شبح مسعود أوزيل يطارد الألمان في الملاعب وخارجها

غادر المنتخب الألماني المونديال، مبكرا، رغم فوزه أمام كوستاريكا، لتتحول بطولة كأس العالم هذه إلى النسخة الأسوأ في تاريخه. إلا أن شبح نجم المنتخب الألماني السابق مسعود أوزيل ظلّ يطارد لاعبيه وإدارييه حتى آخر لحظة لهم على أرض الملعب، معيداً فتح جدل واسع حول الهوية والعنصرية داخل العملاق الاقتصادي الأوروبي.
برلين - تعرّض المنتخب الألماني لانتقادات حادة بسبب إدانته المنفردة لسجل قطر في مجال حقوق الإنسان، فقبل مباراة الـ23 من نوفمبر ضد اليابان، قرر أعضاء الفريق تكميم أفواههم احتجاجا على قاعدة في الدقيقة الأخيرة تنص على أن الذين يرتدون شارة لدعم حقوق مجتمع الميم، كما خطط حارس المرمى الألماني مانويل نوير، سيُعاقبون ببطاقة صفراء. وبدلا من ذلك، ارتدت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر شارة “حب واحد” للتعبير عن دعمها للمثليين أثناء جلوسها بجوار رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم ”فيفا“ السويسري جياني إنفانتينو، وفقاً لأليسون ميكيم في دورية ”فورين بوليسي”.
وقد انتقد المقاطعون لقطر والمدافعون عنها على حد سواء صورة المنتخب الذي غطى أفراده أفواههم. وكتب أحد المعلّقين الألمان أن الحركة كانت محرجة. وكان التوقيت محرجا أيضا، حيث جاء في الوقت الذي انتهت فيه حكومة نانسي فيزر من صفقة الغاز الطبيعي المسال مع قطر.
وتساءل آخرون عمّا إذا كانت خطوة ألمانيا قد غذّت أداءها الكارثي من خلال تشتيت انتباه اللاعبين عن المباراة الحالية. واتهمت مجموعة ناشئة موقف البلاد المناهض للتمييز بالنفاق، مستشهدة بما شهده اللاعب السابق مسعود أوزيل الذي استقال من المنتخب الألماني في 2018 بعد أن واجه حملة انتقادات بسبب أدائه في كأس العالم في ذلك العام. بينما اعتبر أوزيل أن تلك الانتقادات نشأت عن دوافع عنصرية وقال إنه لم يعد يريد تمثيل دولة لا تحترمه.
أوزيل استقال من المنتخب الألماني عام 2018 بعد أن اشتكى من العنصرية، معلنا أنه لم يعد يريد تمثيل دولة لا تحترمه
ورفع بعض المشجّعين، خلال مباراة ألمانيا ضد إسبانيا، صورا لأوزيل وهم يغطّون أفواههم بأيديهم. وليس من الواضح ما إذا كانوا قد قرروا ذلك بشكل مستقل أم أنه عمل أوسع نظمه المسؤولون القطريون، أو ربما كان الأمر مزيجا من الاحتمالين. ومع ذلك، لاقت الخطوة دعما حقيقيا من العديد من المراقبين، لاسيما في العالم الإسلامي.
إخفاقات ألمانيا التاريخية في كأس العالم 2018 أصبحت صدمة دائمة للكثيرين بسبب كيفية تصاعد الأحداث بمجرد وصول الفريق إلى الوطن. حيث تلا ذلك تبادل إلقاء اللوم بين المشجعين والنقاد وقيادة المنتخب الألماني لكرة القدم، وتم التركيز، على عجل، على أداء أوزيل كمصدر لمشاكل المنتخب بغض النظر عن كونه بطل العالم الذي خلق سبع فرص قياسية خلال مباراة ألمانيا ضد كوريا الجنوبية، دون أن يستغلها زملاؤه في الفريق.
وكان هؤلاء غاضبين حتى قبل البطولة. ففي مايو 2018، التقى أوزيل، وهو ألماني - تركي ومسلم متدين، بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لندن قبل شهر واحد فقط من سباق تركيا الانتخابي. وحضر اللقاء اللاعب التركي الألماني إلكاي غوندوغان. وأهدى اللاعبان قمصان فريقيهما لأردوغان والتقطا صورا أحدثت ضجة في ألمانيا.
وأدان المنتخب اللقاء قائلا إن “الاتحاد الألماني لكرة القدم يمثل القيم التي لا يحترمها أردوغان بشكل كافٍ”. وعاد الاتحاد إلى هذه النغمة بعد كأس العالم. وقال أوليفر بيرهوف، مدير فريق الاتحاد الألماني لكرة القدم، إن ألمانيا “كان ينبغي أن تفكر في التخلي عن أوزيل” بعد صورة أردوغان، مما يعني أنها قلّلت بطريقة مّا ولاءه لألمانيا.
استحوذ الغضب من أوزيل على الجمهور الألماني. وبدا الدفاع عنه من المحرّمات تقريبا حيث أمكن تفسير ذلك على أنه تأييد لأردوغان وسياساته الاستبدادية. وكانت المناقشة الوطنية تفتقر تماما إلى التوازن.
أعلن أوزيل استقالته من المنتخب على وسائل التواصل الاجتماعي، وكتب قائلاً إن “الناس استخدموا صورتي مع الرئيس أردوغان كفرصة للتعبير عن ميولهم العنصرية التي كانت مخفية سابقا”. وتساءل لماذا لم يُطلب من زملائه الألمان البولنديين ميروسلاف كلوزه ولوكاس بودولسكي التحدث عن وارسو. وأشار إلى أن قائد منتخب ألمانيا السابق لوثار ماتيوس، وهو أبيض اللون، لم يواجه انتقادات كثيرة بعد أن التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال البطولة التي استضافتها روسيا.
وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير، كانت علاقات القادة الألمان مع موسكو ودية بشكل عام، وإن كانت متوترة في بعض الأحيان. وتمتع المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر بعلاقات ودية شهيرة مع بوتين وأردوغان، لكنه لم يواجه ردود فعل عنيفة على نطاق واسع حتى هذا العام. ومع ذلك، رفض الحزب الاشتراكي الديمقراطي طرده من صفوفه.
قال أوزيل “أنا ألماني عندما نفوز، لكنّني مهاجر عندما نخسر”. وأصبح منذ ذلك الحين، وهو أيضا صريح في دعمه للفلسطينيين والإيغور، إلى حد مّا شخصية مقاومة بطولية في معظم أنحاء العالم الإسلامي.
هكذا عاقبت الدولة الأوروبية التي تشكّل ديمقراطية تمثيلية اللاعب المهاجر لفشله في اتباع خطها السياسي.
وترتبط تجربة أوزيل بالعنصرية في ألمانيا ارتباطا وثيقا بقوانين الجنسية القديمة في البلاد. وهو ينتمي إلى أكبر أقلية عرقية في ألمانيا، فقد وقّعت تركيا وألمانيا الغربية اتفاقية العمالة المهاجرة في العام 1961، وكان جد أوزيل من بين المستفيدين. وأصبحت ألمانيا اليوم موطنا لحوالي 3 إلى 4 ملايين شخص من أصل تركي.
أهمل السياسيون الاعتراف بالتعددية الثقافية الناشئة في البلاد، وحُرم الألمان الأتراك من الحصول على الجنسية، ولم يساعد كونهم مسلمين بأغلبية ساحقة مسعاهم. وأخبر المستشار السابق هيلموت كول نظيرته البريطانية، مارغريت ثاتشر، أن ليس لديه مشكلة مع المهاجرين الأوروبيين ولكن “الأتراك يأتون من ثقافة مختلفة”.
ولم تفتح ألمانيا طريقا للحصول على الجنسية للألمان غير العرقيين الذين عاشوا في البلاد لمدة 15 عاما على الأقل حتى التسعينات. وقد تقرّر مؤخراً تخفيض هذا الشرط إلى ثماني سنوات لمن تتراوح أعمارهم بين 16 و23 عاما. وكتبت فيردا أتامان التي تشغل الآن منصب المفوضة الفيدرالية لمكافحة التمييز في الحكومة الألمانية “حتى نهاية التسعينات، كنت إما ألمانيا أو أجنبيا”.
وكان على الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني تقديم تنازل لصياغة القانون الجديد للجنسية، بموافقة المحافظين في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الحر، الذين أكدوا أن السماح للألمان المتجنسين أو المستفيدين من قانون المواطنة بالحفاظ على جنسيتهم السابقة كان “عملا استفزازيا” يمكن أن يخلق فئة جديدة.
وغالبا ما كانت معارضة ذلك عنصرية صريحة، فقد أطلق الاتحاد الديمقراطي المسيحي التماسا ضد ازدواج الجنسية حصل على 5 ملايين توقيع، ثم وجّه حكومة الحزب الديمقراطي الاشتراكي والخضر لتضيف بندا ينص على أن الأطفال الذين أصبحوا مواطنين ألمانا بسبب حق المولد ولهم جنسية ثانية يجب أن يختاروا جنسية واحدة عند بلوغ سن الرشد. ولم ينطبق هذا الإجراء على البيض الذين تصادف أنهم مواطنون مزدوجو الجنسية من بلدان أخرى.
تجربة أوزيل ترتبط بالعنصرية في ألمانيا ارتباطا وثيقا بقوانين الجنسية القديمة في البلاد وهو ينتمي إلى أكبر أقلية عرقية في ألمانيا
وكان هذا الإجراء موجها عمليا ضد الألمان الأتراك وغيرهم من المهاجرين المسلمين.
ومن المهم الخوض في هذه التفاصيل القانونية لسببين. الأول هو ارتباطها بقصة أوزيل، حيث ولد بطل كرة القدم في الجيل الثالث من عائلة من أصل ألماني – تركي في العام 1988 وأصبح مواطنا ألمانيا فقط في سن السابعة عشرة. واضطر إلى التخلي عن جواز سفره التركي بعد ذلك بوقت قصير.
وعلى الرغم من أن أوزيل يعيش في إسطنبول مع زوجته التركية، إلا أنه لا يزال يواجه اتهامات بأنه ليس تركيا بما فيه الكفاية.
منذ ذلك الحين، أصبحت ألمانيا تتصالح ببطء مع مجتمعها المهاجر. وتسارعت عملية الانتقال بسبب تدفق اللاجئين في 2015 واستقالة أوزيل.
لقد مثّل رحيل أوزيل ضربة للتماسك الوطني لدرجة أنه أجبر العديد من الألمان البيض على مواجهة حقيقة أن بلادهم لم تكن مرحّبة بالآخر كما كانوا يعتقدون. ووصفت السياسية الفلسطينية الألمانية سوسن شبلي اللحظة بأنها “لائحة اتهام لبلدنا”.
هذا العام، اختار المستشار أولاف شولتس ريم العبالي رادوفان وزيرة دولة برلمانية للهجرة واللاجئين والاندماج، وفي الأسبوع الماضي، أكدت حكومته أن وزارة الداخلية برئاسة نانسي فيزر بصدد صياغة إصلاح جديد للجنسية.
لا يمكن لقانون المواطنة الذي اقترحه شولتس أن يبطل بمفرده الإساءات العنصرية التي واجهها أوزيل وعدد لا يحصى من الألمان من غير البيض، ولكنه يمكن أن يعالج أحد مظالم أوزيل الرئيسية من خلال إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون ألمانيا في مجتمع حديث متعدد الثقافات.