شتاد بارك… لا تسألك من أين أتيت بل كيف تشعر

لا تخلو المدن من الحدائق العامة، فلكل حديقة حكاية وغاية، لكن الأهم بينها هي تلك المفتوحة للعموم، إذ تحكي قصصهم وتتأثر بأفعالهم ومرورهم، سواء سلبا أو إيجابا. فحدائق المدن تنمو أو يقع تخريبها، لكنها أبدا لا تتراجع عن وظيفتها في تذكير الإنسان بانتمائه إلى الأرض، وفي منح نفسها له، وهنا نستحضر واحدة من أهم الحدائق وأشهرها في أوروبا، إنها حديقة شتاد بارك في النمسا.
في فيينا، المدينة التي تعزف فيها الأرصفة كما تعزف الكمانات، لا يحتاج الزائر إلى الكثير من الوقت ليكتشف أن الحياة هنا تروى كما تروى القصص؛ بالموسيقى، وبالحذر، وبالضوء الذي لا يعلو صوته. وحدها مدينة بهذا العمق بإمكانها أن تضع جذرا أخضر في قلب الحجر، أن تزرع سكينة في منتصف الحركة، وأن تهدي سكانها – وكل من عبرها – حديقة ليست مجرد مساحة خضراء، بل جزء من هويتها النفسية.
تلك هي شتاد بارك (Stadtpark)، أي “حديقة المدينة”، والتي ربما لا يوجد اسم أكثر تواضعا منه، ولكن لا وجود لأكثر صدقا منه أيضا.
نشأت الحديقة في عام 1862، في ذروة زمن إمبراطوري كانت فيه فيينا تتقلب بين مجد الحكم وثقل التحول المدني.
مكان خصب للديمقراطية
حديقة شتاد بارك ليست فقط عن "المكان"، بل عن "الزمن أيضا"، زمن شخصي يعيشه كل زائر على طريقته
على ضفاف نهر فيينا، وفي موقع غمره الجليد ذات يوم، ولدت الحديقة وفق تصميم على النمط الإنجليزي للمناظر الطبيعية، بتوقيع الرسام والمخطط جوزيف سيليني، وتنفيذ البستاني الشهير رودولف سيبيك، لتكون لا مجرد زخرفة معمارية، بل هدية ملموسة من المدينة إلى شعبها؛ مكانا للتنفس، للتأمل، وللتلاقي. وهذا ما جعلها منذ نشأتها الأولى متفردة: حديقة ولدت لا لتخدم البلاط، بل الإنسان.
لم تنحصر الحديقة على النخب ولا نسجت لطبقة بعينها، بل كانت، ولا تزال، أحد أكثر الأماكن ديمقراطية في المدينة: حيث يلتقي الكل على قدم المساواة، بلا فروقات حادة، وتذوب الهويات كافة في هدوء الأعشاب.
تتمدد شتاد بارك على مساحة تقارب 96 ألف متر مربع، تتوزع على شطري مدينة فيينا: إنير شتات (المنطقة الأولى)، ولاند شتراسه (المنطقة الثالثة)، كما لو كانت جسرا داخليا بين القلب النابض والمحيط الحيوي. وتقع على مرمى حجر من شارع رينغ شتراسه الشهير، وتحديدا بين Wien Mitte وHeumarkt، حيث تمر خطوط المترو (U-Bahn)، والقطار السريع (S-Bahn)، والترام، ما يجعلها واحدة من أكثر الحدائق وصولا وسهولة من كافة أنحاء المدينة.
وربما كان هذا الوصول السهل ما جعل الحديقة ليست مجرد وجهة، بل ممرا يوميا للعديد من السكان؛ الموظفون يقطعونها في استراحة الغداء، الطلاب يدرسون على عشبها، الرياضيون يركضون في مساراتها، والمشردون يجدون فيها ما يشبه الحضن الأخير. أما السياح، فلا يمكنهم مغادرة فيينا دون صورة أمام تمثال يوهان شتراوس الذهبي الذي يتوسط الحديقة، عازفا على الكمان، كما لو أنه يستدرج لحنا لا يسمعه إلا من يعاني من فائض الشعور.
هنا، في هذا المكان، يلتقي ما يبدو متناقضا في أي مكان آخر: عائلات، عشاق، طلاب، فقراء، أثرياء، مراقبو طيور، هواة موسيقى، حتى من يحتجون من أجل المناخ. الجميع يمر من هنا، كما لو أن الحديقة قررت أن تكون أرضا محايدة داخل المدينة، بل داخل الإنسان.
ليست شتاد بارك مجرد مروج وزهور، بل هي نسيج من الصور المتعددة التي تكتبها المدينة كل يوم. في البركة الوسطى، تسبح النوارس ذات الرأس الأسود، وتتمايل طيور البجع كما لو كانت تمثل مقطوعة باليه على صفحة الماء. وفي المساء، عندما تخفت الشمس، تصبح الحديقة عالما موازيا؛ الظلال تطول، الموسيقى تنبعث من “كورسالون”، وأصوات الخطى تتحول إلى نوع من اللغة الداخلية.
مدينة مصغرة
أكثر من ألف شجرة تقف هنا منذ عقود، منها ما هو نادر: شجرة الباغودا اليابانية، شجرة الجوز القوقازي، أشجار ماغنوليا عمرها يناهز أعمار من زرعوها. هذه ليست مجرد نباتات، بل كائنات شاهدة، تحمل ذاكرة الناس، تحمي صمت من جلسوا تحتها، وتمتص كل ما لم يقل.
حتى الشقوق في الحجر، حتى الجزء الجنوبي الشرقي المتداعي من الحديقة، له دور. هو ليس “خرابا” بل وجه آخر للزمن. بعض التماثيل مكسورة، بعض الكرات الحجرية خدشت، ولكن هذا التآكل ليس نقيصة، بل شهادة على صدق الحديقة وصبرها، على أنها – مثلنا تماما – عاشت، تعبت، لكنها لم تنكسر.
لو اكتفينا برؤية شتاد بارك كمنتزه، لفاتنا عمقها الحقيقي. فهي ليست فقط مكانا للترفيه أو للهروب من الحرارة، إنها مكان يعيد ترتيب الداخل. في عالم يتسارع كل لحظة، تصر الحديقة على الإبطاء: على أن تستعيد العلاقة القديمة بين الإنسان والأرض، بين الصمت والفهم، بين التلقائية والحقيقة.
إنها المكان الذي يمكن فيه للإنسان أن يستعيد نفسه: أن يفكر، أو لا يفكر، أن يبكي دون أن يسأل لماذا، أن يقرأ، أن يراقب طائرا دون هدف، أن يبطئ خطواته ويصغي إلى لحن لا يأتي من الخارج.
وقديما، قيل إن الإنسان يختار أصدقاءه، لكن الأشجار تختار من يستحق ظلها. في شتاد بارك، هذه المقولة تعني الكثير، لأنك لا تشعر بالضياع هنا، حتى لو لم تكن من أهل فيينا. الحديقة لا تسألك من أين أتيت، بل كيف تشعر. تحتضنك ببساطة، دون ادعاء، دون مواعظ. وهذا، في زمن ترمى فيه الكلمات بكثرة، هبة لا تثمن.
تبدو الحديقة وكأنها مدينة مصغرة، فيها كل شيء: الحركة، السكون، الإبداع، التعب. فيها ملعب كرة سلة، ومساحات للتأمل، وأماكن للأطفال، ومقاعد للعشاق، وأركان مظللة للمتقاعدين. فيها الكلمة التي لم تكتب بعد، والقرار الذي لم يتخذ، والأمل الذي يبحث عن سياق.
قصيدة مفتوحة
في المساء، عندما تضاء مصابيح “الكورسالون” وتبدأ نوتات الأوركسترا بالصعود في الهواء، يتحول المكان إلى حج داخلي إلى الجمال. لا لشيء معين، بل لأنه موجود، ببساطة، بلا شروط، وبلا تصنع. الموسيقى تنبعث، الشجر ينصت، والناس يصمتون كما لو كانوا في حضرة قدسية.
ربما تختصر قيمة شتاد بارك في كونها ليست مكانا للزيارة، بل مكان للسكنى النفسية. تدخلها مرة، لكنها لا تخرج منك بسهولة. مكان يذكرك بأنك ما زلت إنسانا يمكنه الجلوس دون غاية، الاستماع دون أن يتكلم، التأمل دون أن يهرب.
في زمن يقيس فيه العالم النجاح بالسرعة، تبدو هذه الحديقة كأم قديمة تهمس لابنها “توقف قليلا، لا بأس أن تبطئ، أن تتعب، أن تفكر”.
ليست الحديقة فقط مكانا للترفيه والهروب من الحرارة، إنها مكان يعيد ترتيب الداخل في عالم يتسارع كل لحظة
وهذا ما يجعلها في نهاية المطاف أكثر من معلم سياحي. إنها قصيدة مفتوحة، لا تقرأ بكلمات، بل تعاش.
ولعل هذا بالضبط ما يجعلها حديقة لا تنسى، ليس لأنها “الأجمل”، بل لأنها تشبهك أكثر مما تشبه الصور.
واللافت أن حديقة شتاد بارك ليست فقط عن “المكان”، بل عن “الزمن أيضا”؛ زمن شخصي يعيشه كل زائر على طريقته. يدخل الناس الحديقة بأسباب كثيرة، لكنهم جميعا يخرجون منها بشيء جديد: فكرة، هدوء، قرار، أو حتى مجرد تنفس عميق بعد أيام من الركض خلف لا شيء.
هنا، تمارس الحديقة وظيفتها الأعمق: ليست متنزها، بل معبرا نفسيا. ليست ملاذا من الزحام، بل مساحة مواجهة صامتة مع الذات. مكان لا يحكمك فيه شيء، بل يحتضنك بما فيك. تشرب القهوة، تقرأ، تصغي، تستلقي، تمشي، تفكر… والأهم: تتذكر أنك ما زلت إنسانا، في عالم ينسى ذلك كثيرا.