صالح قوجيل رجل من الرعيل الأول يحرس معبد السلطة في الجزائر

رغم أنه تجاوز سن التسعين إلا أن رئيس مجلس الأمة الجزائري، أو ما يعادل مجلس الشيوخ في بعض الأنظمة، صالح قوجيل يفضل المضي في تحقيق المزيد من الألقاب السياسية، فهو أقدم قدماء الحرس القديم وأكبر كبار المسؤولين في البلاد سنا، ولم يمنعه العمر المتقدم ولا تداعيات الشيخوخة من الاضطلاع بمهمة الرجل الثاني في الدولة، ليظل بذلك بوابة الشرعية التي تحتاجها أجندة السلطة من حين إلى آخر.
وهو إلى جانب كونه مناضلاً تاريخياً في ثورة التحرير، واحد من قدماء الكوادر الرسمية والمسؤول الثاني في الدولة بعد رئيس الجمهورية حسب الترتيب الدستوري.
استطاع قوجيل تجاوز جميع الأجيال والتكيف مع كل المراحل والتحولات، فحافظ على نفسه وجها من أوجه السلطة. ورغم الإفرازات التي فرضها الحراك الشعبي ومزاعم التغيير التي ترفعها السلطة وجد الشيخ الهرم ابن التسعين عاما نفسه منذ 2019 في موقع الرجل الثاني في الدولة، ومالك الشرعية والرمزية التاريخية التي تلجأ إليها السلطة من حين إلى آخر للحصول على التزكية، وعلى الرغم من أن مؤسسته تمثل سلطة مضادة إلا أنه جندها لتمرير ودعم خيارات السلطة الرسمية.
ورغم أن العقيدة “النوفمبرية الباديسية” هي التي نصبته على رأس مجلس الأمة إلا أنه انقلب عليها أخيرا، بعدما اتهمها بـ”الكذب على التاريخ”، غير عابئ ولا مهتم بردود فعل قطاع من الجزائريين الذين وجدوا فيها ملاذا لمناكفة التيارات الفكرية والأيديولوجية الأخرى، واعتبروا رمزهم الراحل الجنرال أحمد قايد صالح عرابا للمحافظين الجدد الذين اختبأوا تحت عباءة الثورة التحريرية، والمصلح الاجتماعي والديني عبدالحميد ابن باديس، كرمزين لتمرير أجندة القيادة السابقة للجيش عندما استفردت بالمشهد السياسي في البلاد خلال حقبة الحراك الشعبي، والعمل على إجهاض الاحتجاجات والمطالب السياسية المرفوعة حينها من طرف التيارات الأخرى.
انقلاب أم انتصار للحقيقة
أثار تصريح قوجيل حول شعار “النوفمبرية الباديسية” صدمة وسط ما وصف بـ”المحافظين الجدد”، الذي تغلغل في مسيرات الحراك الشعبي وأغرى العديد من القوى الإسلامية والجمعيات المدنية التي كانت تتعاطف مع توجهات القيادة العسكرية السابقة، ودعمت بشكل كبير مخرجات المرحلة الانتقالية لاسيما في ما يتعلق بالمسار الانتخابي.
وقد فاجأ الرجل خلال إشرافه على ندوة تاريخية نظمها مجلس الأمة بمناسبة الذكرى الـ67 لاندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر الجميع بتصريحه الذي قال فيه “سمعنا أشياء، في الحقيقة من المفروض لا تقال. حين نقول نوفمبر باديسي، كذبنا على التاريخ، نوفمبر هو نوفمبر، ليس ملكا لأحد، لا بأس يقولها أي واحد، لكن لا يجب تدريس أبنائنا بهذه الطريقة، فهذه ليست هي الحقيقة. ينبغي عدم تشويه الحقائق عند تدريس التاريخ ونقله إلى الأجيال المقبلة وتفادي بعض المغالطات التي نراها اليوم في بعض التجاذبات السياسية”.
وإذا كان قوجيل قد أعاد تصويب بعض الحقائق التاريخية حول المرجعية الفكرية لثورة التحرير الجزائرية، بعدما حاول التيار المذكور إلباسها رداء إسلامياً، في إشارة إلى دور ما يعرف بالتيار الإسلامي الإصلاحي الذي تزعمته منتصف القرن الماضي جمعية علماء المسلمين الجزائريين التي أسسها ابن باديس، فإن المثير في تصريح الرجل هو تأخره وسكوته إلى غاية الآن، خاصة وأنه يعتبر واحدا من الرعيل الأول الذي فجر ثورة التحرير.
"النوفمبرية الباديسية" التي يهاجمها قوجيل تحولت، تحت التسويق الإعلامي والدعائي للسلطة، إلى مرجعية أيديولوجية للعديد من الفعاليات السياسية والأهلية
وطرح متابعون تساؤلات حول جدوى مثل هذه الإفادات من رجل التزم الصمت لما كان المشروع في ذروته خلال السنوات الماضية، والتسويق له من طرف الجناح القوي في السلطة حينها من أجل توسيع وعائه الشعبي، رغم الضرر الذي هدد حقيقة التاريخ، واستغفل المتعاطفين البسطاء لتحقيق أغراض سياسية لا غير.
ويرى هؤلاء أنه كان جديرا بالرجل قول الحقيقة في حينها وإيقاف حملة التزوير، فهو مناضل تاريخي، وكان بإمكانه وقف الانحراف لأنه يملك من النفوذ والحصانة ما لا يملكه نشطاء بسطاء زُجّ بهم آنذاك في السجون لأنهم اعترضوا على المشروع، ولا مبرر لصمته إلا مقايضة المنصب بالسكوت مع من وضعوه في 2019 على رأس مجلس الشيوخ.
وذكرت تقارير محلية أن “النوفمبرية الباديسية” تحولت تحت التسويق الإعلامي والدعائي للسلطة إلى مرجعية أيديولوجية للعديد من الفعاليات السياسية والأهلية، حيث حملت العديد من مشروعات الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية وحتى لوائح مرشحين للانتخابات تلك التسمية لاستقطاب الأنصار، رغم ما للمسألة من تزوير للتاريخ.
وقد تم تجنيد إمكانيات إعلامية وإلكترونية ضخمة للترويج لها، وهو ما تكشف خلال محاكمة بعض الجنرالات الذين عملوا مع قائد الجيش السابق أحمد قايد صالح، لما عملوا على الاستعانة بجيش إلكتروني على شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات لتسويق مشروع “النوفمبرية الباديسية” ليكون غطاء سياسيا لجناحهم السياسي والعسكري.
تصريحات صادمة
وتفيد مختلف المرجعيات التاريخية بأن جبهة التحرير الجزائرية التي قادت ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي فضاء سياسي استقطب مختلف التيارات والأيديولوجيات، غير أن قادتها اشترطوا الانخراط دون خلفيات سياسية أو فكرية، وأن يكون الالتحاق بصفوفها فردياً وليس جماعياً لتجاوز أي نوع من الحساسيات وحصر برنامجها في البيان الشهير الصادر في الفاتح من نوفمبر 1954.
إلا أن التصريح الصادم لقوجيل حرك أكثر من بؤرة في التيار الباديسي النوفمبري، حيث قال رئيس حركة البناء الوطني عبدالقادر بن قرينة، في تدوينة له على حسابه الرسمي في فيسبوك، “وددتُ ونحن على أعتاب ذكرى ثورتنا التحريرية المجيدة لو أن مجاهدا كبيرا، مفروض عليّ أن أكن له الاحترام، ومناضلا قديرا من أمثال قوجيل، قد أبعَد شخصه المحترم عن دوائر المهاترات الإعلامية والتجاذبات السياسية، وحصنَ رمزيته التاريخية عن تسجيل الملاحظات حول تصريحه الأخير الذي انتقد فيه شعار الباديسية النوفمبرية”.
قوجيل يحاول، كما يقول، تصويب الحقائق التاريخية حول المرجعية الفكرية لثورة التحرير الجزائرية، بعدما حاول البعض إلباسها رداء إسلاميّا
وأضاف الرجل الذي يهلّل للمشروع “لا أحد قال بأن النوفمبرية هي الباديسية وإنما جزء من الشعب أراد أن يضع لنفسه شعارا يرتكز عليه في مرجعيته وهي النوفمبرية والباديسية، فعبارة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية ليس معناها أن كل تسمية فيها هي شرح للأخرى أو مرادفة لها”.
ورغم انسحاب قوجيل في سنوات خلت من المشهد الرسمي إلا أنه ظل عضوا قياديا في حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، وبرلمانيا لعدة عهدات نيابية باسم الحزب، ولم يتوان عن استغلال رمزيته التاريخية في قيادة أجنحة متمردة ضد قيادات الحزب السابقة خلال العقدين الأخيرين، كما كان الشأن مع علي بن فليس وعمار سعداني وجمال ولد عباس وغيرهم، حيث قاد ما كان يعرف بجناح “التقويم والتأصيل”.
ولم يصعد اسمه إلى الواجهة إلا خلال استدعاء المؤسسات الانتقالية رئيس مجلس الأمة الراحل عبدالقادر بن صالح لشغل منصب رئيس الدولة المؤقت في 2019، بعد تنحي الرئيس المنتخب الراحل أيضا عبدالعزيز بوتفليقة الذي كان قد عين قوجيل في مجلس الأمة عما يعرف بـ”الثلث الرئاسي”، ومنحه عامل السن أولوية شغل منصب رئيس الهيئة بالنيابة، قبل أن يتم انتخابه رسميا رئيسا لها، وسط ذهول الرأي العام من خلفيات ودلالات استعانة السلطة بطاعن في السن في ذروة خطاب وشعارات الإصلاح والتجديد والتشبيب.
لجنة في ثوب سلطة
وتذكر تقارير محلية أن صعود قوجيل إلى هرم مبنى زيغود يوسف لم يكن ليحصل لولا التعليمات الشفوية والفوقية التي زكّته في السر لأهداف غير معلنة، وأفاده حينها منافسه المرشح محمود قيصاري بانسحابه من الترشح احتجاجاً على ما سماه بـ”انتخابات محسومة لصالح قوجيل “، وحصل آنذاك على
الأغلبية في التصويت بعد تزكيته من قبل “الثلث الرئاسي” ونواب حزبي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، المهيمنين على مجلس الأمة، فكان بذلك قوجيل ثالث رئيس لمجلس الأمة الذي أنشئ عام 1996 بعد كل من الراحل بشير بومعزة وبن صالح.
وبانتخابه رسميا يكون قوجيل، وفقا لدستور البلاد، المخول الوحيد بتولي رئاسة البلاد مؤقتا في حالات شغور منصب الرئيس لأسباب حدّدها الدستور في الاستقالة أو العجز أو المرض أو الوفاة.
ومنذ اعتلائه منصبه تحولت الهيئة التشريعية الثانية إلى لجنة مساندة لخيارات السلطة في مختلف الملفات والقضايا المطروحة، ولم يتورّع الرجل عن الإعراب عن دعمه للمسار الذي بدأه الرئيس عبدالمجيد تبون على رأس الدولة، ولم يحدث أن لقي أي مشروع حكومي اعتراضا من طرف المجلس المذكور، خاصة خلال السنوات الأخيرة.
تقارير محلية تؤكد أن صعود قوجيل إلى هرم مبنى زيغود يوسف لم يكن ليحصل لولا التعليمات الشفوية والفوقية التي زكّته في السر لأهداف غير معلنة
وأثارت سرعة انتخاب رئيس مجلس الأمة آنذاك تساؤلات من قبل المتابعين عن توقيتها ودلالاتها، لاسيما وأنها تزامنت مع قرار الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون حل المجلس الشعبي الوطني والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة جرت في شهر يونيو الماضي.
وأرجع مراقبون الأسباب التي عجلت بتزكية قوجيل للمنصب إلى رغبة السلطات الجزائرية في تفادي شبح الفراغ الدستوري، بعد حل البرلمان، حيث أصبحت الجزائر أمام ما يشبه الحالة الاستثنائية وفق الدستور، بعد أن تم تجميد التشريع بالقوانين وتعويضها بالأوامر الرئاسية المؤقتة الصادرة عن رئيس الجمهورية.
وفي تلك الحالة بدت الدولة أمام فراغ في مؤسستين تشريعيتين، فعلاوة على حل المجلس الشعبي الوطني كان قوجيل رئيساً مؤقتا لمجلس الأمة، وهو ما لا يسمح له باستغلال صلاحياته الدستورية في حال حدوث فراغ في رئاسة الجمهورية، وطرح الأمر بشدة خلال الوعكة الصحية وإصابة الرئيس تبون بفايروس كورونا وغيابه لنحو ثلاثة أشهر عن المشهد الرسمي، ما أدى إلى ارتباك في حسابات السلطات ودفع النظام الجزائري إلى استشعار خطورة الوضع.
وذكر حينها مختصون في القانون الدستوري أن دستور البلاد لا يعترف بمنصب “الإنابة” ولا يحق معه لرئيس مجلس الأمة المؤقت تولي رئاسة البلاد مؤقتاً، إلا إذا تم ترسيم منصبه عن طريق الانتخاب أو التزكية بالأغلبية، وهو ما دفع أصحاب القرار إلى تسريع وتيرة تزكية قوجيل رسميا تفاديا لأي سيناريو مفاجئ، كما شكلت شخصيته الشخصية المناسبة التي يُطْمأَن إليها في حال ما آلت إليه الرئاسة المؤقتة للبلاد.