شعراء إسرائيليون يؤسسون لخطاب الشرقية الجديدة ما بعد الصهيونية

تظل الدراسات النقدية التي تتناول الأدب العبري وقضاياه واتجاهاته الفنية نادرة في المكتبة النقدية العربية، على الرغم من الأهمية التي يمكن أن يشكلها هذا التناول في كشف ما يعتمل داخل الذات الإسرائيلية سواء بالنسبة إلى الرؤى والمواقف الخاصة بالداخل أو الخارج العربي خاصة، ومن هنا تأتي أهمية كتاب الناقدة المصرية ناهد راحيل “تفكيك النص.. قراءة ثقافية في الخطاب الشعري الإسرائيلي”.
يعتبر كتاب “تفكيك النص.. قراءة ثقافية في الخطاب الشعري الإسرائيلي” للناقدة ناهد راحيل دراسة تطبيقية تحليليلة لجانب مهم من المشهد الشعري الإسرائيلي وهو ما أطلقت عليه المرحلة الفلسطينية.
تقول راحيل إن الأدب العبري الحديث هو ذلك الأدب الذي كُتب بالعبرية في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وتميز بنزعته العلمانية التي هدفت بالأساس إلى تثقيف الجماعات اليهودية في أوروبا؛ ومن ثم تشابه شكلا ومضمونا مع الآداب الأوروبية. وهذا الطابع العلماني الذي ميز الأدب العبري الحديث جاء متوافقا مع الظرف الثقافي الذي نشأ فيه داخل المجتمع الأوروبي. إلا أن الطابع الديني وجد طريقه أيضا للأدب العبري؛ حيث لا يمكن الحديث عن علاقة أحادية تجاه النص الديني الذي وجد الأدباء فيه المحكي الأدبي الأول.
تفكيك السردية الكبرى

الأدب العبري
تشير الناقدة في كتابها، الصادر عن دار خطوط وظلال الأردنية، إلى أن الأدب العبري في العصر الحديث ارتبط بشكل كبير بالوعي التاريخي وأيديولوجياته المعقدة التي رافقت مهاده الأوروبي الأول في القرن الثامن عشر، ثم صعوده المستمر مع السيطرة الإمبريالية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر، وارتبطت حركة النقد الأدبي كذلك بمفهوم الحداثة وما يفرضه من صعود لتيارات أو مذاهب أدبية اتخذت من الأيديولوجية والأفكار الشمولية ومبادئ العقلنة بطانة لها؛ وهو ما يفسر اهتمام الاتجاهات الأدبية حينها بخصائص التنوير مثل الاتكاء على قدرات العقل الإنساني وأصالة الإنسان، والتأكيد على مفاهيم مثل التقدم والتطور والطبيعة والتجارب المباشرة.
ومن هنا ارتبط بروز الوعي التاريخي الذي يمثل السمة الأساسية الفارقة بين العصر الحديث والعصور القديمة بالتيار الرومانسي في الأدب؛ فكانت الرومانسية هي التي تبلور وعي الإنسان بالزمن وتصوره للتاريخ وتوضح أفكار الارتقاء والتطور، لذلك ارتبطت الرومانسية بالطاقة الثورية وبإرادة التغيير والتمرد على المسلمات، لتظهر مقولة الحتمية التاريخية التي اعتمدت عليها الماركسية ليصبح التاريخ ضرورة حتمية وليس مجرد احتمال يمكن التخلي عنه.
وترى راحيل أن هذا يفسر ظهور المد القومي الأوروبي وضرورة البحث عن الجذور، واهتمام الجماعات اليهودية بالتبعية للأفكار ذاتها وتأثرها بالنسق الثقافي والشرط الأدبي المحيط، ليبدأ الأدب العبري الحديث التعاطي مع الأفكار نفسها وتوظيف التيارات والمذاهب ذاتها لخدمة أهدافه الخاصة، وهو ما يفسر كذلك ارتباط الاستشراق في مرحلته الاستعمارية بالحركة الرومانسية الغربية واهتمام الغرب بدراسة الشرق واستعماره، لهذا نجد أن بداية التواطؤ بين المؤسسة الاستعمارية والمؤسسة الاستشراقية بدأ في القرن التاسع عشر.
وفي الفترة ذاتها يظهر مفهوم الالتزام في الأدب الذي يعود إلى أدبيات المذهب الواقعي الاشتراكي ـ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ـ وينتشر بمعناه الاصطلاحي الحديث على يد المفكر الوجودي جان بول سارتر، الذي يعني التزام الأديب بقضايا مجتمعه في صراعاته الداخلية والخارجية.
وظهر ما يمكن تسميته بالأدب المجند أو الأدب الملتزم الذي يؤكد على ارتباط الأدب ببنى المجتمع، وعلى كون الأدب رسالة اجتماعية وليس تعبيرا جماليا فقط، وهو ما صاحب النتاج الأدبي العبري في المرحلة الفلسطينية وحتى بداية إقامة الدولة عام 1948، لتتبلور الواقعية النقدية بعد الحرب العالمية الثانية ومنتصف الخمسينات من القرن العشرين، وينتقل الحديث عن الأدب الإسرائيلي، حيث انتقال مركز الأدب العبري داخل الشرق الأوسط مع احتفاظ المؤسسين بالشعور بالتفوق المعرفي المستمد من المركزية الأوروبية.
ما بعد الصهيونية هو الخطاب الطبيعي والمتسق مع المرحلة الجديدة بعد أن قامت الصهيونية بدورها في إقامة الدولة
وتحاول راحيل عبر فصول كتابها الوقوف على أهم القضايا الفكرية وآليات الكتابة الفنية في الأدب العبري في المرحلة الإسرائيلية؛ تلك المرحلة التي تحددت تاريخيا بالنكبة الفلسطينية وقيام دولة الكيان الإسرائيلي عام 1948، وعاصرت مرحلة ما بعد الحداثة وتفكيكها لمقولات الحداثة ونشأة خطابات “الما بعد” التي قامت على التعدد الهوياتي والتشكك والاختلاف الثقافي واللامركزية النصية.
وقد نشأ جيل من الأدباء الذين اهتموا بالتجربة الإسرائيلية، وارتكزت أعمالهم بشكل أساسي على بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين، وحاولوا في البدابة تصحيح أخطاء المجتمع الإسرائيلي، والعمل من أجل إرساء القيم التي يؤمن بها الأدباء وبقدرتها على جعل المجتمع أكثر إنسانية ومساواة وديمقراطية وأخلاقية. ثم اتجه أغلبهم للخطاب ما بعد الصهيوني الذي ارتكز على مقولات المؤرخين الجدد، واهتم هذا الخطاب في الأساس بطرد الخطاب الصهيوني من التاريخ الإنساني لارتباطه الواضح بسياقات الإمبريالية والكولونيالية والعرقية، ومن الممكن تناول خطاب ما بعد الصهيونية أو تعريفه نظريا وفق أربعة مداخل قرائية مختلفة تتحدد في مقاربات ما بعد الأيديولوجية، وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية وأخيرا ما بعد الماركسية .
وتقول راحيل “وفق المقاربة ما بعد الأيديولوجية؛ فإن ما بعد الصهيونية هو الخطاب الطبيعي والمتسق مع المرحلة الجديدة بعد أن قامت الصهيونية بدورها في إقامة الدولة؛ ومن ثم أصبح ينظر إلى الصهيونية باعتبارها ‘عائقا’ في سبيل ذلك. أما مقاربات ما بعد الحداثة التي رأت في القوميات وسيلة قمع وعملت على تفكيك خطاب الحداثة الذي يدعم المد القومي ودمج الهويات في هوية واحدة مركزية”.
فما بعد الصهيونية وفقا لها هي الاعتراف الذي يفكك السردية الكبرى للتاريخ وللهوية وتتبنى خطاب التعددية واللاتجانس الهوياتي. وتستوعب المقاربة ما بعد الكولونيالية الطرحين السابقين؛ فما بعد الحداثة هو الخطاب المعرفي الذي تتبناه ما بعد الكولونيالية، وإذا كانت ما بعد الحداثة هو قراءة للمشروع الحداثي الغربي، فيمكن اعتبار ما بعد الكولونيالية “ما بعد حداثة الأقليات” التي تسعى لاستعادة مكانة المهمشين المسلوبة.
الشرقية الجديدة

تقف راحيل في الفصل الأول من الكتاب “شعرية العتبات، قراءة في النص الموازي لشعر دافيد أفيدان” على فكرة المساءلة التاريخية للمشروع الصهيوني، من خلال خطاب العتبات والنص الموازي للشاعر دافيد أفيدان (1934- 1995) الذي هيمنت عليه النظرة الأبوكاليبسية، والذي ينبئ بحتمية المصير العدمي والنهاية المأساوية التي تنتظر دولة “إسرائيل” التي فشلت في تحقيق أحد أهدافها المتمثل في جمع المنافي ومن ثم تحولها إلى منفى جديد.
وقد شهد مشروع أفيدان الشعري تحولات فكرية واضحة؛ فهو ينتمي لـ”جيل الدولة” ذلك الجيل الذي بدأ الكتابة في بداية الخمسينات من القرن الماضي بعد إعلان إقامة “دولة إسرائيل”، ثم انفصل عن فكرة الجماعية بصورتها المباشرة التي سادت الخطاب الأدبي قبل قيام الدولة، واتجه للتعبير عن همومه الفردية الذاتية متمردا على ثوابت المشروع الصهيوني ومسلماته.
وتسجل في الفصل الثاني بعنوان “كتابة الذات بين التشكيل والتلقي” انصراف بعض الشعراء عن الواقع الإسرائيلي والانشغال بتشكيل الذات، من خلال ديوان “هذه هي الحمامة” للشاعرة يونا فولاخ (1944- 1985) التي سبب لها وفاة الأب في حرب 1948 حالة من الاغتراب عن المجتمع، فعبرت عن أناها الفردية بعيدا الأنا الجمعية التي انشغل بها الأدب في ذلك الوقت وفق مقاربات النسوية وما بعدها. ولجأت فولاخ إلى توظيف شخصيات نسائية بوصفها نماذج مطابقة لها، تحيل عليها أفعالها وتحملها بأفكارها الخاصة عن القضايا التي تشغلها، إلى جانب بعض الشخصيات الذكورية المستمدة من العهد القديم مثل: يوناتان وأبشالوم التي مثلت لديها معاني المعاناة والتمرد.
الكتاب يحاول عبر فصوله الوقوف على أهم القضايا الفكرية وآليات الكتابة الفنية في الأدب العبري في المرحلة الإسرائيلية
وتبحث راحيل في “علاقات التفاعل النصي وآلياته” عبر ثالث فصول كتابها، وتفكك خطاب الشعراء من يهود الشرق الذين اهتموا بتمثل الذات بعيدا عن الخطاب الصهيوني الذي احتكر سرد تاريخهم، فجاء بمثابة سردية صغرى مقابل السردية الكبرى التي عمدت إلى تهميشهم الثقافي، وذلك من خلال ديوان “قصائد إلى أسرى السجون” للشاعر العراقي الأصل ألموج بيهار (1978)، الذي اعتمد على مقاربات ما بعد الكولونيالية، لتصبح ما بعد الصهيونية لديه خطاب “الشرقية الجديدة” الذي يرى في المشروع القومي مشروعا استعماريا استشراقيا عنصريا.
وتختم راحيل كتابها بفصل “الجنسانية وخطاب المثلية مفهوم الاختلاف وخطاب ما بعد الهوياتية الجنسية” من خلال الخطاب الشعري للشاعر إيلان شينفلد (1960)، ففي سبعينات القرن العشرن تعاظم الاهتمام بالاتجاه الجندري وظهرت سردية -شعرية موازية للسرد القيمي مثل الشعر المثلي الذي عرض خلاله أصحاب الهويات الجنسية اللانمطية تجاربهم الخاصة. وقد قدّم خطاب المثلية لدى الشاعر إيلان شينفلد طرحًا مغايرًا عن أصحاب الهويات الجنسانية المختلفة، ومثّلهم في علاقات محورية في ما بينهم بلغة صادمة لا تنتمي إلى متطلبات المجتمع الثقافية ولا تفي بتوقعاته.
وتؤكد راحيل أن تلك الاتجاهات ما بعد الحداثية، والتي عملت على اتساع المنظور التفكيكي للأدبيات العبرية وللمحددات الاجتماعية والثقافية على حد سواء، لم تلغ من الساحة الأدبية والنقدية الاتجاهات الحداثية التي تعنى بتاريخ الجماعات اليهودية، أو الاتجاهات النقدية الاجتماعية للأدب التي تهتم برصد الظواهر الاجتماعية وأثرها في الأدب، وبتتبع العلاقة بين الأبنية الاجتماعية والأنبية الثقافية والإبداعية بما يعرف بسوسيولوجيا الأدب أو علم اجتماع الأدب.
وتقر بأن الصهيونية لم تفقد وجودها بعد توسع خطابات ما بعد الصهيوينة التي وجدت السياق الثقافي الراهن ملائما لها، فهناك العديد من السرود التي يتنبى أصحابها الفكر الصهيوني ويدعون له، عبر استدعاءاتها الواضحة لأحداث تاريخ اليهود بسياقاته المختلفة وإسقاطها على واقع المجتمع الإسرائيلي؛ إما لإعادة تفسير تلك الأحداث من جديد في نسق حداثي، أو لفهم هذا الواقع العصري كامتداد حتمي للأحداث الفائتة، وقد وجدت تلك السرود نصها الشارح الذي يعزز من أفكارها.