقول عبدالحليم حافظ "رجعتني الذكريات/ للي فات/ من حكاية الحكايات" ثم يضيف "فكرتني بالطفولة واللي كان وقت الطفولة/ وافتكرت سنين بعيدة ومش سعيدة" وهنا يصدمنا العندليب الأسمر بحقيقة ننكرها ونحن نتخيل طفولة سعيدة لم نعشها.
سيكون من الصعب علينا أن نتخيل أن الزمن الجميل ليس له وجود على أرض الواقع وأن ذكرياتنا عنه هي محض خيال. ولو عدنا إلى أم كلثوم فإنها تصحح ذكرياتها بطريقة جريئة “واهي غلطة ومش هتعود/ ولو أن الشوق موجود/ وحنيني إليك موجود”، وتبقى الحدود مفتوحة بين ما نتذكره وما ننساه في ظل خيالنا الذي ليس له حدود.