شهران على اتفاق دمشق والأكراد: تقدم هش أم انهيار متأخر

بعض المؤشرات الأولية بدأت في الظهور، كاشفة عن رغبة الأطراف الرئيسية في التقدم ضمن مسار التنفيذ، وإنْ كان ذلك بوتيرة بطيئة ومليئة بالعقبات.
الخميس 2025/05/15
فرصة تاريخية نادرة لإنهاء عقد من الاحتراب والانقسام

دمشق - في العاشر من مارس 2025، وقّعت دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) اتفاقًا يُعد نقطة تحول في مسار الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من عقد.

وجاء الاتفاق بين رئيس الجمهورية السورية أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، ليضع حدًا لحالة الانقسام بين الحكومة المركزية والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

ونص الاتفاق على دمج البُنى العسكرية والمدنية لقسد ضمن مؤسسات الدولة السورية، ضمان الحقوق الدستورية لمختلف المكونات، وإقرار وقف إطلاق نار شامل، وتوحيد الجهود لملاحقة فلول النظام السابق بقيادة بشار الأسد.

ومنذ لحظة الإعلان عنه، أُحيط الاتفاق بحالة من التفاؤل الحذر، خاصة في ظل دعم دولي متباين وتحفظ تركي تقليدي تجاه قسد ومكوناتها الكردية.

ومع مرور شهرين على توقيع الاتفاق، بدأت بعض المؤشرات الأولية في الظهور، كاشفة عن رغبة الأطراف الرئيسية في التقدم ضمن مسار التنفيذ، وإنْ كان ذلك بوتيرة بطيئة ومليئة بالعقبات.

وتم تسجيل التزام ملحوظ من الجانبين بوقف إطلاق النار، وبدأت إجراءات إعادة دمج أحياء مثل الشيخ مقصود والأشرفية في حلب ضمن سلطة الدولة.

الاتفاق أقر بضمان الحقوق الدستورية للأكراد ومكونات المنطقة الأخرى، إلا أن تفاصيل هذه الضمانات لا تزال محل خلاف

وقد انسحبت قوات قسد المحلية من هذه الأحياء بشكل منظم، ما عُدّ دلالة على حسن النية والاستعداد للانخراط في عملية سياسية ومؤسساتية أوسع.

وعلى مستوى اللجان، باشرت اللجان المركزية المشتركة أعمالها التمهيدية، تمهيدًا لتشكيل لجان عسكرية وأمنية وخدمية تتولى إدارة الشؤون في مناطق شمال شرق سوريا، مع الإشارة إلى تقدم في التنسيق الأمني والهيكلي، خصوصًا في ما يتعلق بدمج مقاتلي قسد ضمن وحدات الجيش السوري، مع الحفاظ على خصوصية بعض التشكيلات المختصة، كالتي تعمل في مجال مكافحة الإرهاب.

ويرى الباحث السوري سامر الأحمد في تقرير نشره معهد الشرق الأوسط أن هذا التقدم لا يخلو من اختبارات جدية تهدد بإبطاء وتيرة التنفيذ وربما تعقيد المسار الانتقالي بأكمله.

ويبرز سد تشرين كواحد من هذه التحديات، كونه منشأة إستراتيجية حيوية توفر الكهرباء والمياه للملايين من السكان.

ورغم وجود اتفاق على تسليم السد للحكومة، إلا أن التنفيذ تعثر وسط اتهامات متبادلة. فبينما تؤكد دمشق وجود مماطلة من طرف قسد، تشير الإدارة الذاتية إلى ضرورة التوصل إلى بروتوكولات فنية وأمنية لضمان توزيع الكهرباء وسلامة الموظفين ومنع حدوث فراغ إداري قد تستغله أطراف مناهضة للاتفاق.

وانعكس هذا التعثر على عمل اللجان المشتركة، حيث عُلقت اجتماعات عدة بانتظار تسوية الملف، ما يدل على هشاشة الثقة بين الطرفين.

وتعكس قضية المعتقلين بدورها حساسية الملف الأمني. فصحيح أنه تم إطلاق دفعة أولى من المعتقلين من كلا الجانبين، إلا أن التقدم توقف نتيجة ما وصفته الحكومة بعدم جدية قسد في تسليم القوائم الكاملة بأسماء المعتقلين.

وفي الوقت نفسه، تُتهم الإدارة الذاتية بمواصلة أعمال الحفر والتحصين، في خرق محتمل لوقف إطلاق النار، وهو ما وصفه مصدر حكومي بأنه “مؤشر على انعدام الثقة وتناقض في الالتزامات.”

وعلى الجانب السياسي، تكمن المعضلة الكبرى في ما يتعلق بالدستور وشكل الحكم المستقبلي للدولة.

الاتفاق أُحيط بحالة من التفاؤل الحذر منذ لحظة الإعلان عنه، خاصة في ظل دعم دولي متباين وتحفظ تركي تقليدي تجاه قسد ومكوناتها الكردية

وأقر الاتفاق بضمان الحقوق الدستورية للأكراد ومكونات المنطقة الأخرى، إلا أن تفاصيل هذه الضمانات لا تزال محل خلاف. فبينما تدفع قسد والإدارة الذاتية نحو صيغة من اللامركزية الديمقراطية تُمكّن مناطقها من إدارة شؤونها ضمن دولة موحدة، تُصرّ دمشق على الحفاظ على نموذج الدولة المركزية مع الاعتراف ببعض الخصوصيات الثقافية والإدارية.

وسعى المؤتمر الكردي الذي عقد في القامشلي أواخر أبريل إلى توحيد الصف الكردي حول مطالب الحكم المحلي الديمقراطي، إلا أنه أثار غضب دمشق التي رأت في بعض مخرجاته محاولة لفرض أمر واقع يمهد لفيدرالية مرفوضة رسميًا.

وعليه، حددت الحكومة السورية خطوطًا حمراء تتمثل في رفض أيّ صيغة تهدد وحدة البلاد، ورفض الاحتكار السياسي، والدعوة إلى شمولية التمثيل ضمن إطار وطني لا يقبل الاستثناء أو التفرد.

وتزداد تعقيدات هذا المسار نتيجة الانقسامات الداخلية داخل قسد نفسها. فلطالما اتُّهمت قيادة قسد بالتبعية لحزب العمال الكردستاني، وهو ما شكّل مصدر توتر دائم مع أنقرة، التي ترفض أيّ نفوذ للحزب داخل الأراضي السورية.

ومن ناحية أخرى، يبدو القادة العرب داخل قسد، وخاصة في مناطق مثل دير الزور والرقة، أكثر حرصًا على إنجاح الاتفاق.

ويدرك هؤلاء أن أيّ انتكاسة قد تعني عودة الفوضى أو تدخلات خارجية، خصوصًا من تركيا. كما أن اندماج قسد ضمن مؤسسات الدولة يُعد فرصة لتوسيع التمثيل العربي في المناطق التي يسيطر عليها الكرد منذ سنوات، ويُطالب هؤلاء العرب بضمان تمثيل عادل في المجالس المحلية والقيادات العسكرية.

ويُعبّر بعض القادة عن قلقهم من استمرار تفرد القيادات الكردية في اتخاذ القرارات الإستراتيجية، داعين إلى شراكة حقيقية تُرسّخ الانتماء الوطني وتُحقق التوازن بين المكونات.

وفي هذا السياق، تبرز أيضًا أزمة الثقة بين قسد والمجتمع المحلي في شمال شرق سوريا. فرغم تقديم الإدارة الذاتية نفسها كمشروع ديمقراطي يُمثّل كل الفئات، تصاعدت في الأشهر الأخيرة حالات التجنيد القسري، بما في ذلك بحق القاصرين، إضافة إلى اعتقالات تعسفية وقيود على الحركة، واحتكار اقتصادي للموارد من قبل أجهزة الإدارة الأمنية.

وساهمت هذه الممارسات في تعميق الهوة بين قسد والمجتمعات المحلية، وأثارت مخاوف من أن تتحول المنطقة إلى كيان شبه مغلق تديره نُخَب أمنية بعيدًا عن الرقابة والمحاسبة.

قد يكون اتفاق دمشق – قسد فرصة تاريخية نادرة لإنهاء عقد من الاحتراب والانقسام، لكنه أيضًا يحمل في طياته بذور الإخفاق إذا لم يُحتضن بإرادة وطنية خالصة

ويضعف هذا الوضع شرعية الاتفاق، خاصة في ظل تغييب واضح لصوت المجتمع المدني والنخب المحلية والعشائر، التي لا تزال مهمشة في عمليات التفاوض وصنع القرار.

وأما على الصعيد الإقليمي، فإن تركيا تُراقب هذا الاتفاق بعين الريبة. ورغم ترحيبها الحذر، أكدت مرارًا أن دعمها لأيّ تسوية في الشمال السوري مشروط بإنهاء نفوذ حزب العمال الكردستاني.

وقد سعت أنقرة إلى فتح قنوات تواصل أمنية مع دمشق لضمان تفكيك قسد أو إعادة تشكيلها بطريقة لا تُهدد أمنها القومي.

في المقابل، تُبدي الإدارة الذاتية قلقًا من أن يؤدي هذا التقارب إلى صفقة على حسابها. كما لا تزال الغارات الجوية التركية مستمرة، مستهدفة قيادات كردية، ما يُهدّد بعرقلة مسار الاتفاق في حال لم تُؤمّن ضمانات متبادلة.

وأما الولايات المتحدة، الداعم التقليدي لقسد، فقد اختارت التزام الحذر. فهي لم تُعارض الاتفاق صراحة، لكنها تواصل الضغط على دمشق في ما يتعلق بإخراج القوات الإيرانية والتعاون في محاربة الإرهاب.

ويبدو أن واشنطن مستعدة للتعامل مع دمشق بصورة براغماتية، طالما تحقق مصالحها الإستراتيجية، وهو ما يضع قسد أمام خيار دقيق بين الحفاظ على علاقاتها مع واشنطن، والانخراط في اتفاق مع دمشق قد يُعيد تشكيل دورها في مستقبل سوريا.

وكل هذه الديناميكيات تُشير إلى أن اتفاق مارس يقف على مفترق طرق. وفي أحسن السيناريوهات، يمكن أن يؤدي إلى إعادة توحيد سوريا ضمن نموذج لامركزي يحفظ حقوق الجميع، ويضمن الأمن والاستقرار في مناطق الشمال الشرقي، ويمنع التوغل التركي، ويضع حدًا لنفوذ الجماعات المتشددة. إلا أن هذا السيناريو يتطلب مرونة كبيرة من الطرفين، وإرادة سياسية لتجاوز عقبات عميقة، واستعدادًا لتقديم تنازلات حقيقية.

في المقابل، فإن أي تصعيد أمني أو فشل في تسوية القضايا العالقة – كسد تشرين أو ملفات المعتقلين – قد يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ويُفجّر الوضع من جديد، خاصة في ظل هشاشة التفاهمات الداخلية والإقليمية.

ولا يكمن الخطر الأكبر الذي يتهدد الاتفاق فقط في التدخلات الخارجية أو البطء في التنفيذ، بل في غياب الثقة المتبادلة واستمرار الذهنية الأمنية في التعامل مع القضايا السياسية والمجتمعية.

وإذا أراد الطرفان إنجاح الاتفاق، فعليهما الانتقال من منطق الهيمنة إلى منطق الشراكة، ومن عقلية الصراع إلى ثقافة التسوية، مع التأكيد على دور القوى المحلية والمجتمع المدني في ضمان استدامة أيّ حل سياسي.

قد يكون اتفاق دمشق – قسد فرصة تاريخية نادرة لإنهاء عقد من الاحتراب والانقسام، لكنه أيضًا يحمل في طياته بذور الإخفاق إذا لم يُحتضن بإرادة وطنية خالصة، وبرؤية إستراتيجية تضع مصلحة سوريا فوق كل اعتبار.

 

اقرأ أيضا:

      • أزمة الثقة بين دمشق والسويداء تحتاج إلى وساطة إقليمية عاجلة

7