شوارع مدينة تونس وأزقتها تاريخ يجهله المارة

تحمل أسماء الأنهج والشوارع المتلاصقة للمدينة العتيقة في العاصمة تونس، حتى وإن كانت طريفة أو غريبة أو مخجلة، معانيَ تروي حكايات كثيرة بعضها تاريخي وبعضها الآخر سياسي أو أسطوري.
إذا حملتك قدماك يوما إلى تونس، وكنت شغوفا بالاكتشاف، ستفاجئك حتما أسماء الأنهج والشوارع والساحات، ربما قبل أن يسترعي اهتمامك طابعها المعماري الذي يحكي تاريخها على مر العصور.
فالأنهج والشوارع المتلاصقة للمدينة العتيقة في العاصمة تونس، والتي يعود تاريخها إلى ثمانينات القرن التاسع عشر، تملك أسماء غريبة، مضحكة، وأحيانا تبدو للناس محلّ تساؤل، أو ربما مصدر إزعاج للمقيمين هناك، وبعضهم يخجل من ذكر عنوان سكنه أمام أصدقائه.
تبدو الأسماء هجينة وغير معرّف بها كما ينصّ القانون، فحين يسمع الزائر، غريبا كان أو تونسيا، بنهج المشنقة أو نهج المرّ ونهج الجيعان، أو نهج سيدي قضاي الحوايج ونهج سيدي البهلول (الأهبل) ونهج سيدي بن عروس، سيتساءل بالضرورة عن السرّ وراء هذه التسميات، خاصة وأنّ أغلب لافتات الأنهج إن لم يكن كلها لا يعرّف بهوية صاحبها.
من بين هذه الأنهج، نهج “الحبيب جاء وحده”، الذي أصبح مع مرور السنين، نهجا يتندر بذكره التونسيون في الحياة العامة وحتى افتراضيا، حتى أن أغلبهم لا يعرف من هو هذا “الحبيب” الذي خلد اسمه في زقاق تونسي، لكنهم يضحكون دوما لأنه “جاء وحده”.
يقول المؤرخ التونسي عبدالستار عمامو لـ”العرب”، إنّ “هذا الرجل الذي لا يعرفه أغلب المارة من النهج (1901 – 1967)، من عائلة قيروانية شهيرة تلقّب بـ’جاء وحده’، وهو صيدلي وشاعر وسياسي عاصر حياة الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، ونشطا سويّة في الحزب الحر الدستوري بقيادة عبدالعزيز الثعالبي”.
ويضيف أنّه بقي مجهولا كغيره من قادة ومفكرين وسياسيين، لأنّ البلديات تكتفي فقط بوضع الاسم وأحيانا يكون مصحوبا بتاريخَي الميلاد والوفاة، دون أن تجتهد في كتابة تعريف مختصر يوضح للزائر أو السائح من يكون “صاحب النهج”.
ولأن شخصية الحبيب جاء وحده، رغم إسهاماتها الكبرى في الحركة الدستورية واعتبارها أحد أهم خريجي المدرسة الصادقية في تونس، بقيت مجهولة حتى لدى الفئة المثقفة، أصدر اثنان من أصدقائه في العام 2017 كتابا بعنوان “الحبيب جاء وحده الشاعر الأديب الصيدلي: الموجود من شعره وثناء الكتاب عليه” في محاولة لكشف القليل من مواهب الرجل وأثره الذي محي أغلبه من تاريخ البلاد.
حكاية هذا الرجل طويلة منسيّة كأغلب حكايات الأنهج الأخرى، إذ توجد المئات من الأسماء الغريبة للشوارع والأنهج و”الصبابيط”، و”الصبّاط” في العامية التونسية هو الحذاء، لكن هذه التسمية تطلق أيضا على النهج الذي يكون جزء منه مغطّى، فيكون شكله أشبه بالحذاء.
ويقول الحكواتي عبدالستار عمامو إن التسميات في الأنهج أغلبها، حتى وإن كان طريفا أو غريبا، فإنه يروي حكايات كثيرة بعضها تاريخي وآخر سياسي أو أسطوري.
وفي القانون التونسي المنظم للجماعات المحلية، يُسمح للبلديّات بعنونة الأنهج والشوارع والساحات بأسماء شخصيّات وطنيّة وحتى تاريخية. وبعد 2011، لم يعد هذا الإجراء مشروطًا بمُوافقة السّلطة المركزيّة ممثّلة في وزارة الداخليّة. وهي خطوة جعلت المجلس البلديّ سيّدَ نفسه في اتّخاذ الإجراءات المتّصلة بتسمية الميادين ضبطا وتغييرا.
وكنتيجة لذلك كثرت التسميات و”التسميات المضادة”، فالمجالس البلدية تتغير كل خمس سنوات، وإذا أدارها أعضاء لحزب تقدمي فلن يكون اختياره للأسماء كأعضاء حزب آخر ذي توجه إسلامي.
وباتت البلديّات غيرَ قادرة على التملّص من الاحتجاج والرّفض وحتى المساءلة، بل إنّ طبول العداوة تقرع بين أعضاء المجلس البلديّ وداخل لجانه منذ تقديم المقترحات وقبل كشفها للمواطنين الذين عادة ما تجتاحهم موجة استنكار عارمة من شطب أسماء “عظيمة” أو كتابة أسماء مفكرين بطريقة خاطئة.
ومؤخرا تقدم نائب عن حزب إسلامي بمقترح لتغيير أسماء الأنهج والساحات التي تحمل أسماء “المحتلين الفرنسيين”، حتى أنه طالب بتغيير اسم منطقة بأكملها تلقب بـ”لافايات” لأن “المواطن الغيور على وطنه لا يستسيغ هذه التسميات”.
وتسبب تسمية الشوارع وإعادة تسميتها عادة خلطا مكانيا للسكان والقادمين من جهات أخرى، فمثلا سيضيع الراغب في الذهاب إلى إحدى القباضات المالية (إدارة لاستخلاص الآداءات) في العاصمة لوجودها في مكان غير الذي تلقب به سابقا: فقباضة نهج النمسا موجودة في نهج كندا، وقباضة نهج إنجلترا توجد في نهج الجزيرة.
وعن هذا الإشكال، يقول عمامو إنّ هذه التسميات أصبحت تطلق على منشآت تونسية لأن بابها الرئيس يفتح عادة على نهج محدد، فتختار البلدية تسميتها باسمه، وحين تنقل المؤسسة إلى مكان مغاير لا تجتهد البلدية في تغييره، وهو ما يضع السكان في حيرة ويطيل رحلة بحثهم عن المؤسسة التي يقصدونها لإتمام وثائقهم الإدارية.