شون كونري.. جيمس بوند الأول الأيقونة العابرة للثقافات

كونري كوكب كبير عبر ببطء وألق في سماء عشاق السينما، وسيكون من الصعب على هوليوود أن تقدّم ممثلاً عملاقاً بهذا المستوى من جديد.
السبت 2020/11/07
أعظم كنز وطني أسكتلندي حيّ يرتفع إلى الخلود

في استطلاع للرأي أجرته الـ”صنداي هيرالد” عام 2004 وقع اختيار المصوتين عليه باعتباره ”أعظم أسكتلندي على قيد الحياة“، أما استطلاع مؤسسة “يورو ميلونز“ عام 2011 فقد صنّفه على أنه “أعظم كنز وطني حي في أسكتلندا“.

وأشارت مجلة ”بيبول“ أواخر الثمانينات من القرن العشرين إلى أنه “الرجل الأكثر جاذبية”، لتعود المجلة ذاتها وتطرح التصويت بعد عشرة أعوام على لقب “الرجل الأكثر جاذبية في القرن” وكما هو متوقع، ذهبت النتيجة لصالحه.

العديد من الصحف والمجلات السياسية والثقافية والفنية حول العالم اعتادت على إسباغ الأوصاف المختلفة عليه، مشيدة بالأسطورة السينمائية، كآخر نجوم ”العصر الذهبي“ أو “عملاق السينما“، أو “حاصد الأوسكار“ أو ”بطل جيمس بوند“ أو “الرجل الوفيّ لجذوره“ وغيرها من الألقاب الخالدة. كيف لا، وهو صاحب المظهر الأنيق واللهجة الأسكتلندية المميزة والحضور الخاص الباسق، شون كونري.

دوره مع النجمة كاترين زيتا جونز في فيلم "فخ" من تلك الأدوار التي لا تنسى، حين قدّم شخصية لص اللوحات الثمينة
دوره مع النجمة كاترين زيتا جونز في فيلم "فخ" من تلك الأدوار التي لا تنسى، حين قدّم شخصية لص اللوحات الثمينة

ابن البسطاء

وُلد الابن الأكبر لجوزيف ويوفيميا كونري في إدنبرة بأسكتلندا في الـ25 من أغسطس 1930 لعائلة فقيرة، استدعت ظروف معيشته ترك المدرسة في سن الثالثة عشرة، حيث كانت والدته عاملة نظافة بينما كان والده عاملا في مصنع وسائق شاحنة، لينضم إلى البحرية الملكية البريطانية وهو في سن السادسة عشرة، ويخرج منها بعد ثلاث سنوات لأسباب صحية بعد إصابته بقرحة في المعدة. في ذلك الوقت كان لديه وشمان، الأول يحمل كتابة “أمي وأبي” والآخر "أسكتلندا للأبد".

وبسبب قامته الطويلة وممارسته لرياضة كمال الأجسام تولى كونري عدة وظائف، فكان عامل بناء ومنقذاً على الشواطئ ونموذجاً للرسم أمام طلاب كلية إدنبره للفنون. ناهيك عن موهبته في كرة القدم، وفي إحدى جولاته مع المسرح الموسيقي عرض عليه مدير نادي مانشستر يونايتد آنذاك، السير مات بوسبي، اللعب مع فريقه، بعدما رآه يلعب في مباراة ودية ضد فريق محلي.

من بداياته المتواضعة وتركه للمدرسة تحول كونري إلى نجم سينمائي في الثانية والثلاثين من عمره، بعد أن شجعه الممثل الأميركي روبرت هندرسون على الدخول إلى عالم التمثيل، فحصل على أول دور تلفزيوني له في مسلسل “جنوب المحيط الهادئ“، تبعه دور تلفزيوني آخر هو دوره في “قداس للوزن الثقيل”.

كان كونري لا يزال يقدّم أفلام الدرجة الثانية عندما طُلب منه إجراء مقابلة مع منتج فيلم ”دكتور نو“ أول أفلام سلسلة جيمس بوند واسعة الشهرة. إذ شعر المنتج هاري سالتزمان أن الرجولة هي الجزء المطلوب لهذا الدور لأنه تتخلله مشاهد بحركاتٍ جسدية. وهذا ما دفع المنتج إلى توقيع عقد مع كونري دون إجراء اختبار الشاشة المعتاد. وحقق فيلم ”دكتور نو“ نجاحًا فوريًا، حيث دفع كونري المغمور آنذاك إلى الشهرة بين عشيةً وضحاها. إلا أن هذا لم يعجب كونري ذا العقلية الجادة والخاصة جدًا، مندهشًا من مقدار الاهتمام الذي تلقاه.

وكانت قصة الفيلم تدور حول جاسوس بريطاني سريّ قُتل في ظروف غامضة ليتم تكليف العميل جيمس بوند بالتحقيق في حادثة مقتله، وبذكائه الحسي تقوده الدلائل إلى جزيرة لشخص يدعى دكتور نو، فيكتشف لاحقًا أن هناك مفاعلاً نووياً في الجزيرة من صنع نو الثري المحاط برجالٍ لا يأتون بحركة إلا بأمره، لدرجة أنهم يقتلون كل من يصل إلى الجزيرة، حتى وإن كانوا صيادين يكسبون عيشهم من صيد الأسماك.

العصر الذهبي

النجم الأسطوري كان يؤرقه البقاء ضمن قوقعة بوند والتصاق الاسم والدور به بشكل محكم ووثيق، وهذا ما دفعه إلى الانتقال للعب أدوار مختلفة، فقدّم في الثمانينات شخصية شرطي أيرلندي صعب المراس، ليفوز بجائزة الأوسكار عن دوره ذاك

الفترة الذهبية لأعمال كونري التي أحبّها الناس كانت في أواسط الستينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي، حين قدّم سبعة أفلام لجيمس بوند بعد ”دكتور نو“ من بينها ”من روسيا مع الحب“ و”الإصبع الذهبية“، و”كرة الرعد“، و“لا تعش مرتين فقط“. ولأن المصادفات تكون عاملا مساعداً في بعض الأحيان، ولاسيما عند الانطلاقة الأولى؛ حصل كونري على دور البطولة في مسلسل “نقود الدم” والذي اشتهر في أميركا بشكل كبير. حيث اقترحت اسمه دانا زوجة المنتج ألبرت بروكولي بعد رفض جاك بالانس النجم الهوليوودي السفر إلى لندن لأداء الدور، قائلة ”ستحبه السيدات، فهو يتمتع بشخصية وجاذبية تضاهي الدور المطلوب منه”.

خمسة عقود مليئة بالمغامرات والأحداث والتاريخ المهني الغني بالأعمال السينمائية عاشها معنا كونري، لينتقل من ممثل تقليدي إلى نجم سينمائي محترف. ولكن النجم الأسطوري كان يؤرّقه البقاء ضمن قوقعة بوند والتصاق الاسم والدور به بشكل محكم ووثيق، وهذا ما دفعه إلى الانتقال للعب أدوار مختلفة تجمع ما بين البوليسية والغرامية، حيث قام في الثمانينات من القرن الماضي بتقديم شخصية شرطي أيرلندي صعب المراس، ليفوز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد، عن دوره في فيلم ”الممنوع لمسهم“.

صعوده إلى القمة لم ينسه بلاده، فلم يغفل عن الدور الإنساني والعمل الخيري الذي كان جزءًا من حياته، حيث تبرع مرةً بأجره بالكامل، وكان أكثر من مليون دولار عن دوره في فيلم ”الألماس للأبد“ إلى “صندوق التعليم الأسكتلندي”، والذي شارك بنفسه في تأسيسه، إضافة إلى إيمانه بمساعدة الآخرين وتقديم الهدايا وإنشاء صندوق لدعم الفنانين حديثي التخرج.

ولحضوره الكبير في الجانب الفني والإنساني حصل كونري على العديد من الجوائز والألقاب من عدد من الملوك والرؤساء، من بينهم الملكة إليزابيث الثانية التي منحته لقب الفارس مطلع الألفية، والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي كرمه في مركز كينيدي. وقد اعتاد الرجل الأسطوري على التكريم والجوائز، بما في ذلك جائزة البافتا لأفضل ممثل في دور رئيسي، وجائزة إنجاز العمر لمعهد الفيلم الأميركي، وجائزة ”أم تي في“ لأفضل ثنائي على الشاشة، وجائزة ”الغولدن غلوب“، وجائزة الفيلم الألماني لأفضل ممثل.

الرمز السياسي

ريتشارد مور رئيس الاستخبارات البريطانية "إم أي 6" يغرّد على حسابه على تويتر معربًا عن أسفه لرحيل كونري البطل الغامض.
ريتشارد مور رئيس الاستخبارات البريطانية "إم أي 6" يغرّد على حسابه على تويتر معربًا عن أسفه لرحيل كونري البطل الغامض.

لم يكن كونري مجرد شخص عادي يقدم أعماله ويعود إلى منزله وحياته الشخصية، فقد اعتاد الجمهور في أنحاء العالم على حضوره وكلماته. كان رمزاً سياسياً مؤثراً، وكانت لديه أقوال مأثورة سيذكرها التاريخ وتتناقلها الأجيال، مثل قوله “أنا لست رجلاً إنجليزياً، ولم أكن يوماً إنجليزياً، ولا أريد أن أكون كذلك. أنا أسكتلندي. كنت أسكتلنديًا وسأظل كذلك“ وقد قابل ذلك دعمه وتأييده المطلق لانفصال أسكتلندا عن المملكة المتحدة.

أما النساء فقد كانت فلسفته عنهن مثيرة ولافتة، إذ كان كونري يقول “أنا أحب النساء. لا أفهمهم، لكني أحبهم“. كان يدرك كيفية التسلل إلى قلب المرأة وعقلها، وكان يقول إن “مفتاح قلب المرأة هو هدية غير متوقعة في وقت غير متوقع“.

وفي اقتباس غريب لكونري عن شخصية جيمس بوند، قال ذات مرة “لقد كرهت دائما ذلك اللعين جيمس بوند. وأودّ قتله”. كما قال في مناسبة أخرى “هناك فرق كبير بيني وبين جيمس بوند، أنه قادر على حل المشاكل”.

السير كونري لم يعد على قيد الحياة مع انقضاء اليوم الأخير من أكتوبر الماضي، قبل أيام، بعد أن أعلن ابنه جيسون شون كونري أن أباه فارق الحياة بين أفراد أسرته المقيمين في مجمع ليفورد كاي في ناسو – جزر الباهاما. حزن عليه العديد من الشخصيات والجهات الرسمية، إذ قال عنه أليكس سالموند رئيس الوزراء الأسكتلندي السابق ”هو أعظم أسكتلندي في العالم، وآخر نجوم هوليوود الحقيقيين.

كان شديد الوطنية ومفكرا عميقاً وإنسانا متميزا“. وفي تغريدة عبر حسابه على منصة تويتر نعاه رئيس الاستخبارات البريطانية “إم أي 6”، ريتشارد مور، معربًا عن أسفه لرحيل الأسطورة السينمائية، عندما قال “ارقد في سلام يا شون كونري”.

كونري المختلف والغامض

كونري لم يكن مجرد شخص عادي يقدم أعماله ويعود إلى منزله وحياته الشخصية، فقد اعتاد الجمهور في أنحاء العالم على حضوره وكلماته كرمز سياسي مؤثر
كونري لم يكن مجرد شخص عادي يقدم أعماله ويعود إلى منزله وحياته الشخصية، فقد اعتاد الجمهور في أنحاء العالم على حضوره وكلماته كرمز سياسي مؤثر

أداء كونري فريد من نوعه، حتى لتكاد تتوهّم أنه لا يمثل، فهو يقدّم أدواره بانضباط عسكري لكن بحريّة كبيرة وبهدوء يجعله يبدو وكأنّه يرتجل الحوارات لا يلقيها بعد حفظها. يشعّ مهابة بين المشاركين معه في المشهد الواحد، سواء كانوا من الممثلين أو الممثّلات، حتى يبدون وكأنهم يحتفون به ويكرّمونه. دوره مع كاترين زيتا جونز في فيلم “فخ” من تلك الأدوار التي لا تنسى، حين قدّم شخصية لص اللوحات الثمينة. زيتا جونز التي كتبت على موقعها في فيسبوك قائلة “وداعا صديقي، أحبّك من كل قلبي. حتّى نلتقي، أعتز بكل لحظة معك”.

المثير في قصة كونري أنّ حياته ما تزال غامضة مثل شخصياته، فقد راجت معلومات تتحدّث عن فيلم اشترك ببطولته مع النجمة العربية الراحلة سعاد حسني، كان بعنوان ”أفغانستان لماذا؟“ أنتج عام 1986 وشاركت فيه المغنية والممثلة اليونانية الشهيرة إرين باباس، إضافة إلى النجم الراحل عبدالله غيث.

الفيلم من إخراج المغربي عبدالله المصباحي الذي أعلن قبل أعوام قليلة عن إمكانية الإفراج عن شريطه السينمائي بعد إضافة تعديلات متصلة بتطور الأحداث حول تنظيم القاعدة. إلا أن المصباحي الذي واجه إشكالات إنتاجية مالية في تنفيذ المعارك، رحل هو الآخر قبل أن يعرض الفيلم في الصالات.

كونري كوكب كبير عبر ببطء وألق في سماء عشاق السينما، وسيكون من الصعب على هوليوود أن تقدّم ممثلاً عملاقاً بهذا المستوى من جديد. لذلك ستبقى مكانة شون كونري محفوظة في قلوب الملايين حول العالم.

12