شيخوخة جيل التقسيم في لاهور تنذر بضياع حقبة هامة من تاريخها

إسلام آباد – تحتفل باكستان بالتقسيم أو بيوم الاستقلال في 14 أغسطس من كل عام، التاريخ الذي أصبحت فيه مدينة لاهور، عاصمة إقليم البنجاب، تابعة لباكستان بعد أن كانت تابعة للهند وبعد خوض الكثير من النزاعات بسبب عدد سكانها الكبير من الهندوس والسيخ. وتمتلئ أجواء الاحتفال بيوم الاستقلال بمظاهر الفرحة المتنوعة مثل الصلوات، ورفع الأعلام وارتداء الملابس الملونة بالأخضر والأبيض، والمسيرات العسكرية والألعاب النارية التي تنتشر في جميع أنحاء البلاد.
لاهور العاصمة الثقافية لباكستان، وثاني أكبر المدن الباكستانية أصبحت اليوم مدينة عالمية وعلى الرغم من أنها تضم 10 ملايين من السكان، إلا أن هناك موجة من الصدمة غير المعلنة تسري بهدوء وراء تلك الحياة الصاخبة. ويأخذ جيل “التقسيم” في الانقراض، ويشارك قلة منهم في سرد قصص الأحداث التي عاشوها.
ولم تُبذل أيّ جهود رسمية لجمع مذكراتهم التي تعود إلى عام 1947. حيث خلق التقسيم حالة من عدم اليقين التي استشرت في البلاد وأدت إلى اندلاع التوترات وانتشار ممارسات العنف، مثل الطعن والقتل وأعمال الشغب التي عمت أرجاء المدينة.
كانت سامينا أكرم تبلغ من العمر 12 عاما عندما بدأت القطارات بالوصول إلى لاهور، بعض العربات كانت تكتظ بأشخاص يتدلون من الأبواب والنوافذ، وبعض العربات الأخرى كانت مليئة بجثث الموتى، وعلى الطرق خارج المدينة، كانت العائلات تصل إما سيرا على الأقدام وإما عن طريق الشاحنات.
لاهور لا تمتلك متحفا للتقسيم، أو نصبا تذكاريا للقتلى. والحكومة طلبت من الناجين سرد قصصهم بهدف تأريخها
تقول أكرم في حديث لصحيفة الغارديان البريطانية “هناك أطفال تركتهم أمهاتهم؛ أطفال بائسون، يجتمع الكثير من الذباب على وجوههم. لم أر قط هذا العدد من النسور التي أبدت استعدادها للهجوم في أي لحظة”. وأضافت “لقد كنت قلقة جدا ولم أشعر بالراحة قط”.
وفي إحدى تلك الشاحنات أتى ابن عبدالرحمن، 17 عاما، وقد غادرت أسرته هاسانبور، الواقعة على بعد 300 ميل في ولاية أوتار براديش. فبعد وقت قصير من إعلان مدينتهم لتصبح جزءا من الهند، انقضت مجموعة من المجرمين على منزل جده وذبحوا العشرات من أقاربه. تذكر ابن عبدالرحمن وقال “كانت الفوضى عارمة، وسارت السرقة والنهب بأسلوب ممنهج، وعاش الجميع في خوف محدق”.
وباعتبار أن مدينة لاهور كانت عاصمة الإمبراطورية المغولية من عام 1524 إلى 1752، فإنها تتميز بتعدد الثقافات. وكان الدين الواحد من ضمن أحد الشروط التي يتم على أساسها تحديد الهوية، حتى تم فرضه رسميا في عام 1947 الأمر الذي ساعد بعد ذلك على تقسيم الأرض وتحديد أماكن عيش الناس.
وتنتمي أكرم إلى عائلة مسلمة، لم يكن لديها سوى فكرة بسيطة عن الاختلافات الدينية. كان لديها صديق حميم منذ سن الثالثة، اسمه ماهيش وهو صبي هندوسي عاش في الشارع المقابل لمنزل عائلة أكرم. وفي يوم من الأيام في عام 1947، وبعد تسع سنوات مرت على صداقتهما، عادت أكرم من عطلة لتجد أن عائلته قد غادرت.
تقول أكرم “ترك فراغا في قلبي”، وتضيف أنها لا تزال تحتفظ بصورة بالأسود والأبيض لعائلة ماهيش في غرفة نومها. عاشت أكرم أكثر حياتها مع زوجها الضابط العسكري الذي توفي عندما أصبحت في الثانية والثمانين من العمر، ولكنها لا تزال تعيش في منزلهما، وقد أقامت حوله حديقة جذابة.
ورغم الإشعاع العالمي لمدينة لاهور، طبقا للقول المأثور "إن لم تكن قد زرت لاهور فكأنك لم تولد بعد”، وكذلك ثرائها الثقافي والتاريخي، إلا أن جزءا من تاريخها لم يلق الاهتمام اللازم ولم تتم كتابته وتوثيقه لتطلع عليه الأجيال الجديدة حيث لم يتم جمع قصص الجيل الذي عايش أحداث التقسيم.
ويقول الأستاذ بجامعة لاهور، فروخ خان، الذي أجرى مقابلات مع السيدات حول قضية التقسيم منذ 20 عاما، وينهي الآن فيلما وثائقيا عن نفس الموضوع “يعتقد الناجون من التقسيم أن أطفالهم لن يستوعبوا ما عاشوه في تلك الحقبة من الزمن”.
المدارس لا تعلّم التاريخ، فنتج عن ذلك جيل يغفل عما يعرفه الأجداد عن التاريخ الحقيقي لأنهم يدرسون تاريخا مشوّها
ويلاحظ أن الأبناء يترددون دائما في طرح أسئلة حساسة على الآباء بشأن هذا الموضوع. يقول خان “الآباء بالنسبة إلينا هم شخصيات نهابها، ولم نكن قادرين على التواصل معهم”. ولا تمتلك لاهور متحفا للتقسيم، أو حتى نصبا تذكاريا لأولئك الذين قتلوا. ولكن الحكومة طلبت في السنوات الأخيرة من الناجين أن يسردوا قصصهم بهدف جمعها وتأريخها.
وأجرى “أرشيف المواطنين” في باكستان، وهي منظمة غير ربحية، مقابلات مع أكثر من 1000 شخص من الناجين ويخطط لإقامة معرض في متحف التاريخ الوطني في لاهور. وحرصا على تأريخ الأحداث التي وقعت في الأحقاب الزمنية الماضية، توضح تلك القصص كيف كان موقف الدولة معاديا للهنود كما قال أنعم زكريا، 29 عاما، مؤلف كتاب التاريخ الشفاهي “آثار التقسيم” للعام 2015.
وأكدت أكرم نقص المواد التاريخية التي توثق أحداث التقسيم وأردفت بالقول إن المدارس لا تعلّم التاريخ، وتقدم بعض الدراسات الباكستانية فقط. ونتج عن ذلك جيل يغفل عما يعرفه الأجداد عن التاريخ الحقيقي لأنهم يدرسون تاريخا مشوّها. ويتقاسم الناس الثقافة على جانبي حدود الدولتين، فهم لا يختلفون عن بعضهم في المأساة. يقول زكريا “توثيق تاريخ التقسيم بات أمرا ضروريا. الجيل الذي عاصر تلك الأحداث بدأ في الانقراض وهذه هي أكبر مخاوفي، لأنه الوحيد الذي لديه رؤية دقيقة عن الأحداث”.
ولا تزال ذكريات السيدات والصدمات التي تعرضن لها مكبوتة في وجدانهن منذ عقود من الزمن. يقول زكريا “حدثتني امرأة عن التقسيم لفترة طويلة، ثم فقدت وعيها بعد ذلك”. وعمل التقسيم على زيادة عدد سكان لاهور. وأدى نزوح الهنود والسيخ الأثرياء إلى اختفاء عنصر الثقافة من العاصمة، ولكن المجتمعات الجديدة ساهمت في إحياء المدينة مرة أخرى. وكجزء من الهند كانت لاهور مركزا لنشر الصحافة والثقافة السينمائية التي طالما تعرضت للمنافسة من مومباي وكولكاتا، ولكن عندما انضمت إلى باكستان تحولت إلى عاصمة سينمائية. يقول ابن عبدالرحمن “تغيرت العادات وتغير الغذاء أيضا”.
وبمرور الوقت، أصبحت صدمة عام 1947 مصدرا للإبداع. حيث ظل الكاتب القصصي سعدات حسن مانتو، الذي جاء إلى لاهور من مومباي عام 1948، يعتمد التقسيم في أعماله. وتحكي قصته “توبا تيك سينغ” التي نُشرت عام 1955، عن مجموعة من مرضى اللجوء النفسيين الذين طُردوا من باكستان، لتنتهي برجل مُسن ينهار في الطريق الخاوي المُتنازع عليه بين الدولتين.